طالما رغبت ان اقرأ كتابه الثاني "في مواكب النسور" (1) انما كنت أؤجل ذلك تحت ضغط الاعمال الحزبية، في عمدة شؤون عبر الحدود، ولاحقا في لجنة تاريخ الحزب، وهذه ليست أقل من العمدة، لجهة تنوع الاعمال وضرورة إعطائها الكثير من الاهتمام والمتابعة.
مؤخرا صرفت وقتا للاطلاع على الكتاب، فشدني إليه، ورحت التهم صفحاته، معجبا بالاسلوب الممتع، وبالمرويات الامتع، ولمت نفسي كيف لم أقرأ "في موكب النسور" قبل اليوم، وبالتالي فإني ألوم كل من لم يقتن نسخة منه، ولم يقرأه فيتمتع، كما فعلت.
في الكتاب حقائق عاشها المؤلف، وصاغها بكثير من الصدق ليقدمها لنا زادا طيبا للروح وللنفس، وفيها مثل وقدوة، وراءهما رفيق يتمتع بمزايا، اقلها الصلابة والتفاؤل والقدرة على مواجهة المستحيل، وقد فعل ونجح.
الكثير من المرويات يصح ان تنشر. منها اخترنا ما يعني احد منارات حزبنا، الامين والاديب والقدوة حسن ريدان(2):
ل. ن
*
كانت زوجتي في زيارة لأهلها في لندن، الأمر الذي دعاني للتوقف يوميا في مقهى بفندق لآل الجوهري في منروفيا، قبل ذهابي إلى البيت.
لحينه لم يكن لي أي علاقة اجتماعية تجمعني بأي من المسؤولين الحزبيين، بل كانت علاقتنا مقتصرة على التعاطي الحزبي الرسمي. وتأثري بهم كان تأثرا حزبيا عقائديا فكريا أخلاقيا ووجدانيا.
التقيت في المقهى ثلاثة شبان أمريكيين، كنا نتجاذب أطراف الحديث عندما سألني أحدهم: من أين انت. قلت: أنا من لبنان. فصرخ آخر: آه أنت من بلد جبران خليل جبران إذا. قلت وبكل فخر واعتزاز: نعم.
ثم راح كل منا يدلو بدلوه عن أدب وفلسفة وأسلوب جبران. في عز النقاش دخل المقهى الامين حسن ريدان، كنت أعرفه، إذ شاهدته مرة أو مرتين من ذي قبل، فالامين حسن كان زائرا في ليبيريا وليس مقيما. لكن مميزاته كانت تترك أثرا كبيرا في كل من يلتقيه، يصعب معها نسيانه. أناقته وهو في منتصف الستينات من العمر، ثقافته الواسعة تفرض الإصغاء إليه وتشدّك بغض النظر عن ميولك السياسية أو الثقافية. ثم تاريخه الحزبي الذي يشهد على حنكته وقدراته القيادية.
جلس يصغي باهتمام شديد إلى أربعة أجانب يتحدثون عن جبران، فهو لا يعرفني ولا يبدو أني لبناني من حيث الشكل. طبعا كنت أود أن اقدم نفسي إليه معرّفا، لكني آثرت أن أفعل ذلك بعد الحوار، أو بعد أن يخلو لنا المجلس. بالتأكيد أخذ دوره في الحوار، وكيف لا يفعل ذلك وهو أمين في الحزب- وبكل ما يعنيه لنا جبران من الناحية الفكرية والوطنية والقومية- وأستاذ لغة إنكليزي في مدارس دمشق وبيروت.
وأخيرا، غادر الأمريكيون بعد أن شكرونا على الحوار الجميل والمعلومات الأجمل، وبقينا وحدنا. نهضت من مكاني واقتربت منه لأعرّف بنفسي، لكنه عاجلني بحوار آخر، فارتبكت وأكملت التحدث معه باللغة الانكليزية. ثم سألني: من أين انت؟ لكنه علّق قبل ان أجيب: لكنتك الانكليزية جدا محيرة، هل انت من احدى الدول الاسكندنافية؟
قلت: أنا الرفيق مصطفى الشيخ علي، تابع لمديرية منروفيا الأولى في منفذية ليبيريا العامة.
قال: إذن انت تعرف من أنا منذ دخولي هذا المكان!
قلت: طبعا
قال: وبالرغم من ذلك لم تعّرف عن نفسك.
قلت: أرجو أن تعذرني على ذلك، أردت الاستفادة من وجودك بالحوار الذي كان قائما مع الامريكيين، واعتقدت بأن تعارفنا كان ممكنا أن يفسد الحوار العفوي معهم.
طلب أن يلتقيني بحضور المنفذ العام الرفيق فؤاد صعب في صباح اليوم التالي، ليؤنبني ويشيد بمعلوماتي وثقافتي العامة.
كنا نلتقي كل يوم تقريبا خلال فترة وجوده في ليبيريا، ونتحدث بكافة المواضيع الثقافية.. فكان أول المشجعين لي للمثابرة على تثقيف نفسي.
