ذكرها الامين د. عبدالله سعادة في كتابه "اوراق قومية"، أشار إليها الامين د. منير خوري دون ان يسميها، في مذكراته "سفينة حياتي"، وأهداها الامين موسى مطلق كتابه "ليلى"، وقد جاء في المقدمة: الى رفقائي الذين عرفوا في ايام التجربة القاسية، ليلى.. الانسان، التي نقلت القيم والمناقب من عالم التجريد الى واقع التجسيد، والى كل ليلى في بلادي، أهدي ليلى... الكتاب.
بدوري عرفتها. كنت اتولى مسؤولية رئيس مكتب الطلبة في ستينات القرن الماضي وكانت المواطنة اللامعة، ليلى جدع متحركة، ناشطة، ومتفانية في سبيل التخفيف من معاناة رفقائنا في الاسر. دورها إزاء الامين موسى مطلق وقد رافقت معاناته بعد ان بدأ الداء الخبيث يقتات من عافيته، معروف، كذلك زياراتها العديدة لتفقد الرفقاء الاسرى، وتنظيمها تصريف انتاجهم من الخرز، عبر اقامة معارض او الاشتراك في معارض في امكنة متفرقة.
وكنتُ كرئيس لمكتب الطلبة، التقي بها باستمرار، ونوّجه الطلبة من الرفقاء والمواطنين الاصدقاء للمساهمة في تنظيم دوام في اجنحة المعارض الخاصة بانتاج الرفقاء الاسرى، فكانوا يصرفون الساعات قبل الظهر / بعد الظهر / ومساء في الجناح الخاص باشغال الرفقاء، بيعاً للمنتوجات الرائعة، من لوحات وجزادين من اشغال خرزية جميلة، واخرى متنوعة: " قطع موزاييك من قشر البيض المسلوق. وقسور خشبية رقيقة، ومن البحوص (الحصى) الطبيعية الصغيرة الملونة التي يجمعها بناء على طلبنا بعض اهالي رفقائنا من على شاطىء البحر، وغيرها من عشرات القطع الجميلة" ("سفينة حياتي" ص 140-141).
تلك المنتوجات كانت تباع. الرفقاء والرفيقات الطلبة ينظمون الحركة المالية، وتتسلمها السيدة ليلى جدع، وبدورها تسلمها الى الرفقاء الاسرى الذين كانوا يؤمنون جزءاً جيداً من مصروف عائلاتهم.
من تلك المرحلة استذكر بتقدير الرفقاء والرفيقات يوسف سالم، اليدا سالم، طنوس طعمة، مهى سعادة، بسام مخول، وكثيرين غيرهم ممن كانوا يتطوعون لهذا العمل. وأستذكر ايضاً الجناح الذي يقام كل سنة ضمن معرض في بناية سينما ستراند، بشارع الحمراء، وفي بناء مدرسة في الاوزاعي، وفي غيرهما ايضاً ممن لا تسعفني الذاكرة لتعدادها.
يكفي اننا اذ نتكلم عن معاناة رفقائنا الاسرى، لا بد ان نتوقف كثيراً امام تفاني تلك المرأة، ليلى جدع، التي صرفت سنوات غير قليلة وهي تتابع الرفقاء الاسرى، تهتم، تعنى بشؤون المرضى والمعوزين منهم، تتفقدهم، وتخفف من عذاباتهم.
*
لعل القصيدة التي يتوّج الامين موسى مطلق ديوانه "ليلى" هي لسان كل من عرف السيدة ليلى جدع، أحبها، وحكى الكثير عن فضائلها.
تلومينني أنيّ من الطين هل بدا
لعينيكِ أنيّ قد غُلبتُ على أمري
وتَنـســَيـْنَ أنيّ والترابُ يـشــدّني
سَــمَـوتُ كـغـصن الورد يـطـفَحُ بالعطر
فان كان ســـاقي في التراب يُســـيُ بي
فهذا عبيري جاء يحمله عذري
وما أنتِ إلاّ قيمةٌ تـســتحـثّـني
فتخفق اشواقي بأجنحة الشّــعر
فيا بسمةً شـــعّت بليلِ كآبـتـي
سيبقى مع الايام حُـبُّـكِ فـي صدري
وإنّ يــداً أســديتـِهـا لي حفظـتـُـها
وها هي تحيـا في الكتاب مدى العمر .
