الرفيق الشاعر يوسف المسمار(1)
الثـورة فعـل ينبثـق من داخل الانسان لتغيير حال لم يعـد مقـتنعا بصلاحها ،ولا قادرا على تحملها ومعايشتها ،فيثور في اتجاهين لا ثالث لهما : اتجاه يشده الى حال رتيبة سجينة تقاليد وعادات متحجرة لا تـتقبـل أي شيء جـديـد يخـرج عما ألفته من الـرتابة والتحجـر ، فنكـون في هـذه الحال أمـام ثـورة رجعـية مستحـدثة معـصرنة وثـوّار رجعيـين معصرنين حلمهـم الـوحيـد أن يأكلـوا ويشربوا ويناموا ويتثاءبوا في دهاليز الماضي ولا تلذ لهم الحياة الا على أفكار رجعية متحجرة قامت على أساس خرافات القـرون البائـدة ، ولا يستطيبـون العيش الا على تقبيل الأيدي القـذرة في الـداخل والانبطاح تحت نعال الأعداء الغـزاة المستعبدين القادمين من الخارج ، وتنفيذ كل ما يُؤمرون به بحقارة وذل العبيد .والعبيد صنفان تجمعهما ميـزة رفـض الحـق والعـدل : الاول مات ضميـره وانطفأت انسانيته فتغطرس وظلم وأكره الناس على اطاعة نزواته وشهواته ، والثاني خاف الطغاة واستجبن ولم يـواجه الظالمين بـل هم الذين حـركـّوه وثوّروه وأجبروه على الثورة فثارلتلبية منافعهم الخاصة الآنية وكان كالقطيع الذي يسير الى الذبح وفي قناعته انه يسيـر الى النعيم . وليس العـبـد من أسر وكـُبّـل بالاصفاد وبـيع في سوق النخاسة ،بل العبد العبد من كفر بالحق والعدل وظلم واستعبد غيره وباع نفسه لأوهامه ، والعبد العبد أيضا من استجبن وقضى عمره مهانا ذليلا يثوّره الآخرون لنصرة باطل واستبداد ظلم . والاتجاه الآخـر يـدفعه الى الانتـفاض من داخـل على كل رتابة او تحجّـر، والخـروج على المألـوف من العادات والتقاليد والأوضاع الـزريـة ، والانطـلاق بقـوة جبارة تسحـق كـل ما ومن يعـتـرضها ويحاول عـرقلة نهـوضها في سبيـل تحقيق حالة جديدة تقطع كـل علاقـة بما هـو طالح ولا تبقي من الماضي الا على ما هـو صالح وتخلق وضعا صالحا جـديـدا يكـون قاعـدة انطلاق لما هـو أصلح وأجـود وأنفع فتتمكن الأمة من الـوقـوف في وجـه أعـدائها وصد غزواتهم والاستقلال باتخاذ قرار تقرير مصيرها ،وفي تمكنها من صد أعدائها وممارسة سيادتها على نفسها وعلى أرضها ، وتعمل للتعبـيـر عن ارادة شعبها في حيـاة كـريمة لكـل أبنائها ، وتسعى وتناضل من أجل المزيد من حياة التقدم والرقيّ والرفاه فنكون في هـذه الحال أمام ثـورة تقـدمية حـديثة وعصرية وثـوّار تقـدميـين همهم الاقصى رفع مستـوى قيمة الانسان في الحيـاة ورفع قيمة الحياة لتصبح الحياة قيمة القيم السامية التي تـُختصر بوقفة عـز وسمـوّ تكـون للأجيـال الآتـية علامـة بـارزة تشـيـر الى طـريـق النهـوض والجودة التي تصل الأرض بالسماء، والسماء بما فوق السماء .
