نظرية النظام الاقتصادي القومي الاجتماعي عند أنطون سعاده
ان أول ما يجـب ان نـنطـلق منه وبه وعلى ضـوئه هـو الوعي . فاذا انعـدم الوعيّ فلا سبـيـل الى الاهتـداء الى بـداية صحيحة مفيدة ونافعة .
فالغفلة والغفاوة حالة نوم ، واكثر ما يستطيعه النائم او الغافي هو الهذيان واضغاث الاحلام .
النهضة القومية الاجتماعية هي يقظة ووعيّ ومعرفة وليست غفوة وهذيان وجهل . انها حالة نـورانية جديدة وجيّدة اخرجتـنا من البلبلة والشك الى الوضوح واليقين .
الجهل مهوار غدار يشدنا الى السحيق العميق المظلم . والعلم منار كشـَّاف ينيـر امامنا الطـريق الآمنة ، ويسهـل علينا السير والتقدم فنميّز بين ما هو مفـيـد وما هـو مضر . وما هو ثابت وما هو متـغـيـر . وما هــو اساسي في الوجــود وبين ما هو ثانوي . فاذا صح التبديـل والتغيـيـر في الثانـويات دون ان يـؤثـر على مســيـرة الحـيــاة الصاعــدة ، فان أي تـغـيــيـر أو تـبـديـل في الاســاســيـات يعـطـل مسيرة الحياة ويقـودنا الى ما لا ينفعنا ولا يساعـدنا على النهوض بحياتـنا .
لذلك كان المبدأ الاقـتصادي في المفهـوم القـومي الاجتماعي هـو من ضمن المباديء الاصلاحية التي يمكن ان يجـري عـليها التبديل والتغيير والتعديل ، وليس مـن ضمن المبـاديء الاسـاسـيـة على الر غـم مـن ان المبـاديء الاساسية والاصلاحية وغاية الحركة السورية القـومية الاجـتماعية تشكل فلسفة قائمة بذاتها ، وعلى الرغم من اهمية الاقـتصاد في حياة الامم .
وبناء على ما تقدم ،علينا ان نميز بين النظام الذي هو شيء عميق جــدا ً في الحـيـاة وبيـن التـنظيم الخاضع للتبـديل والتغيـيـر والتعـديل والتحسيـن .
وبهـذا نكتـشف ان مفهـوم المعـلم سـعادة للاقـتـصاد هـو مفهـوم تــنظيمي اقـتـصادي ينبثـق من الفـلسفة القومية الاجتماعيـة المجتمعية ، ويستند الى النظرة الانسانية الجديـدة الى الحيـاة والكـون والفـن التي قال بها ســعاده .
ولأن الاقتصاد هو شأن انساني ثقافي فانه يتحتم علينا ان نفهم اولا ً نظرة سعاده الى الحياة الانسانية وفلسفـته لنتمكن من فهم نظريته الاقـتصادية أو مذهبه الاقتصادي بوضوح وجلاء .
لقد سمعنا مرارا ً من داخل الحزب ومن خارجه " انه ليس للحزب نظرية اقتصادية. وكل ما عندنا في الحزب هو افكار ومباديء اولية في الاقتصاد مستـنديـن بذلك الى كلام سعاده في ختام محاضرته الثامنة التي شـرح فيها المبـدأ الاصلاحي الرابع حيث قـال : " ان ما أعـطيَ الآن هو قـواعد عامة ومعـلومات أســاسية لا غنى عنها فيما بعـد الى النظـر في أمـور اخـتصاصية " متـغافليـن عن قوله في المحاضرة نـفسـها ان المحاضـرات الاختصاصية في كل باب وناحية من نواحيه انما هي لإعطاء
" صـورة حـقـيقـية عن النظام القومي الإجتماعي الاقتصادي" وهذا لا يجعل مجالا ً للشك في ان للحزب نظامه الاقتصادي الخاص المنبثق من فلسفته . فلسفة الانسان ـ المجتمع المدرحية التي تسير نحوها البشرية بخطى حثيثة ،ولا شــك ان الشـعـوب المتمدنة واصلة الى هذه الفلسفة وآخذة بها وعاملة بنظامها الاقتصادي . لأن هذه الفلسفة تشيـرالى ارقى ما توصل اليه العقل البشري من ثورات اجتماعية .انها القمة التي نشرف منها على العالم القادم عالم الإنسان ـ المجتمعي ـ العالمي العادل الـراقي .
الفلسفة القومية الاجتماعية
الانســان هو مبدء هذه الفلسفة وغايتها . ومفهـومها للإنسان هو مفهـوم واقعي لا ينكمش فيكون فردا ً،ولا ينفـلش فيصبح عالما . انه كما هـو على حقيقـتـه انسان ـ مجتمع . انسان ـ أمة . في مجتمعيته تكمن انسانيته . وفي امته تتألق مدنيته وحضارته . والانسـان ـ المجتمع ـ الأمة هــذا لا ينشأ ولا ينمو ولا يستمر الا في بيئة طبيعية ، وعلى أرض معينة تقـدم لـه امكانت العيش والحياة هي وطنه الذي هو مسرح حركته واعماله عبر الزمن حيث يصنع تاريخه بابـراز مـواهبه وبلورة شخـصيته الاجتماعية انه الانسان ـ المجتمع ـ الامة الذي تمتد جذوره في اعماق الماضي السحيق الذي يعـود الى ماقبـل التاريخ معبـرة عن اصالته . وتسـتمـر عطاءاته في المستـقبل الى ما لا نستـطيع ادراكه . هذا الانسان ـ المجتمع هـو القادر على استـيـعاب كل ما في الوجـود من عـلم واسـرار ، وهـو القـادر على تحسـيـن الحياة ومستوى الحياة باجمل ما يمكن ان يكون من الابتكارات والابـداعات، وهو هونفسه الذي لامعنى ولا قيمة لأي شيء او فكر او نظام او حال ان لم يكن بهدف تقدمه ورقيه ، ورفاهيته وسعادته .
الاقتصاد لغة
قـصـد : استهدف . سار او عمل بقصد وهدف قصد قصدا في مشيه يعني مشى مستويا . وقصد في الامر يعني ضد افرط.
اقتصد في الامر : ضد أفرط أي اتزن.
اقتصد في الانفاق : توسط بين التقـتير والافراط
اقتصد في الامر : استقام
اقتصاد : ضد التفريط والهدر أي الإتزان ما بين الإدخار والتبذير
اقتصاد : تدبير النفقة . والتوسط او التوازن بين التبذير والتقـتير
بعد هذه المقـدمة يمكـنـنا ان نباشـر بشـــرح وتـوضيـح التــنـظـيم القـومي الاجتماعي الاقتصادي .