*
عن كتاب "اوراق قومية" للامين الدكتور عبدالله سعاده، هذا البعض من كثير عن الرفيقة ليلى جدع .
" ظلت معاملة السجانين للسجناء سيئة، كان الأكل رديئاً جداً، والأكثرية الساحقة من الرفقاء المسجونين في طرابلس لا يستطيع اهلهم ان يمدوهم بالضروريات من الملبس والمأكل والعلاج، هذا بالاضافة الى ان عدداً غير قليل من عائلاتهم كان يعاني حالات الفاقة الشديدة. فبدأت تنتشر في صفوف الرفقاء بعض مثالب التفرد والفوضى. وهنا بادر الامين منير خوري، بوصفه استاذاً في علم الاجتماع وصاحب خبرة غنية في موضوع الانعاش الريفي، الى البحث عن طريقة لإنقاذ الرفقاء من هذا الوضع، فوضع مشروعاً عنوانه الابرز تحويل السجن الى مدرسة ومشغل. وبكل وسائل الضغط المعنوي، وبالتعاون مع رفقائه، توصل الى تحقيق هذا المشروع، فقسّم الغرف ووزع السجناء حسب الحاجة، بحيث اصبحت كل غرفة تختص في حقل من حقول التعليم او الانتاج، وكان بين السجناء طاقات فنية وإبداعية. ولما كان الرفقاء قد بدأوا وعلى مسؤولياتهم الفردية بحياكة بعض السلع من الخرز الملون، كل حسب رغبته او هواه دون تصاميم مدروسة، فقد قام الرفقاء الموهوبون بوضع تصاميم لإنتاج الخرز على سوية فنية راقية، وطلب الى الجميع التقيّد بهذه التصاميم وبرامجها، وبدأ الانتاج على اسس فنية سليمة .
وكانت السيدة ليلى اديب جدع تلعب دوراً رائداً في تصريف هذا الانتاج في المعارض والمحلات. ولقد قصدتها مرة رئيسة المحترف اللبناني السيدة ادة تعرض عليها جزداناً من صنع فرنسا طالبة إليها ان يحاول السجناء تقليده، ولما عادت السيدة جدع بالجزدان المصنوع في السجن لم تستطع السيدة اده الا ان تعترف بأفضليته على الانتاج الفرنسي المتطور.
" اخذ الانتاج الفني بالازدياد والتنوع، وبدأ الرفقاء بانتاج سلع من الكرتون وقشر الخشب المسموح به في السجن، لأن إدخال الاخشاب وكل الامور الحديدية من مسامير وسواها كان ممنوعاً. وكان الرفقاء "يهرّبون" من المغاسل ومن العيادة الطبية بعض الشفرات للاستعانة بها. وتحسن انتاجهم في الموزاييك الخشبي وقشر البيض، وحتى انهم انتجوا غيتاراً وعوداً، ولا يزال العود موجوداً لدى الدكتور منير خوري حتى اليوم. ونُظمت الغرف بحيث تؤلف كل غرفة خلية انتاجية مشتركة، وكان العيش في كل غرفة مشتركاً، مع الحفاظ على حق كل فرد بانتاجه الفردي، على ان يحسم منه مبلغ للعيش المشترك في الغرفة، ونسبة خمسة بالمئة لصندوق الطوارىء، العام، فتحوّل السجن الى قفير منتج، وكان معدل انتاج الفرد الواحد في الشهر يتراوح ما بين المئتين والاربع مئة ليرة لبنانية آنذاك. وانعكس المد، إذ اصبح باستطاعة الرفقاء ان يسعفوا عائلاتهم في الخارج. أما المدارس فسارت بموازاة الانتاج، وتمّ تدريس اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية ومسك الدفاتر والمحاسبة داخل السجن وبالمراسلة. وفي هذا الجو انسجم الرفقاء جميعاً، باستثناء اثنين. واحداً لعجزه الوضعي، وآخر لعلته العشائرية التي ترى في العمل نقيصة لا تليق بوجيه ".
