إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

عملاق الادب : الرفيق سعيد تقي الدين

عمدة شؤون عبر الحدود

نسخة للطباعة 2010-05-12

إقرأ ايضاً


نتابع في الحلقة الثالثة ايراد معلومات مفيدة للاطلاع عن سيرة فقيد الأدب الرفيق سعيد تقي الدين نقلاً عن الكتاب الذي أصدرته الأديبة ادفيك جريديني شيبوب بعنوان " سعيد تقي الدين: سيرته وانتاجه ".

هجرته الاولى الى الفلبين :

في 9 ايلول 1925، ابحر سعيد، برفقة عميه: الدكتور نجيب وفؤاد الى جزر الفلبين في الشرق الاقصى. يحدثنا الذين عرفوا سعيداً ورافقوه في تلك المرحلة من حياته، ان اول جولة له كانت في جزيرة " سيبوه "، حيث كان للدكتور نجيب بيت وعقارات وأملاك، كما ورد لدى الكلام عليه. وهكذا لم تمض أسابيع، حتى أسس سعيد، بالاشتراك مع عمه فؤاد، وبمساعدة الدكتور نجيب، شركة تجارية، اتخذت مقرها في سيبوه، وكانت تستخدم المراكب الصغيرة تتجول فيها بين الجزر الكثيرة حول سيبوه، تعرض فيها مساطر من البضائع على التجار وتسجل طلباتهم، لتعود وتشحنها فيما بعد. وقد لزم فؤاد سيبوه على الغالب، وكان نصيب سعيد التنقل بمركبه، بين الجزر، واجراء الاتصالات مع التجار. اما نوعية البضائع فكانت من الاقمشة.

ويحدثنا فؤاد جريديني، الذي كان صديقه في تلك الحقبة، كيف كان سعيد فوّار العزيمة محباًَ للشغل، لا يتذمر ولا يعرف التعب. لكنه كان محباً للمغامرة، يتاجر بوحيها، لا على ضوء التحسب والاختبار ... ثم ان المضاربة كانت شديدة في سيبوه، لذا يبدو، ان جهود سعيد لم تكلل بالنجاح، وكفاحه ذهب سدى. لأننا نعرف من الروايات المتطابقة، انه بعد ست سنين من التعامل الواسع مع تجار سيبوه والجزر المحيطة بها، أعلن افلاسه، وانتقل الى مدينة " دافاو "، في جزيرة مندناي، وهي جزيرة سكانها مسلمون.

قبل مغادرة سيبوه، عام 1931، وسعيد عامذاك في السابعة والعشرين من عمره، احب بياتريس جوزف وتزوجها، وهي مسيحية، ابوها توماس جوزف من اصل عراقي ( موصلي )، وكان تاجراً في سيبوه، وامها نجيبة باصيلا من زحلة، وتؤكد احدى صديقات العائلة، بأن والدة بياتريس كانت امرأة فاضلة ومحافظة، ربت اولادها على الصلاح ووفرت لهم قسطاً جيداً من الثقافة، وان بياتريس كانت تتردد الى مدرسة للراهبات، وتعزف على البيانو ببراعة، وتغني بصوت شجي مقاطع من الاوبرا.

وهكذا، كما سبق واشرنا، انتقل سعيد، بعد زواجه، من سيبوه الى دافاو، وبدأ عمله هناك بافتتاح محل تجاري للبيع. ويحدثنا بطرس عواد، ان سعيداً كان دائم الاقامة في المحل بدافاو، وكان يرسله هو ( اي عواد ) الى مانيلا لشراء الطلبيات وشحنها الى الجزيرة، مرة كل ثلاثة أشهر.

وفضلاً عن المحل التجاري، افتتح سعيد في دافاو محطة للبنزين، ومن ايرادها، وارباح المحل، استطاع ان يعدل وضعه المالي ويفي ديونه من تفليسة سيبوه .

