مقهيان وسط بيروت عرفا زخم النشاط القومي الاجتماعي في اوائل سنوات التأسيس، الاول لصاحبه الرفيق نعيم فتوح(1) عرف أيضاً "بمنتدى فتوح" لأنه كان ملتقى الكثير من الادباء والشعراء والعاملين في حقل السياسة، وكان يقع غربي ساحة الشهداء(2)، والثاني "مقهى عارف" لصاحبه الرفيق عارف القاضي من بيصور وكان يقع الى جانب سنما هوليوود سابقاً، شرقي ساحة الشهداء(3).
يفيد الامين عبد الله قبرصي (الصفحة 87 من الجزء الاول من "عبد الله قبرصي يتذكر") انه وراء انتماء الرفيق نعيم فتوح الى الحزب " فعمل مدة نشيطاً مقداماً ثم غادر الى ولاية ميسيسبي في الولايات المتحدة، حيث شقيقه الاكبر” . ويضيف: " في هذا المقهى تلاقيت مع يوسف الدبس، الشاعر والاديب، اياماً قليلة بعد انتمائي فاسريت له بوجود الحزب وشرحت غايته ونظامه ثم انطلقنا الى "خان انطون بك" في نفس المكان الذي ادخلتُ فيه الدكتور زكي النقاش. وهناك، بحضور الزعيم والرئيس نعمة تابت، اقسم اليمين بعد ان شرحنا له بالتفاصيل عقيدتنا السورية القومية وشددنا على الشخصية المستقلة لسورية الطبيعية التاريخية ".
بدوره يتحدث الامين يوسف الدبس في كتابه "في موكب النهضة" (ص: 19) عن مقهى فتوح حيث شاهد سعاده لأول مرة، وكان ذلك في شتاء العام 1934 فيقول " كان هذا المقهى يوم ذاك ملتقى ادباء البلد وقد ضمّنا مجلس حافل جمع المرحومين ميشال زكور صاحب جريدة "المعرض" وجبران تويني صاحب جريدة "النهار" وفخري البارودي رئيس الشباب الوطني في دمشق، والشاعر امين نخلة. في هذه الاثناء دخل علينا الصديق عبد الله قبرصي وكان قد مضى عليّ ثلاثة أشهر لم أره خلالها وانضم الينا يشاركنا الحديث والشراب. وبعد نصف ساعة تقريباً دخل شاب اسمر اللون منبوش الشعر يلبس الجزمة ويتأبط دفتراً صغيراً وجلس في الزاوية وحده بعد ان القى التحية على الحاضرين واخذ دفتره وقلمه وراح يدوّن ما يجول في خاطره، وكنت ألاحظ انه يفعل ذلك كلما تحدثنا عن السياسة فخفت أن يكون أحد مأموري الامن العام وان يكون السجن نصيبنا بعد هذه الجلسة، فسألت امين نخلة وكان بالقرب مني: "هل تعرف هذا الشاب؟" فقال: "هو استاذ في الجامعة الاميركية". وإذا بالاستاذ قبرصي وكان قد سمع سؤالي يضغط على يدي خفية ويقول: "ستعلم ذلك اليوم فاتركها لي"....
انتهت الجلسة وإذا بالاستاذ قبرصي ينتحي زاوية قائلاً: "أتذكر اجتماعنا الاخير في رأس بيروت؟" فقلت: "نعم". قال: "اتذكر انك قلت لي ان بلادنا تحتاج الى حزب منظم يقوم على رأسه رجل قوي جريء يضرب بيد من حديد يقود الامة الى الصواب؟ ". قلت: "أذكر ذلك جيداً". قال: "إن الحزب الذي قلت عنه قد وجد ولعلّك قد تنبأت عنه، فهل لك أن تعمل في صفوفه؟ ". وراح يشرح لي مبادئ واشياء أعجبتني جداً فاستسلمت إليه وقادني الى خان انطون بك حيث قرع باب احدى الغرف قرعاً استرعى انتباهي ودخل فدخلت معه وشد ما كانت دهشتي عندما رأيت الشاب المنبوش الشعر الاسمر الجذاب جالساً وراء طاولته فتوجه إليه عبد الله قائلاً: "هذا يا سيدي هو صديقي الذي أُخبرتم عنه". فاستقبلنا بكل حرارة وأخذ يفند لي القضايا القومية بشمولية وعمق بالغين وذلك بأسلوبه البديع وكنت مأخوذاً بسحر بيانه وجاذبيته ولم أكن لأصدق أن رجلاً مسيحياً من لبنان يفكر هذا التفكير الجريء.