في حلقة سابقة لمجمـوعة من طلبة البكالـوريا والفلسـفة كانـت مخـصصة لشرح مبـدأ الاقتصاد القومي الاجتماعي ،حاولت فيها ان تكـون المحاضرة دراسة مقارنة بين النظامين اللذين يقومان على أساس النظرة الفردية الى الحياة الانسانية : الرأسمالية والاشتراكية الماركسية ، وبين النظام القومي الاجـتماعي الذي يقـوم على اساس النظـرة الاجـتماعـية . اي بـيـن فـلسـفة الانسان ـ الفرد وفلسفة الانسان ـ المجتمع .
وفي نهاية المحاضرة شـكـرني احـد الطـلبة الحضـور على شرحي للنظرية الاقـتصادية الماركسية وقـال بانه درسها قـبلا ، ولكنه لـم يفهـمها بـهـذا الوضوح الذي تميز به شرحي وتوضيحي لها . ولهذا لن اكرر ما حصل في تلك المحاضرة لأن مهمتـنا الاساسية هي توضيح فكرنا وفلسفتنا وتـنظيمنا ومسؤوليتنا الكبرى هي شرح وتفسير وتوضيح نظرتنا الى الحياة والكـون والفـن وكـل ما له عـلاقـة بها ، وما نـتج عنها ، وما يمكن ان ينـتـج من تنظيمات وتـشـريعات ونظـريات . لقد استـنفـدت النـظـرة الفـرديـة جـميـع مضامينها ، واصبحت شـيئا من التاريخ ولم يـبـق منها ســوى الامـراض التي سببتها ، والكوارث المدمرة للإنسانية التي تعاني منها الانسانية اليوم منتـظرة الخـلاص الآتي على ضـوء وهـدى فـلسـفة الانسان ـ المجتمع الذي يقول بالأساس المادي ـ الروحي أي المدرحي للإرتقاء الانساني .
ولهـذا بالضبط سأبـدأ محاضـرتي بقـراءة المبـدأ الاصلاحي الرابـع الـذي يلخص نظريتنا ومفهومنا للاقتصاد وتنظيمه "الغاء الاقـطاع ، وتـنظيم الاقـتصاد القـومي على أســـاس الانـتاج ، وانـصـاف العـمـل، وصيــانــة مـصـلحــة الأمـــة والـدولـة . "
ان المبـدأ الاقـتصادي الاصـلاحي ليس منـفـصلا عن المباديء الاصلاحية الاخرى ، ولا المباديء الاصلاحـيــة مســتـقـلة عن المـباديء الاســاسيـة . بل ان جـميع المبـاديء الاســاســيـة والاصلاحية ومعـها غايـة الحـزب تـعـبـركلها عن حقـيقة جـوهـرية واحـدة هي حقيقة جعل قضية الامة السورية هي محور ومرتكـز جميع المسائل والاغراض والمقاصد . ولذلك فان كل تنظيم سـواء كان اجتماعيا او سياسيا او اقـتصاديا او اداريا او ثـقافيا او قانـونيا او عسكـريا ... يجب ان يكـون لخـدمة قـضية الامة واعلاء شأنها وتحقيق رفاهـيتها . وهـذا ما عبـَّرت عنه وهـدفـت اليه العـقـيـدة السـورية القـومية الاجتماعية وقد ظهر كل ذلك جليا في تعاليمها منذ بداية التأسيس.
وقــد أكـد ســعاده في مـؤلفه " نشـوء الأمـم " أن الرابطة الاقتصادية هي الرابطة الاجتماعية الأولى في حياة الانسـان أو الأساس المادي الذي يـقـيم الانسان عليه عمرانه " ولذلك " لا نستطيع ان نـتصور مجتمعا يقـوم على غير أساس التعاون الاقـتصادي لسـد الحاجة مـداورة تعـويـضا عن نـقـص وجود المادة المحتاج اليها ." وقال ايضا بهذا الخصوص في نفس المصدر " ان كيفية تركب الانسان تجعـل حياته تـتـوقـف على سـد حاجاته مـداورة أي بالعمل والواسطة . فهو دائما مضطر لأرضاء دافع الارتقاء والتعـويض عما فقده من سرعة الجولان وقوة الوثب .... وهذا يتطلب منه التعاون في الصنـاعة وفي السعي لمطاردة الفريسة والايقاع بها وفي الزراعة " وقد أشار الى ذك ابن خلدون في مقـدمته الشهيرة قائـلا ً : " ان الاقـتصاد هـو نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع "
ولما كان " التطور الاجتماعي هـو دائما على نسـبة التطـور الاقتصادي " كما ذكر سعاده ، فان الاهتمام بموضوع الاقتصاد وتنظيمه على اسس علمية سليمة ، كان من الامور المهمة التي لاغنى عنها، ولا يجوز ان تبقى خارج تعاليم النهضة ومبادئها المحيية التي فيها وفي تحقيقها كل الخير والرفاهية للأمـة .
أول ما يلفت الانتباه بعد الاطلاع على المبدأ الاقتصادي هو الفعل الهجومي الذي تميزت به الحركة السورية القومية الاجتماعية أي الثورية والهجومية وهذه الثورية تظهر جليا في العبارة الاولى التي هي :" إلغـاء الإقـطـاع"
1 ـ الغــاء الاقطـاع
ان الحزب السوري القومي الاجتماعي كما عبر عنه مؤسس الحزب سعاده هو " فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها "وهو كما قال ايضا:"الحزب هــو نـور الامـة " وهذا الحزب هو نهضة اي خروج من البلبلة والشك الى الوضوح واليقين . ورسالة هذا الحزب ومهمته الاساسية هي رفع مستوى حياة الامة واصلاح حالها . ولما كان الاقتصاد هـو في طليعة الامـور التي يجب اصلاحها وتنظيمها لمصلحة حياة الامة وقضيتها ورقيها ، فقد اقتضت البداية ان يزال الحيف والظلم عن قسم كبير من ابناء الامة يـرزحون تحت وطأة الاقطاع . النظام الفردي الموروث من العهـود الجائـرة التي سبـبت للأمة الكثير الكثير من الويلات والمآسي . ان الامـة هي ابناؤها وابناء الامـة هم الامـة ولا يعـقـل ان تقبل النهضة الجديدة باستعباد ابناء الامة لأبناء الامـة . ان نهـضة الامـة هي نهـضة حـق وعـدل لكـل ابنـاء الامـة . ومباديء نهضتها لا يجوز ولا يحق ان تكون الا لخير ورفاهية وحرية جميع ابنائها. ومبدأ الغاء الاقطاع هو مبدأ تحرير وتحرر . تحريـر قسم كبير من الناس من الظلم والحيف والعوز . وتحرير الاقطاعيين المتسلطين المستبدين من نفسية الاستكبار والاستبداد . لتحل بين الجميع روح الاخوة القـومية التي هي العامل الفعال والافعل في ازالة كل اسـباب الكراهية والجفاء بين الاخــوة الذين يجب ان يعـملوا جميعا من اجـل خيـر الامـة ورفاهيتها وتحقيق مثلها العليا التي تنطوي على اجمل مثلهم واهدافهم .