وفي سنة 1936، رغب سعيد في الانتقال الى مانيلا. ربما شعر ان تقدمه يسير سيراً بطيئاً. ويخبرنا فؤاد جريديني انه هو الذي كان قد سبقه الى العاصمة ورغبةً في اللحاق به. وهكذا صفى سعيد المحل، تاركاً بطرس عواد فيه، ومع زوجته وطفلته ديانا التي ولدت عام 1933 ولم يرزق غيرها، انتقل سعيد الى مانيلا حيث مجالات التجارة والمغامرة اوسع.

يخبرنا اصحابه الذين تتبعوا خطاه في مانيلا، من قريب او بعيد، ان سعيداً تشارك مع مواطن ثان في انشاء محل تجاري، لكن الحظ هنا ايضاً لم يؤاته. ثم جرب حظه بالبورصة واشترى اسهماً فيها، فسقطت الاسهم، وكانت خسارة سعيد الفادحة سبباً في اعلان افلاسه الثاني، الذي نزل عليه ضربةً شديدة، الى درجة ان حدثته نفسه بالانتحار، لكن يخبرنا بعض العارفين، انه جاء من توسط له لدى كامل حمادة، وهو زوج السيدة وديعة الجميل ( سابقاً )، صاحبة شركة " حنا الجميل وشركاه " للتجارة وبيع الاراضي والاسهم. وكان كامل حمادة رئيساً لمجلس ادارة الشركة، فرحب بانضمام سعيد اليهم، وسلمه مسؤولية فرع الاقمشة، فصار سعيد، بما له من خبرة في هذا الصنف، ومعرفة جيدة بالانكليزية يستورد البضائع من الولايات المتحدة الاميركية، فانتعش العمل على يديه، ولاقى ازدهاراً ملحوظاً حتى بدء الحرب عام 1941.

يخبرنا الجريديني ان سعيداً اشترى بيتاً في مانيلا، وبدأ يتمتع بشيء من الاستقرار، حتى اذا دخلها اليابانيون عام 1942، اعلنها الاميركيون مدينة مفتوحة فأحرقوا مستودعات ذخائرهم الحربية، وشرعوا عنابر الجمارك لمن يشاء من المواطنين، لئلا يستولي عليها اليابانيون، واضحت العاصمة الفلبينية في حالة من الفوضى، فالقي القبض على مئات المواطنين، وبخاصة الذين كانوا يتعاملون مع الاميركيين، وزجوا في سجن " فورت سانتياغو " حيث تعرضوا للتعذيب والتنكيل، وبعضهم لاقى حتفه ... وفي تشرين الاول عام 1942 اشتدت حملة الفوضى والعنف، وسيق الى السجن تباعاً: كامل حمادة، سعد الدين الجارودي، ثم سعيد، الذي امضى في " سانياغو " نيفاً و 53 يوماً .

عندما استتب للاميركيين احتلال مانيلا في شباط عام 1945، رجع سعيد الى العاصمة، وقد كان هارباً مع عائلته، من الغارات اليابانية، في جبال باغيو الكثيفة الغابات. باع بيته، وأنشأ تجارة مستقلة به، مستأنفاً اتصالاته السابقة، مع الشركات الاميركية التي كان يتعامل معها قبل الحرب.

تدل القرائن التي بين ايدينا، على ان سعيداً لم يبلغ الهدف الذي هاجر في سبيله، الا في هذه الحقبة (1945 – 1948).

ويجمع رفقاء غربته الذين حدثونا عنه، بأن تجارته الجديدة عرفت ازدهاراً كبيراً. ومع البحبوحة المادية – حلمه الذهبي – ارتفعت معنوياته وقويت علاقاته مع ذوي السلطة، ومع الناس. وكان من نتائج ذلك ان عينته الحكومة اللبنانية قنصلها الفخري في الفلبين، وكان ذلك في 06 آب 1946، وبنتيجة مساعي الدكتور شارل مالك وزير لبنان المفوض في واشنطن يومذاك. وظل سعيد متولياً هذا المنصب، حسب وثائق وزارة الخارجية اللبنانية، حتى ايار 1949.