في سجن القلعة استمرت سياسة الانتاج والمدرسة في السجن التي كان رفقاؤنا قد بدأوها في سجن طرابلس. وتنوعت زيارات المدارس والمساعدات الاجتماعيات لنا، فضلاً عن الاهل والاصدقاء... وتولى الامين ادمون كنعان(1) مسؤولية ضبط الانتاج وحساباته. كما تولّت السيدة ليلى اديب جدع مسؤولية تصريفه.
" وكان اذا تعذر بيع شيء، تفرضه على أهلها او تشتريه هي. هذا بالاضافة الى اهتمامها المتواصل باوضاع عائلاتنا الفقيرة. كما ان جميع الوصفات الطبية التي كانت تُعطى للمرضى في السجن، كانت تشتريها هي وتدّعي انها تحصل عليها من مؤسسات خيرية .
" تحسنت اوضاعنا كثيراً في سجن القلعة لجهة حرية التنقل بين الغرف، وممارسة الرياضة البدنية ولعبة الكرة الطائرة "الفوليبول"، وإقامة مطبخنا الخاص نموّنه من التموين الناشف المعطى لنا ومن مشترياتنا. وبدأنا نشهد اقبال الطلبة من الجامعات لمقابلتنا، وكان رفقاؤنا الطلبة اذا ارادوا ان يكرموا زميلاً لهم، يصطحبونه لزيارتنا في سجن القلعة(2). وبدا واضحاً ان الثورة الانقلابية بذاتها كانت تعبيراً صادقاً عن كبت الشعب ضد هذا النظام، وأنه بالرغم من الاضطهادات القمعية البربرية أخذ الحزب ينتشر انتشاراً مطرداً وبخاصة في اوساط الطلبة، حتى اصبحنا الحزب الأكثر انتشاراً بين جميع الاحزاب في الاوساط الجامعية"
" أصيب الرفيق موسى مطلق ابراهيم بمرض في حنجرته، تبين انه سرطان في الحنجرة، ونقلت إلي السيدة ليلى جدع تفاصيل حالته الصحية من الاطباء في الجامعة الاميركية، الذين وقفوا بين خيارين: اما عملية جراحية راديكالية يخسر معها صوته، ولكنها تخفف خطر عودة السرطان، وإمّا المعالجة بالاشعة التي تحفظ له صوته، ولكنها تجعل خطر عودة السرطان اكبر. وطلبت إليّ ان نقرر اي اسلوب نتبع. استدعيت الرفيق موسى مطلق ابراهيم، وشرحت له وضعه الصحي والخيارين المطروحين. فاستمع إليّ دون ان يبدي اي نوع من انواع الانفعال او التهيب، وكأنه يستمع الى قصة لا تعنيه وأجابني بأعصاب هادئة الى حد البرودة: "أنت أمين وطبيب وأنت أقدر مني على القرار، فأرجوك ان تقرر عني ولك الشكر". فأخبرته انني افضل الجراحة. فقال: "لتكن الجراحة". وانصرف(3) "
هوامش
(1) ادمون كنعان: من كفرشيما ومن مؤسسي العمل الحزبي فيها. تولى مسؤوليات محلية ومركزية، منها عميد للمالية. شارك في الثورة الانقلابية، وسجن. بعد خروجه من الاسر توجه الى نيجيريا حيث اسس اعمالاً ناجحة، ثم انتقل للاقامة في باريس وما زال فيها، متقدماً بالعمر.
(2) تحدثت في اكثر من مناسبة عن دور الطلبة في ستينات القرن الماضي. مراجعة قسم "من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.
(3) مراجعة النبذة المعممة عن الامين الشاعر والباحث، موسى مطلق ابراهيم على الموقع المذكور آنفاً.
|