لقد ذكر سعاده في مؤلفه نشــوء الامم : " انه اذا كانت الرابطة الاقـتصادية اساس الرابطة الاجتماعية البشرية ، فالعمل ونظامه التعاوني مصدر نظام الاجتماع وأساس بناء المجتمع . " لذلك فان العمل و نظام التعاون هو الاساس الذي يجب ان يقـوم عليه ليس نظام الاجتماع وحسب ، بل نظام الاقتصاد ايضا ، وكل نظام او تـنظيم له مساس بالحياة الاجتماعية ، وبناء المجـتمع المتمـدن الراقي . من هـذا نفهم ان جـميع المبايء الاساسية والاصلاحيـة وغـاية الحزب هي متـرابطة فيما بينها ، ولا يمكن الفصـل بـيـنها ، بل هي متكاملة . وهي تصبح مبتـورة مشلعة غير ذي قيمة او فائدة حين تنفصل عن بعضها . فالمجتمع وحدة حياة . وابناؤه يشتركون في حياة واحدة . واي امتيـاز للبعـض منهم يـؤدي الى خـلخـلة الوحـدةالاجتماعية . كما ان اي تنافر بين ابناء المجتمع الواحد يؤدي الى التشرزم المفتت المدمر المميت . لذلك كان المبـدأ الاصلاحي الثالث الـذي يقــول بازالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب هو مبدأ من صميم مبدأ الاقتصاد القومي الاجتماعي .
ان مبدأ الغاء الاقطاع يعني الغاء الاستبداد والطغيان والظلم ، ويعني ايضا مكافحة الخوف والجبن والذل . وعندما تسقـط روحية الاستبداد وروحية الجبن في ابناء الامة تبدأ الحياة الجديدة الجيدة العزيزة ليستقيم قول المعلم سعاده : " ان الحياة هي وقفة عز فقط ."
ان وقفة العـز لا تكون فـقـط في مواجهة الموت ، بل تكون قبل ذلك وفوق ذلك في اختيار الحياة العزيزة وممارســة الحياة العزيزة حتى ولـو أدت الى مواجهة الموت والاستشهاد .
هكذا تـتضح لنا بجلاء غاية الهجومية الثورية في مبدأ الغاء الاقطاع التي هي العــدالـة الاقـتصاديـة – الحـقـوقية والتي لا تـنفـصل ابدا عن العـدالة الاجـتماعيـة – الحـقـوقـيـة . لأن في العـدالة الاجـتـماعـية – الاقـتصادية – الحـقـوقـيـة يكمن ويتجلى مـبـدأ العــز القــومي الاجـتـماعي والرفـاهـيـة الـقــومـيـة الاجـتـمـاعـيـة .
وليكن معلـوما انه بـدون ازالة جميع الحــواجز بين ابناء الامة ، وبدون القـضاء على حالة البـؤس والحيف وجميع المفاهيم المرضية الماديـة والنفسـية ، وبـدون الهـوية الجامعـة لأبناء الامـة ، وبـدون ممارســة حياة العـز القـومي ،لايمكن ان يكـون لنا اقتصاد سليم ، ولا يمكن فهم نظرية النظام الاقتصادي القومي الاجتماعي وتحقيقه في حياتنا العملية.
لقـد كانت ثـورة سـعاده واضحة ، بمبدأ الغاء الاقطاع، على عيشة العبودية الزرية التي يعـيشها ابناء امتنا من المزارعين تحت سيطـرة الاقطاعيين ، وهدفه كان دائما هو ازالة الحيف عنهم وتصفية وتغيـيـر حالة الرق هـذه التي تشمل الالوف والالوف من الفلاحين ، وتحرير الاقطاعيين من روحية الاستعلاء واستعباد اخوانهم ابناء أمتهم .
2ـ تنظيم الاقتصاد القومي
قال سعاده في محاضرته الثامنة التي تناول فيها شرح المبدأ الاقتصادي القومي الاجتماعي : " نحن نعتقد ان النظام السياسي الذي نحيا فيه ليس نظاما قوميا بالمعنى الصحيح . وان درسا اقتصاديا صحيحا من الوجهة القومية على اساس نظام سياسي لاقومي صحيح، هو درس عـقيم لايمكن ان يعطي نتائج صحيحة " لذلك فان الارتباط وثيق بين النظام السياسي والنظام الاقتصادي .
فالنظام السياسي القائم على النظرة الفردية للإنسـان قد يـصـلح في مطلق الحالات لقيام تنظيم اقتصادي فردي او عائلي او قبلي اوفئوي او طائفي او مجمـوع اكثري او اقلي . لكنه ابدا لايمكن ان يصلح اساسا لقيام تنظيم اقتصادي قومي . وقد كان واضحا سعاده ومصيبا حين قال : ان الاقتصاد كموضوع لأمـــة وشـعـب ، لايـمكن ان يـنظـر اليه الا بالمنظار القـومي ، الا بمنظار المجتمع الموحد ـ الأمة . أي بوجـوب توفـر النظام السياسي القومي الذي يقوم على اساس النظرة المجتمعية للإنسان .