وأمام هذين النوعين من الثورة : ثورة الانحطاط الرجعية وثورة النهوض التقـدمية تـُكتشف النفـوس الحقيرة والنفـوس العـزيـزة ويتضح الفاصل الكبـير بين أبنـاء الظلمة وأبنـاء النـور ، ويظهـر الفـرق الشاسع بين من انطفأت فيهم الضمائـر والقلوب والعقـول فتقزموا في مفاهيم الانحطاط والغباوة، وبين من تفتحت ضمائرهم وقلوبهم وعقولهم على كل سام وجميل وعزيز فتعملقوا في رحاب الصلاح منارات حـق ٍوخيـر ، وجمال ٍومحبـة ، وعـدالة ٍورحمـة. فيظهر بوضوح الخط الفاصل بين نفسيتين : نفسية العبيد وعبيد العبيد الذين يثورون لتحديث العبودية وتجديد قيودها بدلا من القيود الصدئة البالية التي يمكن التعبـيـر عنها بالجهـل والغباء والرداءة النفسية والانحطـاط الخلقي ، ونفسيـة الحـرائـر والأحرار الـذين يعشقـون الحرية المنبثقة عن الوعي والادراك والتسامي النفسي والرقيّ الاخلاقي . ولكـل من هـذين النوعين من الثـورة منطلقاته وأساليـبه ووسائله وأهدافه المنبثقة من نظرته الى الحياة والكون والفن،ومن فلسفته المنبثقة عن تلك النظرة ، ومن كل ما يصدر عنها من فكر وأدب ، وعـلـوم وفـنـون ، ومباديء ومفاهـيـم ، وسلـوكيات وتصرفـات ، ووسائـل وطـرائـق . وكما تنتج ثـورة النهـوض التقـدمية حـداثـة وعصرنة فكذلك تنتج ثورة الانحطاط الـرجعية حداثة وعصرنة أيضا . لكن شتان ما بين حـداثة وعصرنة ثـورة النهـوض والتقدم وما بين حداثة وعصرنة ثورة الانحطاط والرجعة .فثورة الانحطاط هي ثورة تجديد وتحديث وعصرنة،وثورة النهوض هي أيضا ثورة تجديد وتحديث وعصرنة. لكن هـمّ ُ ثورة الانحطاط والـرجعة تجديد أفكار الخرافات ، وتحـديث المفاسد والمساويء ، وعصرنة المثالـب والموبقـات والارتخاء مع مخـدرات التقـاليـد العـفـنة التي تحبط الهمم وتـفـرض على الانسـان المسكنة والعيش الـذليل . وهمّ ُ ثـورة النهـوض والتقدم نبش زوايا التاريخ المظلمة واكتشاف حكمة الأفكار الجيّـدة وتجديدها وتحـديث القيم النبيلة الفاضلة وعصرنة المفاهيم الـراقـية والاستفادة من كـل شيء جـميـل ،وابـداع وابتكـار كل ما يساعـد الانسان على الصلاح والتطـور والـرقيِّ .
وبقدر ما تكون حداثة ثورة النهوض غـنى وخصوبة وعمل وانتاج ورقيّ ، فان حـداثة ثـورة الانحطاط فـقـر وجفـاف وكسل وتسـكـّع وخمول . وما كـان للغـنى ان يتساوى مع الفـقـر ،ولا للخصوبة ان تتعادل مع الجفاف.ولا للعـمـل والانـتاج مقارنة مع الكسل والتسكع، ولا للخـمـول والـذل أن يحـلا مكان الـرقيّ والعـز . ولـذلك لم يجـد الاعداء الغزاة للسيطرة على أمة من الأمم ، وسيلة أفضل من ثورة الانحطاط الـرجعية لتثـويـرها ودعمها ومدها بكل مقومات الانتشار والاتساع والامتـداد التي قـوامهـا التجهـيـل والـدعاية والـوشـايـة والخـداع وبـذر الفتن وتهيـيجها بين ابناء المجتمع الواحد ليتمكن أعداء الأمة من سلب جيل المجتمع أغـلى ما يملك، ألا وهـو ذاته العامة ،ووجـدانه القومي ، وروحه الوطنية ، وشخصيته الانسانية، فينهارويتفتت ويتحول بين أيدي الأعداء الى عجينة طيِّعة يصنعـون بها ما يـريـدون .
هـذه هي حال الأقطار العربية بالضبط في هـذه الأيام العصيبة التي تتلاعب فيها ثورات الرجعة الانحطاطية حكاما وشعوبا ،فلا الحكام يـرون خلاصا لأنفسهم خارج الاستـقـواء بالأعـداء ، ولا الشعـوب العربية تدرك سفينة نجاتها الا بالعودة والرجعة الى جاهلية بائـدة كانـت وتبقى وسوف تستمـر نـارا ودمـارا ووبـالا عليها حاضرا ، ومحوا لكل جيّد وجميل من تاريخها ،وقضاءً على كل أمل بمستقبل ٍ زاهر ٍ لها .