يتحدث رفقاء سعيد في مانيلا، بكثير من الحماسة، عما حققه من خدمات وطنية مدة توليه مهام القنصل الفخري للبنان. ويؤيدون ما ذكره هو عن نفسه، من انه استطاع ان يقنع رئيس جمهورية الفلبين، لكونه صديقه الشخصي، بتغيير موقف بلاده في الامم المتحدة من تقسيم فلسطين(1).**

لقد امتدت السفرة اكثر مما شاءها سعيد – اثنين وعشرين سنة ونصفاً(2). الشطر الاهم من عنفوان شبابه سلخه في جزر الفلبين. ويصف سعيد كفاحه هناك فيقول:

" كان سلاحي في كفاحي الشباب والجد والطموح والذكاء. وكانت اعدائي الذكاء والجد والطموح متحالفة مع غدر الايام وغدر الناس، وهوس الشباب وغلو التفاؤل، والاسراف، وائتمان الناس من غير روية، والانحراف في الطموح الى تطلب المليون بالمجازفة بالالوف. فصعدت في عالم التجارة كأني راكب منطاداً، واهويت كأني قافز من طائرة. وانا اليوم اصعد الجبل الف ذراع في اليوم، وازلقه الف ذراع في لحظة. عيناي في الذروة، وقدماي في الوادي، مهشم الجسد، سليم الروح. اعتاض عن نشوة الظفر، بلذة الجهاد والاماني. أهل التجارة يعتقدون اني اديب كبير، وبنو الادب يتوهمون اني تاجر ماهر، وانا واثق ان الاثنين على خطأ وصواب " (3).

هذا، وقد اجمع رفقاء سعيد على انه لم يخلق للتجارة، لأن طموحه يسوقه الى المجازفة التي لا ترتكز على اسس ادارية حكيمة. فقد كان يحكم عاطفته واريحيته في تقرير الصفقات الكبيرة التي يلزمها روية ودراسة وتحسب للعواقب (4).

عودته الى لبنان:

في الثالث من شباط عام 1948 ابحر سعيد مع عائلته عائدين الى لبنان (5). يخبرنا هو، ان رصيده المالي في مصارف نيويورك يومذاك بلغ 228 الف دولار (6). عدا النقد في جيبه ويبلغ نيفاً وثلاثة الاف دولار، وعدا الارساليات التي كانت تزيد عن الثمانية والاربعين الف دولار.

قبل وصوله الى بيروت، مكث في القاهرة نحواً من شهر. ويبدو ان بعض الصحف البيروتية مهدت لقدومه، وبخاصة

" بيروت " و" بيروت المساء ". نظراً لزمالته الجامعية القديمة مع الاستاذين محي الدين النصولي وعبد اللـه المشنوق من جهة، والى مراسلاته الادبية مع الدكتور سهيل ادريس من جهة ثانية.

يخبرنا بعض الذين استقبلوا سعيداً في بيروت، بأنه، لشدة فرحه بالعودة، راح يتفقد اهله ورفقاء الصبا، يستفهم عن احوالهم، ويسعف المحتاجين منهم بكف سخية الى درجة لا تصدق (7). لكن يبدو، ان هذه الخدمات الفردية لم تكن تمنح سعيداً الرضى والاكتفاء. كانت في نفسه، على حد قوله، " فكرة مبهمة عن خدمة عامة أقوم بها، ومن المعقول ان اتعاون فيها مع رفقائي في الجامعة الاميركية، وبعضهم برز في الحياة العامة "(8) .

ومن ذلك ايضاً قوله : " رجعت الى بيروت، وبي تحرق لعمل شيء، وفي نفسي من القوة، ومن بخار الكهرباء، ما لو قذف جبلاً لاوصله الى المريخ " . . " ولو تقدم مني احد حينئذ، مقترحاً انضمامي الى الحزب السوري القومي الاجتماعي لفعلت فوراً. كذا كان قلقي وتوقي لعمل شيء "(9).

في رئاسة جمعية متخرجي الجامعة الاميركية:

بهذه النفسية المتحفزة كان سعيد يدرس الاوضاع ويترقب، واتجه اهتمامه نحو " جمعية متخرجي الجامعة الاميركية "، وقد كانت في حالة من الركود، " ينحصر نشاطها في ملعب التنس، وحفلة شاي مختصرة تقام مرة بالسنة "(10).