وعندما نقـول بالنظـرة المجتمعية ، فانـنا نقـول بحقيقة لا لبس فيها ولا تشـويش . لأن النظام السياسي المنبثـق عن النظـرة القـومية الاجتماعية هو نظام قومي اجتماعي . نظام يقوم على وحدة المجتمع ـ الامة ويهــدف الى تحقيق خيـر الامة ورفاهيتها ، وان النظام الاقـتصادي في هذه الحالة هو نظام قائم على اساس وحـدة المجتمع . وليس نظاما اقتصاديا فرديا او عائليا اوفئويا مجزئا وحـدة المجتمع في الداخل ، ولا هــو نظـام اقتصادي تحالفي بين عـدد من الشعـوب والدول أو عالمي على الصعيد الخارجي .انه نظام اقتصادي قـومي يشمل القـوم كلهم في وطنهم . يشمل المجتمع بكـليته الـذي لـه دورته الاجتماعية الاقتصادية الحياتية التامـة . اي ان قاعـدته وحـدة المجـتمع ، ونطاقه دورة الحياة على كامـل ارض الـوطن ، وغايـته مصلحة المجـتمع التام التي هي الاعلى والاهـم والتي تـشمل جـميع المصالح الاخرى من فردية وعائلية وقـروية وفئـوية واقلية واكثـرية ... كما انها في الـوقـت نفســه مصلحة متــناغـمة مع مصـالح المجـتـمعات الاخـرى التي لا تــتطاول ولا تعـتـدي على مصالح غيـرها من المجـتمعـات ، ولا تـقبل اعتـداء المجـتمعـات الاخرى ليها . ورسالتها الانسانية هي رسالة التعاون مع غيرها من الأمم افـادة واستـفادة . عـطـاء واخـذا ً . لتوطيد العـلاقـات الـدولية وتحسينها وترقـيتها للوصول الى طـور عالمي انساني تمدني يكون محطة متقدمة للإطلال على حيــاة انسانية افضل . ان النظـام الســياسي القائـم على النـظـرة الفـرديـة لا يصـلح بالمـطـلـق لقـيام نظــام اقتصادي قومي اجتماعي . لقـد صلح ويصلح لقيام انظمة اقـتصادية رأسماليـة فـرديـة واقـطاعيـة وشـركاتيـة واشـتـراكـيـة عـنـدما تحـل الـدولة مكان الفـرد الرأسمالي او الاقطاعي او الشركة . والنـزاع القائم حاليا هـو بيـن رأسمالية شــركة الـدولة الاشـتـراكـية ورأسمالية الشركات المـتعـددة الجنسيات التي باتت تحكم سيطرتها على الدول وخاصة الدول الضعـيفة الفـقيـرة . لقد حلت اقطاعية الـدول الاستعمارية محل الاقطاعية الفردية .
وما دامت الفلسفة الفردية هي المسيطـرة في العالم ، فان نشـــوء النظام القومي الاجتماعي هـو بعـيـد التحقيق . لأن الفلسـفة الفرديـة لا تؤدي الا الى نظـام سـياسي فـردي ونظــام اقــتـصادي فـردي،يسيـطـر فـيه الأفـراد الراســـماليـون الفـرديـون في داخـل المـجـتـمـع او عصـابـة الرســماليــيـن الفــرديــيـن الـذيـن يســيـطــرون على ســلطـات الــدولة ، او شـــركات الــدول الرأســمالية الاسـتعـمارية القائمة على اسـاس الفلسـفـة الفـردية الانانية .
اما ما يسمى بالـدول الضعـيـفـة الفـقيـرة فانها ليسـت الا فـروع ومكاتـب لشــركات اقـتـصادية احـتكارية اقـطاعـية طـبقـية اســتـبـدادية تســلطـية . ونـظـرية ســعاده القـومـية الاجـتماعـية في الاقـتـصاد هي مفـهـوم تحـرير الناس في كـل الامـم من السـيـطـرة البغـيـضة المشحـونـة بالاطـماع وحـب التسـلـط الذي جعـل الكـثيـريـن من الناس في كـل المـجــتـمعـات يـرزحـون تحـت نيـر البـطـالـة ، ويعـيشـون عـيشــة الـرق والعـبـوديـة في مـزارع ومـصانـع ومكاتـب ومـتاجـر وبـيـوت المـتسلطيـن على الثـروات القومية والمـوارد الطـبـيـعـيـة والرساميـل والآلات الصناعية لمنافـعـهم الفـئـوية والشـخصية ، وليس لمصلحة المجـتـمع القـومية . وقد سـخـروا اجهـزة الـدول المـتسلـطيـن عليها بدساتيـرها وقوانينها وقضاتها وجـيـوشــها واجهـزتها المالية والامنية والمخابـراتية لتسكت كل صوت حـر ، وتقمع كل حـركة اصلاحيـة تحـاول اصلاح او تـغيـيـر انـظـمة الفســاد الفئـويـة بايجاد نظام قـومي اجـتماعي هـدفـه تحسين مستـوى جميع ابناء المجتمع.
3 ـ تنظيم الاقتصاد القومي على اساس الانتاج
لا يكفي بان يكـون الاقـتـصاد قـوميا لكي تعـم البحبـوحة والرفاهـية في المجـتـمع . فالقـلة او الفـقـر القـومي لا يحـل مشـاكل الناس بل يزيد الناس فــقــراً وعـوزا وتأخـرا ، ويجعلهم عبـيـدا ارقــاء للميسورين.
ان الاقـتصاد القـومي السليـم هـو الاقـتصاد القـومي الاجـتماعي القائـم على أساس الانتاج ، والعمل الانـتاجي . وكل اقـتصاد لايقـوم على اساس الانتاج هو اقتصاد فاسد وباطل .
يقـول ســعاده في شرحه للمبدأ الاقـتصادي : " الانتاج هـو الاسـاس الهام للاقـتصاد القـومي . وبـدون الانتاج لا يمكننا مطلقا التفكيـر برفاهية الشعب. اذا كانت الثـروة قليلة والناس كثـر لم يـفـد الناس كثيـرا توزيع كمية قليلة عليـهم ، بالكاد تسـد رمـقهم. فالانتاج هـو المفتاح للقضية الاقتصادية كلها "
وحيـن وجه سعاده نداءه الشهـيـر في الاول من أيـار للأمة السـورية بـدأه بقـوله :
"أيها العمال والفلاحون السوريون يا أصحاب الفنون والحرف أيها المنتجون علما ً وفكرا ً وصناعة ً وغلالا ً أنتم أوردة الحياة وشرايين القوة في جسد الأمة السورية الحيّ . أنتم الأمة خلقا ً وانتاجا ً وتشيـيـدا . "
ماذ يمكن ان نفهم من هذا الكلام ؟وماذا يمكن ان نستـنتج ؟
لقـد اعلن سعاده منـذ تلك اللحظة وبهـذا الكلام الـواضح البليغ نهاية عصر مفاهيم النظام السياسي القائم على اساس الفلسفة الفردية التي هي فـلسفة الانسان ـ الفـرد،وبـداية عـصر مفـهـوم نظام سـياسي جـديـد يقـوم على اسـاس فلسفة قومية اجتماعية هي فلسفة الانسان ـ المجتمع . ومع بزوغ هذه الفلسفة الجديدة ، انتهى عصر مفاهيم الاقتصاد السابقة من رأسمالية واشتراكية وشيوعية، وبـدأ عصر مفهـوم الاقتصاد المجـتمعي . اقـتـصاد مجتمع ـ الأمة . أمـة العامليـن لا الخامليـن . أمة المنتجيـن لا المتسـوليـن .أمةالواقعيـيـن المعتمديـن على أنفسهـم لا المقـامـرين المراهنين الحالمين .أمة المبـدعيـن لا المعتـوهيـن . أمة البنائيـن لا المخربيـن انه اقــتـصـاد الانسان ـ المجتمع الواعي القوي المنتج المبدع .
