كان وراء نشر كتاب "الرابطة"(1) فمتابعة الرفيق الفنان عارف ابو لطيف(2) في صنع تمثال نصفي للدكتور خليل سعاده وعندما تمّ نقل التمثال الى "ضهور الشوير" سعى مع رئيس بلديتها حينذاك الدكتور جبرايل صوايا، الى اختيار قطعة أرض مناسبة تحوّلت الى حديقة، تمّ في وسطها وضع التمثال النصفي فوق قاعدة رخامية، هو "الوجيه غطاس خوري" (ابو رياض) ابن "كفرقوق" القرية الصغيرة المجاورة لبلدة "راشيا الوادي"، عند سفح جبل "حرمون"، الذي كان غادرها يافعاً الى سان باولو، كافح وعانى ونجح، مؤسساً المصانع ومحققاً حضوراً مميزاً وسط الجالية.
كان صديقاً شخصياً للدكتور خليل سعاده، عرفه جيداً وأحبه، كمعظم ابناء الجالية، وبقي وفياً لذكراه، حتى إذا باشر الامين نواف حردان جمع آثار الدكتور خليل، كان غطاس خوري الأكثر اهتماماً، واضعاً مكتبه الكائن في أحد أهم الشوارع التجارية في سان باولو(3) بتصرف الأمين نواف، الى جانب ذاكرة عجائبية كانت تحفظ الكثير من المرويات عن الدكتور خليل، يرويها باللهجة المصرية التي كان الدكتور خليل يتحدث بها، بسبب إقامته لسنوات في مصر.
عندما تمّ نقل تمثال الدكتور خليل سعاده الى لبنان، كنت أتولى مسؤولية رئيس مكتب عبر الحدود، مواكباً اتصالات "ابو رياض" والفنان الرفيق عارف ابو لطيف مع أركان بلدية ضهور الشوير(4).
عند قراني من ابنة صديقه الامين نواف حردان، اخلاص، حضر العرس، وكان مشاركاً في الفرح والبهجة.
التقيت به اكثر من مرة في لبنان، وكثيراً في البرازيل عندما غادرت إليها.
كان صديقاً للحزب يحضر مناسباته ويتابع أخباره باهتمام ويحكي عنه كل جيد في لقاءاته الكثيرة مع الجالية.
بعد رحيله، تابع ابنه المحامي رامز تنفيذ وصية والده. حضر الى لبنان، ورمم منزل العائلة وقدّمه داراً لبلدية كفرقوق، الى تقديمات اخرى هي محط تقدير ابناء "كفرقوق" والمنطقة.
كان السيد "ابو رياض" يتعاطى معي بحب وأبوة، يوليني الثقة، ويشعرني كأني واحداً من ابنائه.
في العدد الخاص من "سورية الجديدة"، الذي أصدرته منفذية البرازيل عام 1983 في فترة تواجدي في البرازيل وتولّي مسؤولية المندوب المركزي، كان لنا الحديث التالي مع الصديق غطاس خوري ننقله كما تمّ نشره في العدد المذكور.
*
غطاس الخوري احد اقطاب "الرابطة الوطنية السورية" عرف الدكتور خليل سعاده حق المعرفة، ورافقه في سنواته الاخيرة، عندما كان يرأس تحرير جريدة "الرابطة" ويلقي على الجالية دروسه القيمة في الوطنية والقومية وكيفية مكافحة الاستعمار.
لا يملّ "ابو رياض" الحديث عن صديقه المعلم الدكتور سعاده، ويغوص في أعماق الماضي فتجود علينا ذكرياته بالمعلومات التالية:
- كيف تعرفت على الدكتور سعاده؟
• أتاني الأديب شفيق عماد، أحد اقطاب "الرابطة الوطنية السورية" زائراً ذات يوم من عام 1929، ودعاني لمرافقته للتعرف على الدكتور سعاده الذي كان يقطن في فندق "يونان" شارع فلورنسو دي أبريل، فلبيت دعوته وذهبنا سوية...