" وأنا لا أزال حتى اليوم كلماته التاريخية ومما قاله: "نحن أصحاب عقيدة قومية اجتماعية نعمل لهذا المجتمع لنوحّده من جميع الوجوه الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وسواء فهمونا أم أساؤوا فهمنا فإننا نعمل للحياة ولن نتخلى عنها، فليست القومية إلا ثقة قوم بأنفسهم. وأما ارادتها فنحن الذين نقرر لها كل شيء".
ثم وقف الشاب ووقفنا معه وأنا أرتجف رهبةً وإماناً ورفعنا يدنا بالتحية القومية ورحت اردّد ما يقوله المعلم: "أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي أن ...............".
من جهته، يفيد الامين جبران جريج ان الرفيق نعيم فتوح كان وراء انتماء الامين الياس سمعان.
" يقول في الصفحة 306 من مجلده "من الجعبة – الجزء الاول" ما يلي: " كذلك تثمر اتصالات الرفيق نعيم فتوح بالياس سمعان والتي دامت اكثر من ثمانية اشهر بين تلميح ومداورة حول موضوع الحزب عن استدراجه الى المكتب الحزبي السري في شارع فوش المموه بتنك زيت الزيتون الموجودة برسم البيع ومقابلة الرفيق جورج حداد".
"بعد أخذ ورد اقتنع الياس بالمبادئ السورية القومية الاجتماعية وقرر الانتماء الذي جرى في احدى غرف هذا المكتب بوجود الرفيق موسى سليمان الذي كان يرئس فريقاً فنياً للتمثيل كان الياس احد اعضائه. فرفع يده اليمنى زاوية مستقيمة. واقسم اليمين".
"كان الرفيق الياس سمعان قد لاحظ ان شخصاً رابعاً كان موجود في الغرفة لكنه لم يعره انتباهاً كافياً، ولكن بعد ان اقسم اليمين رأى هذا الشخص ينسحب بهدوء ويخرج من الغرفة واذ بالرفيق نعيم فتوح يقول له: "هذا هو الزعيم، هذا هو انطون سعاده" وبغتة تذكر انه كان يشاهده يسير على رصيف الطريق في رأس بيروت الى جهة المباني"، ملاصقاً لها وانه كان يقول بينه وبين نفسه، عندما يشاهده "تبدو على هذا الانسان سيماء فيلسوف" والان بعد انتمائه يكتشف ان زعيم الحزب هو فيلسوفه الكبير".
*
اما عن مقهى عارف فيفيد الامين الامين جريج في الجزء الثاني من "من الجعبة" (ص: 184)، انه كان يقع في الزاوية المقابلة لمطعم ابو عفيف سابقاً – ساحة الشهداء – الى جانب سينما هوليوود. انه مقهى ومطعم، اثاثه متقن وجميل وقد كان ملتقى الشباب على مختلف مشاربهم، لكنه في الفترة هذه التي اتكلم عنها اصبح ملتقى رفقاء عارف بصورة خاصة اذ ان عارف القاضي من بيصور صار سورياً قومياً اجتماعياً.
هوامش
(1)يفيد الامين قبرصي انه من بلدة المنصف، ومن قرية الرفيق جميل شكر الله (اي جدايل) ويضيف
ان الرفيق نعيم استقر في الولايات المتحدة، وفيها فارق الحياة. هو ابن عائلة من 6 شباب.
(2)من المنطقة الكائنة حالياً بين مسجد الامين وكاتدرائية مار جرجس المارونية وبناية اللعازارية.
(3)الى يمين الشارع الممتد حالياً من ساحة الشهداء باتجاه الجميزة، المسمى شارع غورو.
|