والانتاج كما فهمه سعاده انواع وليس نوعا واحدا . واهم انواع الانتاج الذي تقول به فلسفة الانسان ـ المجتمع الجديدة في ميادينه المتعـددة والمتنوعة هي التالية :
*ـ ميدان الانتاج المعرفي
*ـ ميدان الانتاج العلمي
*ـ ميدان الانتاج الفكري
*ـ ميدان الانتاج الفني
* ميدان الانتاج الزراعي
*ـ ميدان الانتاج الصناعي
*- ميدان الانتاج التجاري
* - ميدان الانتاج الاستكشافي
( أ ) ميدان الانتاج المعرفي
يقـول سعاده : " المجتمع معرفة والمعرفة قوة " فاذا فُقدت المعرفة انعدمت القـوة . وبانعـدام القـوة يحل الضعـف . ونصيـب الضعـفاء في الحياة هـو الفقـر والعـوز والشـقاء . لـذلك فان الانتاج المعـرفي يبقى في طليعـة انـواع الانـتاج الـذي يحـرر المجـتـمع من الجهـل والتـخلف، ويحميه من البؤس والمذلة . لكن المعـرفة التي قصدها سـعاده ليست اية معرفة ، بل هي معرفة ما يفيد المجتمع ويرفع من مستواه ومعرفة ما يضر المجتمع وما يحط من شأنه. فيعزز معـرفة المفيـد ويطـورها ويحسنها . ويصون نفسه من المضر ويتجنبه ويحاربه.
وأهـم معرفـة في الحياة هي ان يعي المجتمع نفسه:وجوده ،حياته ،مصيره ، امكانياته ،حاجاته ، مطامحه ، دوره في الحياة ، مكانته بين الأمـم ، مثله العليا ورسالته في هذا الـوجود . فاذا تحـقـقـت له هـذه المعرفة ، فـقـد بدأ الخطوة الاولى في الانتاج السليم المفيد .
لذلك بـدأ سعاده حركته بالسؤال الفلسفي الخطير : " من نحن ؟ "
ولم يكن الســؤال من أجل الســؤال ، بل كان الســؤال من اجل تحقيق أول انـتاج معـرفي . وكان الجـواب على الــسوءال هـو الانـتاج الاول الذي هو نظام إجتماعي سياسي قومي اجتماعي مناقبي اخلاقي جديد . انبثق عنه النظام الاقتصادي القـومي الاجــتماعي القائم على اســاس الانتاج ، والهادف الى تحقيق العدل الاجتماعي السـياسي الاقـتـصادي الحـقـوقي .ان المعـرفة هي مفتاح الانتاج والدخول الى اقتصاد قوي . والمعرفة التي نعني ليست معلومات ولا هي تراكم معلومات وخبريات ومرويات وقصص على ما في هذه الامور من الفوائد والمنافع . انها المعرفة الفاضلة التي هي الوعي الفاضل الذي ينمو باستمرار من جهة وتـنمـو مناقبـيته واخلاقـه باطـراد من جهة ثانية بحسب نمـو الانسان وتطوره وتقدمه ورقيه . الانسان ـ المجتمع ـ الامة المتعاقب جيلا بعد جيل ، والمتوسع وعيه طـورا بعد طـور ، ومستوى بعـد مستـوى . ولما كان المجـتمـع ـ الامـة هـو افـراده في دورة حياتهم الذيـن هم امكانياته الاجتماعية وفعالياته الحياتية المتعاقبة والمتنامية ، فقد كان واجب كل فـرد مـؤهل من ابناء المجتمع ان يكـون منتجا في الحقـل المعرفي الذي يـزيـد الامـة غنى ومنعـة وحضارة ، ويجعـل ابناءها اكثر تقدما ورقيا . فالتـفـوق الحقيقي هـو التـفـوق في الـوعيّ السليـم والمعـرفـة الفاضلـة وممارسة كل ما هو صالح ويساعد على حياة افضل .
(ب ) ميدان الانتاج العلمي
والى جانب الانتاج المعـرفي فان العلم ايضا هـو انتاج .وهـو ثروة تصغـر امامها ثروات كثيرة . والمجتمع الذي يتخلف في انتاجه العلمي هو مجتمع متخلف فقير يعيش على التسول . والتسول لا يبني وطنا ولا يسـعـد أمـة .
ان العلم المقصود هو العلم النافع للإنسان ـ المجتمع ، وليس العلم المؤذي ولا العلم الـذي لا يـفـيـد . لذلك قال سعاده : " العلم الذي لا يفيد كالجهـل الـذي لا يضر. " انه العلم النظـري والاخـتباري الـذي يُـسـَهـِّـل الصعوبات امام ابناء الامة ، ويكتـشف النـواميس الطبـيعية ، ويـرسم الخطـط الـراقية من اجـل مستـقـبـل سعيـد ، ويطور وسائل الانتاج وادواته وآلاته ، وينمي الثـروة القـومية ، ويخلق الظـروف المساعـدة على تحسيـن الانـتاج في حقـول الانتاج الاخـرى ، ويحـد من المعـرقلات التي تـربك مسيرة المجتمع ويساعد على بلوغ ارقى المستـويات لمصلحة الكل . مصلحة العـموم التي هي مصلحة الجيل الحاضر والاجيال الآتية التي هي ترجمة للمثل المعروف والمشهور:" زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون" فالعلم غنى والجهل فـقـر . فمن اكتفى بجهله فـقـد خاب وافتقـر وتقهقر . ومن سعى بعلمه فقد فاز واغتنى وتقدم .
بالعلم كل الانتاجات الاخرى الضعيفة تتطور وتتحسن و تقوى . وبالجهل كـل الانتاجات القـوية تـتراجع وتسوء وتضعـف . وهنا تبرز قيمة العلماء وطلبة العلم ، وتكبـر مسؤوليتهم التي تـرتب عليهـم واجب انتاج العلـوم النافعة المحققة مصلحة الامة في الاستقرار والنموّ والازدهار .
( ج ) ميدان الانـتاج الفـكـري
ولا يقـل الانتاج الفكـري اهمية عن الانـتاج المعـرفي والانـتاج العـلمي بل ان جميع انواع الانتاج تتكامل وتكمل بعضها بعضا ًفي دورة انسـجامية تناغمية كاملة تـتـواصل وتـتصل بكل حاجات الانســـان المادية والنفـسية والروحية بشكل لا انفصال ولا انفصام فيه . ومخطيء من يظن او يـتـوهم ان الانتاج الاقتصادي يتوقف فقط على الجانب المادي وحــده . لأن الانسـان لا يعيش وينمو ويتطور كأنسان بالطعام والشراب والكساء والهواء فـقـط ،بـل لا غـنى له عن المعـرفة والعلم والفكـر وكـل القـوى الروحيـة والنـفسية وانتاجاتها حاجية ً كانت ام ضرورية ًام حتمية ً لنمو ومناعة ورقي المجتمع ماديا وروحيا . والاصح ان نقـول مـدرحـيا دون ثـنائية او تجزيء . واهم انـتاج يستـقـر عليه الفكـر الراقي ويطمئن اليه الشعــور السليم هـو محبـة الحـقـيـقـة الاسـاسـية لتحقيـق عالم افضل ، وممارسة المعـرفة الفاضلة لتـحـصيـن ذلك العالـم ، وابـراز اجـمـل ما يتـوصل اليه العـقـل من افـكــار ،والتعـبـيـر عن الطـف ما يعـتـمل في المشاعـر من احساسات وعـواطـف .