فيا أبناء الحياة ثوار النهوض والتقدم أين أنتم ؟ وماذا تفعلون ؟ وما الذي أصابكم فذهلتم عما يجري لبلادكم وشعوبكم ؟ ويا أيها المتعلمون المثقفون ماذا تعلمتم ؟ولماذا تثقفتم ؟وما قيمة علمكم وثقافتـكم اذا لم يكن لكم موقـف واضح مما يحـدث في بـلاد العرب ؟ قولوا بربكم أية ثورة تؤيدون ؟ والى أي جانب تقفون ؟ ولأية جهة تعملون؟أما آن الأوان ليكون لكم كلمة وموقف وفعـل؟ ألم تدركوا ما فعل بنا الأعداء عندما مزقـوا بلادنا وشعـوبنا ؟ ألـم تدركوا بعد ما حلّ بنا من ويلات وكوارث على أيدي مصاصي دماء الشعوب وناهبي خيراتها اليهود وحكومات العدوان الأميركانية والانكليزية والفرنسية ؟ ألم تروا وتشاهدوا كيف تمكن أعداؤنا الاستعماريون من تهويد وصهينة أبنائنا من مسيحيين ومحمديين فهجروا تعاليم السيد المسيح المبنية على المحبة وسنة النبي محمد القائمة على الرحمة واستبدلوا تعاليم الانجيل والقرآن بسموم الكراهية والحقد والفتن والعقوق بالأهل وخيانة الشعب والوطن لمصلحة أعداء الانسان والانسانية ؟ ألم تكتشفـوا بعـد أنهم يخططـون للقضاء علينا وابادتـنا واستملاك أرضنا بأسلحة الابادة التي يحملون، وبأسلحة الجهالة التي نتمسك بها ؟ ألـم تلمسوا وتقـتـنعـوا بأن المكـروب السرطاني الصهيـوني الـذي زرعـوه في قلب بلادنا هو للفتك بنا والقضاء علينا بحيث لا تقوم لنا قائمة في مقبل الأيام ؟
أعزائي أيها الأحرار الشرفاء في بيئة بلاد الشام وأرض الرافدين وفي كل بلاد العرب : من غيركم يحمي حمى الأوطان؟
ومن غيركم تناديه شعـوبنا في أزمنة الشدة والمحن ؟
ومن غيركم يستجيب لنداء الحق والواجب الذي يتفجر من حناجر أجيالنا الآتية التي لا تزال في رحم المستقبل البعيد ؟
هل تعون ما سوف يحصل لو سقطت سورية في أيدي شذاذ الآفاق المارقين ؟ ألم تنطلق كل الرسالات الانسانية الارضية والسماوية من سورية أرض الحضارة والمدنية لتعـم العالم بكامله ؟
أليس سـقـوط سـورية في أيـدي الهمجية الصهيونية هـو سقوطنا جميعاً ، وسقوط القيم والمـُثـُل الانسانية وعودة بالانسان الى عصور الظلمات التي تمتد الى ما قبل عهود البهيمية ؟
ألم تشاهدوا ما خلفته مكـروبات الاعـداء وجـراثيمهم ونجاساتهم على أراضي فلسطين وبلاد الرافـدين وليبيا في زماننا ؟ وما خلفته احقادهم في مـدن صور وصيـدا وبابل وقـرطاجة ونينوى وآكاد وأوغاريت وتدمر والقدس وعكا وغزة وغيرها... من مناراتنا في سالف الأزمان ؟ فمتى نلتحـق جميعـنا في مـواكـب الثـورة الحقـيقـية التي هي ثـورة النهوض والتقدم والرقي على الجهل والعبودية والفوضى والتخاذل والضعف التي ترفع الانسان الى ما فوق مستويات الملائكة بدلا من ثـورة الانحطـاط والـرجعـة التي تهـوي بالانسان الى ما دون دركات البهائم؟ ان حقيقـة ثـورة النهـوض واضحـة ، ومبادئها واضحـة ، وغايتها واضحة ومـؤيديها واضحـون، ورافضيها واضحـون ،وان الأصدقاء واضحون والأعـداء واضحون ولا يخفى كل هذا الوضوح الا على الذين مُسخوا في عقـولهم ووجداناتهم وضمائـرهم وباتـوا هياكل خالية فارغة من كل ما يميّز الانسان عن غيره من بهيمة أو جماد. إن أجيال المستقبـل تـنادي ، والتاريخ ينتظـر ليسجـّل . فسقـوط بغـداد ما كـان الا تـوطئـة لسقـوط دمشق، وسقـوط دمشق معـناه سقـوط بـيـروت والقـدس وعمان، وبسقـوط هـذه الحـواضر يسـقـط العالم العـربي سـقـوطـه النهائي ، ولا معنى بعـد ذلك لـرسالات انسانيـة مسيحية ومحمدية وعربية وحضارية في هذا الوجود . لكن بغداد لم تسقط بل أسقطـت من أراد لها السقـوط وجيّش العالـم لاسقاطها فكانت السد المنيع الذي حفظ دمشق من السقـوط ، فحفظـت بـيـروت والقـدس وعمان وجميع حواضر العروبة، وبانت لأصحاب البصائر السليمة فكـرة العـروبة الواقعية الصحيحة التي تقـول بانشاء جبهة عـربية منيعة من الشعـوب العـربية السيدة الحـرة المستقلة تكون سدا في وجه المطامع الاستعمارية البغيضة وليس جامعة الكيانات الهزيلة التابعة المستعبدة التي تجمع الانذال والعملاء والخونة والمأجورين . لقد صدق ذلك السوري العظيم الذي قال: " متى كانت المسألة مسألة العالم العربي تجاه غيره من العوالم فنحن السوريون صدر العالم العربي وتـرسه وسيفه وحماة الضاد ومصدر الاشعاع الفكري في العالم كله "وهـو نفسه القائل في رده على المغـرضين والغـوغائيين :" نحن لا نقـول بالـوحـدة العـربية بـل نعـمل لها ". وشتان شتان ما بين فعالية القـول وفعالية العمل ، ولذلك "سواء أفهمونا أم أساؤا فهمنا ، فإننا نعـمل للحياة ولن نتخلى عنها " وسوف يستمر نهجنا في الحياة :
بغير ِ سمّونا لا شيء يسمو فـمنــّا للسما فـقـط العـبـورُ
وأفـقُ سـمائـنا أبـداً تسامي سـماءٌ تنطوي وسـما تـثـورُ
وما رام التسامي غيـرُ حـر ٍ بعطـر ِ دمائـه امتزج الأثيـرُ
وأرقى من سما في الأرض قومٌ يطالُ طمـوحُهمْ ما طـالَ نـورُ
هُـمُ القـومُ الألى ثـاروا وضحـّوا لينـتصرَ المقـدّسُ والطـَهـورُ
ان الثورة التي اقـتـنعـنا بصلاحها لأمتنا ،وآمنا بها ،واخترنا العمل بمضامينها بمطلق وعينا وكامل ارادتنا ،والجهاد لانتصارها بكل ما وهبتنا الحياة من قوى ،هي ثورة النهضة . ثورة الأحرار الأمناء التي لا مكان في صفوفها للعبيد والخونة ،والتي ترفع لأمتنا في تعاقب أجيالها مشاعل الهداية والتقدم والرقي والكرامة ، وتضع حدا لعهود التخلف والذل والمهانة مجددة ثورة المسيح الهادي والثائرعلى الطقسية اليهودية والذي جاء ليدمر كل تراثها اليهودي الخرافي الوثني خافقا صوته عبر العصور : " ما جئت لألقي سـلاما بـل حرباً. ويـل لكم أيها الكتبة والفـريسون المراؤون"واضعين نصب أعيننا الآية القرآنية الحكيمة القائلة : " ولتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود " ورافعين شعار الأجيال للأجيال :" ليس لنا من عدو ٍ يقاتلنا في حقنا وديننا ووطننا الا اليهود ومن يساند اليهود في عدوانهم علينا " ولسوف تستمـر أجيالنا تصارع بكل ما فيها من قوة مدى الزمان حتى يتغير التاريخ ويستقيم مجـراه.
(1)- مدير عصبة الأدب العربي المهجري في البرازيل
|