يحدثنا بعض المطلعين على الوضع، في تلك الحقبة، بأنه كان بين جمهور المتخرجين امتعاض عام، وتوق الى القفز بالجمعية وجعلها شيئاً فعالاً محترماً (11). وهكذا، عندما رشح سعيد نفسه للرئاسة، واصدر بياناً بالانكليزية، أيده جمهور الشباب المتحمس، وشهدت الجمعية، يوم الانتخاب في 17/12/1948، حركة لا عهد لها بها في الانتخابات السابقة.

امتدت رئاسة سعيد لجمعية المتخرجين، نحواً من ثلاث سنين ونصف، في دورتين متتاليتين، عمل خلالهما بديناميكية، ليدفع عن هذه المؤسسة وصمة الجمود.

وكانت النتيجة ارتفاع مبنى نادي الخريجين. ولم يقلّ ما انفقه الرئيس على النادي، من حسابه الخاص، عن خمسين الف ليرة (12). وتعكس هذه البادرة ناحية من طبيعة سعيد السخية بغير حساب.

وجنباً الى جنب مع تشييد نادي المتخرجين، انصب اهتمام سعيد، مدة ئاسته للجمعية، على مجلة " الكلية " وكانت هي ايضاً تصدر بقوة الاستمرار. ويفسر سعيد اهتمامه قائلاً: انه اراد، بواسطة " الكلية "، ان يستغل اسم الجامعة العالمي. ان يمسك " بآذان الدنيا لتنصت الى صوت العالم العربي المثقف الممثل كل الاقطار والاحزاب والطوائف "(13). لقد اراد المجلة منبراً حراً باللغة الانكليزية، توضح قضية فلسطين وملابساتها، وتدافع عنها امام الرأي العام العالمي. ولقد استطاع سعيد بالفعل ان يحقق بعض ما ارداه للكلية من الانتعاش وسعة الانتشار (14).

1- راجع " انا والتنين "، صفحة 188، وقد أكد الخبر الجريديني وعواد والجارودي والغريب والحلبي جميعاً.

2- من احاديث خاصة مع الجريديني، الجارودي وعواد.

3- راجع " نخب العدو "، صفحة 32.

4- من احاديث خاصة في 30/12/1968، مع الجرديني وعواد والجارودي والغريب والحلبي.

5- راجع " انا والتنين " صفحة 125. وأيد الجريدني ذلك وقد ودعه على المركب.

6- راجع " انا والتنين "، صفحة 125، وقد ايد ذلك، في 12/11/1968، فؤاد الجريديني، وانيس بيبي الذي كان يومذاك مديراً للبنك العربي ببيروت وحسن الاطلاه على اوضاع سعيد المالية.

7- من احاديث خاصة في 28/06/1968، مع ام سعيد واخته اديل واخيه خليل، وكذلك مع سعيد حمادة وأمين خضر.

8- راجع " انا والتنين "، صفحة 125.

9- راجع المصدر نفسه، صفحة 128.

10- راجع " انا والتنين "، صفحة 129. وكذلك من احاديث خاصة في 20/11/1968، مع جبور، بيبي، وسماحة، وفي 15/12/1968، مع محمد شقير، مدير " شركة الاعلانات الشرقية ". وكان عهد ذاك حركة فاعلة في اوساط الجامعة.

11- من احاديث خاصة في 15/02/1969، مع بعض الذين قادوا الحملة الانتخابية: محمد شقير، انيس بيبي، واندريه طابوريان مدير " شركة الطيران الاميركي في الشرق الاوسط ".

12- راجع " انا والتنين "، صفحة 129، وقد أيد ذلك، في 23/08/1968، الدكتور فريد حداد، رئيس جمعية المتخرجين عام 1960، ونقيب الاطباء حالياً.

13- راجع " انا والتنين "، صفحة 129.

14- راجع اعداد " الكلية "، للسنين 1949 – 1952.

ملاحظة: اخترنا من الهوامش أبرزها، دون العديد غيرها، التي لو اوردناها كلها لأخذت مساحة غيرقليلة.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024