ومسـؤولية هـذا الانـتاج العـظيم الفكـري من فلسـفة وادب وتشريع وغـيـر ذلك ، تـقـع في الـدرجة الاولى على المفكـرين المؤهليـن المـوهـوبـيـن من ابناء الامـة الـذين يستـطـيعـون ان يستـلهمـوا افكـارهـم من روح الامـة ، ويستـمـدوا روح نهـضتهم من تـراثها ومواهبها وعطاءاتهـا وتاريخهـا المليء بالانجـازات والابـداعات . وفي هـذا الانـتاج الفـكـري يتألـق تراث الامـة ، وتـفيض ثـروتها ، ويـزداد غـناها جـمالا ً وخيـرا ً. وينعـكس ذلك على اقـتـصادها فـيتحسن ويـرتـقي نوعا ً ، ويـرتـفع قيمة ً ، ويزداد كمية ً ويلبي حاجات المجتمع ، ويلبي كل ضروريات ابنائه ، وكـل ما يساعدهـم على التحسن والجودة والاتقان والرفاه .
( د ) ميدان الانتاج الفني
يقول سـعاده : " ان العـظـمة التي تـقـف عـنـد حـد ليست عظمة حقيقية ." والنفسية العـظيمة ليس لانتاجها حـدود، ولا تقـف عند مستوى معـيـّن من مستويات الانتاج. انها نفسية مبدعة، ودرجات الابداع لا تنتهي.
ومجالات الفـنون ومستوياتها بالنسبة للنفسية العـظـيمة تـتســع وتـرتـقي باســتـمـرار . وكما يكون الفن نتاج النـفســية الراقية ، فانه ايضا يحـرك عوامل النفسية ، ويطلق روح التجدد والتجديد في الأمة ، فترتقي اساليـب حياتها ، وتـتـنـوع مجالات انـتاجها ، وتـتسـامى مستـويات تفكيرها ، وتمتـد وتـتســع آفـاق نظـرها . فيـتـوفـر للأمة فـن راقي قـال عـنه ســعاده بأنـه : " يـوحـِّد العـواطـف ويـجـمعـها حـول مطـلب أعلى حتى تـصبح ولها ايـمان اجتماعي واحد قائم على المحبة ، المحبة التي اذا وجدت في نـفـوس شعـب بكامله أوجدت في وســطه تعـاونا ً مخلـصا ً ، وتعاطـفا ً جميلا ً يملأ الحـياة آمـالا ً ونشاطا ً . "
وحيـن تمـتـليء حياة الأمة بالآمال والنشــاط يحصل لها الانتاج الكـبـيـر وتـتـوفـرلها الثــروة الـوافـرة ، المادية منها والروحية . والفن لا يتوقف فـقـط على حـقـول معـينة دون سواها كالشعر والرسم والنحت والتصوير والغـناء والـرقـص والمـوسيقى والتمثيل والكتابة والخطابة وغيرها من الفـنـون المعـروفة او الممكن التـوصل الى خلقها او اكتشافها ومعرفـتها ،بـل يتـصل بكل نـوع من انـوع الانـتاج ، ويشــكـِّل روح التجـدد فيه التي لا تـقـبل بالجمود ، ولا ترضى بالركون الى واقع الحال الساكن او المفعول.
انـه الروح المحركة في كـل حقـل من حقـول الانتاج لتحقيق الافـضل مـن النتاج ســواء كان روحيا كـنـتاج المعـرفة والعلم والفكـر والفن والتشريع والتـخـطيط . أو كان ماديا كنتاج الـزراعة والتـربية الحيوانية والصناعـة والتجارة .
واننا نستطيع الجزم بثقة ان كل انتاج لا يكون الفن او الروح الفنية عاملا محـرّكا ً فيه هو انتاج سكوني مكتوب له الجمود، ولا يصلح للحياة الناميـة المتطورة الراقية .
ان الانـتاج الفني هـو نـتاج نـفسية راقـية ناهضة مبـدعة متفـوقة ثائـرة تـرفـض الجـمـود والخـمـول وتـطمح الى ما هـو ارقى وابقى وأكثـر نفعا ً للإنسـان ، وأدوم تقدما ً وتساميا ً لأجياله الآتية .
( هـ ) ميدان الانتاج الزراعي
ان الانسان العصري المتمدن كما اشار اليه سعاده في مـؤلفه العلمي نشـوء الامم هـو : " نتيجة أو حاصل الثقافات المتـوالية على الانسان التي ولـّـدها التفاعل المستمر بين الانسان وبيئته ." من نتائج هـذا التفاعل بين الانسان والبـيئة كان حصـول الانتاج الـزراعي الــذي استـوجب الســعيّ وراء الــرزق ، والاعـتـماد على الـذات للحـصـول على الغــذاء وســـد الحاجـة واستصلاح الارض وزراعتها حبوبا ً واشجارا ً مثمرة .
فالـزراعة هي الميـدان الانتاجي الاول الذي لا يمكن الإستغـناء عنه للأمـة التي تـريـد ان تـعـيـش بكرامة وبحبوحة " وويل لأمة تأكل مما لا تـزرع ، وتشرب مما لاتعصر وتلبس مما لاتنسج . " كما قال جبران خليل جبران.
لقد عرف الانسان الـزراعة منذ القدم ، وما زالت الـزراعـة حتى هـذا العـصر ، وســوف تستـمـر مـع الانســان الى ما لانهـايـة لأنهـا العنصر الاساسي من عناصر الاقتصاد . ولا يمكن ان يحل محلها أي عنصر آخـر مهما تطـورت الحياة ، ومهما طرأ عليها من المتغيرات .
ان التفاعل بـين الانسان والارض هو تفاعل ازلي ابـدي ، وهو عماد الحياة فاذا توقف هذا التفاعل انتهت مسيرة الحياة الانسانية . فلا كيان للإنسان إلا على الارض . ولا قيمة انسانية للأرض إلا بوجود الانسان .