وذات مرة روى لي هذه الحادثة:
"كنت وزوجتي في زيارة الى لندن لقضاء عطلة أعياد الميلاد ورأس السنه(1961-1962). وحصلت حينها المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الحزب. وبدأت الاعتقالات بالجملة والمفرق. جلست في البيت أنتظر حضورهم لاعتقالي، بالرغم من قناعتي ببرائتي. فأنا مقيم في سيراليون منذ سنوات، ووجودي في لبنان كان محض صدفة في هذا الوقت بالذات. لكن التعسف كان سيد الموقف، عوضا عن كوني أمينا في الحزب ومعروفا بانتمائي والتزامي. لكن حقيقة الأمر تبقى بأني لم أكن مشاركا في الانقلاب أو حتى على علم به.
انتظرت بضعة أيام في المنزل، قلم يحضر أحد لاعتقالي. فازدادت قناعتي يوما بعد يوم بأنهم لا يبحثون عني. بناء عليه حجزت مقعدين على أول طائرة إلى سيراليون.
بقي الافتراض الاقوى أن أعتقل في المطار لدى مررونا في الامن العام. لكن شيئا من هذا لم يحصل، فصعدنا الطائرة وتنفسنا الصعداء.
لسبب ما تأخر الاقلاع، وهذا التأخير كان مصدر إزعاج وتساؤل جميع الركاب، فعاد إلينا بعض القلق.
فجأة رأينا بعض رجال قوى الامن في الطائرة، وكانوا يتقدمون بإتجاهنا.. إلى أن وصلوا إلينا، فسألني أحدهم إن كنت الاستاذ حسن ريدان؟ قلت: "نعم". قال: "تفضل معنا".
أخذوني مباشرة الى المدينة الرياضية، حيث كانوا يجمعون المعتقلين هناك بعد أن امتلأت بهم السجون. تبين لاحقا أنهم اعتقلوا شخصا يدعي حسن ريدان، يعمل في إحدى محطات البنزين. هذا كان سبب تأخرهم باعتقالي.
أحضروا معتقلا شابا بهي الطلعة، وسيم الوجه بالرغم أنه تعرض للضرب، فآثار بعض اللكمات كانت واضحة على وجهه إذ تركت بعض الجروح.
أثارني بكاؤه، فاقتربت منه ورحت أطيّب خاطره وأرفع من معنوياته، لكنه ازداد بكاء وهو يردد "أنا لست حزبيا، أنا لست منكم" فأجبته بأن الكثير من المعتقلين ليسوا حزبيين، فلا بد أن تظهر الحقيقة وتخرج سالما بإذن الله.
هدأ روعه، وعاد إليه بعض الهدوء. في اليوم التالي نادوا عليه، وخرج برفقة رجلين من الامن. ولكنهم أعادوه بعد أن برّحوه ضربا، وعادت جروحه تنزف من جديد، وعدت أنا اطيب خاطره وأرفع معنوياته. وعاد يكرر "أنا لست حزبيا، انا لست حزبيا" وبعد أن هدأ بعض الشيء، راح يخبرني أنه في كل مرة يطلبون إليه الاعتراف بانتمائه للحزب، فينكر التهمة، فيشبعونه ضربا وهكذا دواليك.
وفي اليوم الذي تلاه، نادوا عليه مجددا واقتادوه إلى التحقيق، فحملت همه ورحت أهيئ نفسي للتخفيف عنه. لكنه عاد وهو يبتسم، فاقتربت منه وقلت له: يسعدني أنك تبتسم ماذا حصل؟ . فأجاب: "مثل العادة ونفس التحقيق، ولكني اعترفت بانتمائي للحزب قبل أن يبدأوا بالضرب، فوقعت على اعترافي ورجعت".
هوامش:
(1) مؤلفه الاول "هذا ليس كل شيء، مذكرات لبناني في الحرب الاهلية الليبيرية" صدر بالعربية ثم مترجما الى اللغة الانكليزية.
وهو شهادة مغترب(الامين مصطفى) عاش احداث الحرب الاهلية في ليبيريا، وتعرض مرارا للقتل
وتمكن بفضل جرأته وذكائه وثقته بنفسه ان يخرج منها كلها.
(2) كنت نشرت نبذة عنه، ثم ملحقا عنها. للاطلاع الدخول الى ارشيف شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية : www.ssnp.info
*****************************************
ابو تحسين لا ابو حمزة
في النبذة المعدة عن الرفيق الشهيد سعيد مطلق ابرهيم والمعممة بتاريخ 17/09، اوردنا اسم الرفيق حسن عبد الساتر على انه "ابو حمزة" .
صحيح ان الرفيق حمزة هو احد ابناء الرفيق حسن عبد الساتر، انما هو ابنه الرابع، فيما تحسين هو بكر الابناء، فهو اذن ابو تحسين.
نشكر الرفيقة زينب عبد الساتر على التصحيح الوارد آنفاً.
|