وقـد تطـورت الـزراعة كثيـرا بتطـور الانسان ونمـوه وتقـدمه من زراعة المعـزق الى زراعة المحـراث فـزراعـة البسـتـان حتى زراعـة المحاصيـل الكبـيـرة وانشاء الصناعات الضخـمة القائمة
على الـزراعة . وسوف يستمر التطور الزراعي ما دام الانسان يتطور . وترتقي وســائل الزراعة وأساليبها وآلات زراعـتـها وحصادها وتصنيعها وتحسين مواسمها ونوعياتها ما دام الانسان يـرتـقي ويتـقـدم . ولكن الـزراعة لا تصيـر مـوردا قوميا اجتماعيا للأمة بتمامها وكمالها إلا بتحـقيق قـضيـة الأمـة ، وخـدمـة مصلحتها العليا التي تـشـمـل ملايـيـن الملايـيـن من الناس الـذيـن هـم الأمـة والأمـة هـم .
ان الانتاج الزراعي الذي عـناه المبـدأ الاصلاحي القـومي الاجتماعي هو انـتاج زراعة الأمة كـل الأمة .ولخدمة مصالح الأمة كـل الأمة . ولرفاهية الأمـة وازدهارها كلها . فلا يسيطـر عليه اقطاعي ، أو راســمالي فردي أو شــركة خصوصية ، أو محتـل استعـماري حتى ولا رجال الحكومة . لأن تفويض الأمة الوحيد لدولتها او حكومتها هي أن تكون الدولة دولة رعاية مصالح الشعب كل الشعب في جيله الحاضر وأجياله الآتية ، فضلا عن الاعتناء بكل تـراث الشـعب التاريخي و الحضاري . وكذلك ايـضا فان التفويض الوحيد للحكومة ان تكون مؤتمنة وساهرة على اعداد وتحسين وصيانة وحماية مشاريع زراعة ألأمة . والاهتمام بتحسين مستوى حياة الفلاحين العاملين في جميع حقـول الزراعة ، والذين يشكلون القـوى الأهـم التي تـنـتج غذاء الأمة طعاما ً وشرابا .
وبما ان العلاقة متينة بين الـزراعة وتـدجين الحيـوانات وتربـيتها للحصول على الغـذاء اللحمي وعلى ما يمكن استخراجه والحصول عليه من الحيـوان كالحليـب وألألبان والأجبان والمواد الدهنية والـزبد والبيض ، فان تربـية الحيــوانات والطيـور والأسماك هي عـمل انـتاجي هـام يجـب الاهـتمام بـه ورعايته والاعتـناء بـه
وتسهيـل كـل الوسائـل التي تساعـد على تقـويـته وتعـزيزه، و توفيـر كل الضروريات والحاجات التي تجعل منه ثروة غذائية قـومية اجتماعية تلبي حاجة أبناء ألأمة ، ولا تضطـرهم الى استـيـراد هـذه المواد الغذائية من الخارج .
( و ) ميدان الإنتاج الصناعي
ان التطور الاجتماعي الذي حدث بعد اختراع الحروف الهجائية التي أدت الى تفـوق القـوى العقلية في الانسان كان تمهيـدا لظهورثـورة صناعية هائـلة وطـور جـديـد هو طـور الآلة التي حلت مكان الكثير من العمال ،وجعلت الانتاج يـزداد بشكل كبيـر.ويوفر الجهد والوقت لليد العاملة المنتجة .
فتـفـوق القـوى العـقـلية في الانسان على القـوى الغريزية أدى الى تفتح المـواهب الانسانية الابـداعية التي اختـرعت المحرك والآلة بعد ان كان يعتمد على المعـزق والمحراث والأدوات البسيطة والعضلات . وباختراع المحـرك والآلات اصبحت سيطـرة الانسان على العـوامـل الطبيعية وعلى البيئة أكبر وأقوى ، فكانت الثورة الصناعية فاتحة لعصر جديد ، ودرجة جـديـدة في حـركة التـقـدم البشـري ، حـيـث قامـت المعـامـل والمصانـع والصناعات الكبيرة التي جمعت مئات بل آلاف العمال في شتى الصناعات ، فنشــأ عن ذلك نظام جـديـد هـو النظام الـرأسمالي الفـردي الذي سـخـَّر ويُـسخـَِر العـمال لمصالح خصـوصيـة وفـرديـة أو لمصالح اجـنبـيـة استعمارية . وبدلا ً من ان تكون الآلة محررة للناس ومطلقة لقـواهـم العقلية والابداعية غدت بفضل سوء النظام وسيلة استعباد ، وآلة قهـر لعشرات الملايين من العمال المنتجين ولذلك فان النظام القومي الاجتماعي جاء ليضع حدا للنظام السيء الذي يتحكم بالعملية الانتاجية الصناعية ، ويضع الامـور في موضعها الصحيح باعتبار ان الانـتاج الصناعي هـو انـتاج عام، اشترك في تحقيقه جميع ابناء المجتمع، وقام على اساس تعاونهم وبفعل جهودهم جميعا ، ولا يجوز أو يحق ان يستأثر به إقطاعيون أو رأسماليون أو فئويون أو إنتهازيون أو شركات أو موظفون يعملون لحساب أفراد من المجتمع أو من خارج المجتمع.
يقول سعاده في شرحه للمبدأ الاقتصادي في المحاضرات العشر :
"إن الأمة التي تبقى في حالة زراعية محض تبقى حتما ً مستعبدة للأمة التي هي منظمة صناعـيا ً تنظيما ً عاليا ً يمكنها من احداث الآلات الصناعية والحربية لإخضاع أي شعب لا يخضع لأحكامها الإستبدادية . "
وبناء على ما تقدم فان سعاده يقول :
" إننا نرى أنه لا بد للـدولة القومية المقبلة من أن تسيـر في إيجاد حالة صناعية في هـذه البلاد تـُخرج الأمة من حالة الرق للنظام الرسمالي القائم على الصناعة الكبرى في الأمم الكبيرة المتقدمة ."
لكل ما تـقـدم فانه لا غنى للأمة ابـدا ، ولا بـد لها من انشاء صناعة لها تـنهـض بالبلاد ، وتـلبي حاجة ابناء الأمـة من الصناعات التي تستـطـيـع انتاجها الأمة، بدلا ً من استيرادها من الخارج . وهذا لا يعني الانعزال عن الخـارج ، بـل يـعـني ان على الأمـة ان تعـتمدعلى نفسها في ما تستـطيـع انـتاجه وتصـديـره ، ولا تستـورد الا ما لا طاقة لها على انتاجه ، او ما يكـلفها باهـظا ً . وبهـذا تكـون قـد حمت نفسها وصناعـتها من سيطـرة الدول الأخرى , وقامت بما عليها من تقوية وتحسين انتاجها دون انعزال.
ان الأمم التي تـريد ان تـنهض لا بـد لهـا من ايجـاد صناعات تساعدها على التقدم والرقي ، وتجعلها جديرة باحتـرام نفسها واحترام الأمم الاخرى لها .
( ز ) ميدان الانتاج التجاري
ان التجارة كانت ولا زالت من اهم العوامل المساعدة على تقوية الانتاج في المجتمع ، وعلى توطيد دعائم النموّ الاقتصادي ، وتسهيل عمليات التبادل الخارجي والداخلي وكذلك تحسين العلاقات بين ابناء المجتمع في الداخل وبين الشعوب في الخارج . ولذلك فان العامل التجاري له علاقة وثيقة وفاعلة في جـميع مياديـن وحقول الانتاج المتعددة . وبقدر ما تكون التجارة تجارة ً راقية وتقوم على قواعد وأسس راقية تلبي حاجات المواطنين ، وتخدم مصالح الأمة دون ان تضر بصالح الأمم الأخرى , فانها تكون عاملاً مهما ً في ترقية الاقتصاد القومي الاجتماعي وكذلك ايضا ً عاملا قويا ً ومهما في التقريب والتـوازن بـيـن مصالح الشـعـوب المحبة للحـضارة والمـدنـيـة والــرقي.
أما اذا كانت التجارة لا تقوم على الأسس السليمة المشار اليه ، بل تقــوم على اســـس ومباديء فـرديـة وفـئـويـة واحـتـكاريـة ولصوصية يـمارسها لصـوص ومحـتـكـرو ثـروة المجـتمع مـن ابناء المجـتمع . ولصـوص ومستـعـبـدو الشــعوب ومغتصبو ثرواتها من الأمم الأخـرى ، فإن الحالة تختلف كثيـرا ً ، والأمور تســوء وتـتعـقـد بـين المواطنين في داخـل المجتـمع وكـذلك تــضطرب العلاقـات بـين الأمم ، وتـتناقض مصالحها ، وتســوء وتـتـدهور علاقاتها فـيما بينها ، وتـنفجـر الحروب والمآسي . فـتكـون التـجـارة في هـذه الحالة وســيـلة استـغـلال وظـلم تـؤدي الى انحطاط مجتمعات كثـيـرة ، وسيطـرة مجـتـمـعات استبـداديـة قـليلة أخـرى مولـدة الكـراهـية والبغـضاء في المجـتمع الـواحد وبين المجتمعات المتعـددة .
ان التجارة في مفهومها القـومي الاجتماعي هي كما عبر عنها سعاده :" علم وفن التعامل مع الناس . " وهذا العلم الفـني او الفن العلمي يجـب ان يكون لمصلحة الكل في الـداخل ، ولمصلحة الـكل في الخـارج ايضا ً.أي لسد حاجات المواطنين عامة ً في داخل المجتمع ولتأمين مصالح المجتمعات وتوازنها في علاقاتها فيما بينها . فلا يكون أناس في الأرض وأناس في السماء . ولاتكون أمم في النعيم وأمم في الجحيم .
ان النظام القومي الاجتماعي يقوم على قاعدتي الحق والعدل . الحق والعدل في جميع ميادين الانتاج . والحق والعدل في جـميع مستـويات التـوزيع بشكل لا يُقهـر فيه أحـد ، ولا يُظلم فيه شعب بل هـو الاحترام الكامل لكل مواطن في المجتمع . واحترام كامل لحقوق كل شعب . انه نظـام الاحتـرام المتـبادل . ونظـام العلاقات الـراقية . ونظـام وضع أسـس النظـام العالمي الجـديـد الـذي يعـمـل لتـرسـيخه وتعـزيـزه الإنسـان ـ المجتمع .الانسان الناهـض إنسان ـ النهضة الـذي تسـعى الى تحـقـيـقـه الحـركة السـوريـة القـومية الاجتـماعية ،والذي بشـرت بـه مـدرستها الفكرية الرائـدة ولا تـزال تعـمل بجـد واجـتهاد واخلاص في نشـر الـوعي الجـديـد والمفاهيم الجـديـدة : مفاهيم النظـرة القـومية الاجتماعية الى الحياة والكون والفن في رســالة ســامية . رسالة الانسان ـ المجتمع الى جـميـع بني البشر في جميع الأمم .
هذه الرسالة هي رسالة احترام مصالح الأمم ومطامحها في العـيش الرغـيد، وليس تـهـيـيج المطامع ، وإثارة عوامل الجشـع وفـواحش الظـلم والاحتكار المدمرة للعلاقات الانسانية السليمة .
وكما تـتضح ثـورية النظام الاقـتصادي القومي الاجـتماعي على الصعـيـد الداخلي في التصدي لنظام الاقطاع والسعي لالغائه ، فان النظـام القـومي الاجتماعي الاقتصادي يتصدى بقوة لنظام الرق الأممي المسيـطـر في هــذا العصر . فبعد ان انتهى عهد العبـودية الفـردية وتجارة العبـيـد واحـتـقـار واستعباد الناس وتسخيرهم وبيـعهم في اسواق النخاسة ، أطـل عـلينا هـذا العصر بما هو أسوأ وأردأ وأحط وهو عصر استعباد الأمم والشعـوب بـدل اسـتعباد الافراد . ان مبدأ حياة الأمم وتقدمها ورقيها هو في غاية الأهـمية وفي مقـدمة المباديء التي يجـب احتـرامها . وكما لم تعـط أيـة أمـة حـق الاعـتـداء على غيـرها . فإنه لم يـكتـب على أمة أبدا ً أن تخضع للإعـتـداء وأن تـقـبـل بالـذل والعـبـودية . بل عليها كما أوضح سعادة " أن تـنظـر في مصالح حياتها بالنــسبة لمصالح الأمـم الأخـرى ولمطالبها العليـا " لأن " كل أمة لا تنظر في وحـدة مصالحها ، وتســمح لهـذه المصالح بالتفـكـك والانـقسام بعضها عن بعـض في تحـزبات طبـقية لا تعـاونية ، أمـة يأكـل بعضها بعضا ً ، بـينما الأمـم الأخـرى تـنـتظر ضعفها لتـلتهـمها جـملة. "
لقد أصبحت التجارة الخارجية في هذه الأيام اهـم من الجيـوش العسكـرية في غزو الشعوب واستعبادها والسيطرة عليها واستغلال خيراتها .
ولهذا فان نوع التجارة والاتجاه التجاري في النظام الاقــتـصادي القـومي الاجـتمـاعي هـو التجارة التي تقـوم على أسـاس الأخـوة القـوميـة والعــدل الاجـتـماعي الحقـوقي وانـصـاف العامليـن المنـتجـيـن في داخـل المجـتـمع ، وصيانـة مصالح الأمـة المادية والنفسـية الاسـاسية والكبـرى المـؤثرة على وجـودها وحياتها ومستقـبلها في علاقـاتها الخارجية مـع غـيـرهـا من الأمم الأخرى.
من كتاب : مفاهيم قومية اجتماعية
|