فاستقبلنا الدكتور بترحاب وبشاشة، وكان جليلاً مهيباً جميل الوجه يكلل الشيب رأسه، يناهز السبعين من عمره. وصار يحدثنا عن القضايا الوطنية وضرورة إيجاد نهضة والقيام بالتوعية بين المغتربين لدعم نضال المناضلين في الوطن الذين يكافحون الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، فقرّ رأينا على ضرورة إصدار جريدة تقوم "الرابطة الوطنية
السورية" بدعمها، وعندما سمعت شفيق يشكو من قلة المال لإصدارها، ابديتُ استعدادي للمساعدة وتكفّلت بسد العجز عنها شهرياً في حال حصول ذلك فيما إذا قبل الدكتور أن يتولى رئاسة تحريرها، فأجاب بانه يفعل ذلك إذا تعهدتُ انا بسد العجز عنها طالما اسمه عليها، وهكذا بعد عدة أيام قليلة صدرت جريدة "الرابطة" التي صارت، برئاسة الدكتور سعاده، الصوت الوطني الداوي في البرازيل، وكانت مقالاته القيّمة خالدة تنشر الوعي والوطنية بين المغتربين وتُصلي للاستعمار نار حرب حامية، مما أدى الى منع دخولها الى الوطن، وكان موضوع اول افتتاحية كتبها الدكتور سعاده: "خطر الصهيونية على العالم"، فأحدث نشرها دوياً كبيراً، وطلبنا من الدكتور ترجمة المقال للإنكليزية ففعل، وأرسلنا الترجمة الى عصبة الأمم في جنيف والى جميع الدول الأعضاء فيها.
- كيف كانت الجالية تستقبل مقالات الدكتور سعاده؟
• كان الناس ينتظرون صدور الجريدة بفارغ صبر.. ليقرأوا ما يجود به عقل ذلك الرجل الجبار، ولم تمر السنة الاولى حتى حدث انقلاب كبير في التفكير، وبعد ان كان اكثر المغتربين يسبّحون باسم فرنسا وبريطانيا، تغيروا وصاروا يطالبون بالاستقلال والحرية، ولا أبالغ إذا قلت أن الدكتور سعاده كان رائد الأدب والثقافة والفكر.
- هل بالإمكان ذكر بعض اعضاء "الرابطة الوطنية السورية"؟
• نعم.. شفيق عماد، كبريال يافث، مخايل بشارة، توما توما(5)، ايليا سعد، ادوار مرقص، اسد يافث، جورج ليان، نديم شحفة، حسيب كعدي، وغطاس الخوري. ثم انضم إليها بعد أن انتخب الدكتور سعاده رئيساً شرفياً لها، الشاعر القروي الياس فرحات، حسني غراب، ميشيل مغربي(6)، موسى حداد، مدحت غراب، داود شكور، توفيق قربان، نظير زيتون، عبس يزبك، انطون جراب، أسعد بشارة، رشيد شكور، نقولا بك، لبيب قطيط، جورج حسون المعلوف، وفارس الدبغي.
- هل كان في البرازيل نهضة ادبية قبل الدكتور سعاده؟
• كانت هناك نهضة ادبية ضعيفة، كان بعض الشعراء ينظمون فقط، ولكن بعد ان بدأ الدكتور سعاده الكتابة
والتوجيه الوطني، انتعش الادباء والشعراء.. وانطلقت الحركة الأدبية الى نشاطات كبيرة.
- كيف استقبل الدكتور سعاده اخبار ابنه انطون (الزعيم) بعد عودته من الوطن.
• حمل له ذات يوم شفيق عماد مجلة "المجلة" التي أصدرها انطون (الزعيم) في بيروت في أوائل الثلاثينات وفيها مقالات له، وعندما قرأ الدكتور إحدى تلك المقالات ظهرت عليه بوادر الاهتمام والإعجاب الفخور وقال: "ان ابني انطون كان خارق الذكاء منذ صغره، انه يبدو في هذا المقال مفكراً كبيراً جداً، ولا استغرب إذا بدت منه اعمال مفاجئة ".
- اذكر لنا بعض ما قامت به "الرابطة الوطنية السورية" في عهد رئاسة الدكتور سعاده.
• كتب الدكتور مقالاً عنوانه "ميسلون" اهتزت له الجالية، فسارعنا ووجهنا لها نداء نحثها فيه على التبرع لصنع تمثال للبطل السوري يوسف العظمة، فلبّت الجالية النداء، وجمعنا المال وصنعنا التمثال، وأرسلناه الى دمشق وهو التمثال المرتفع اليوم أمام نادي الضباط في العاصمة السورية، كذلك قمنا بصنع تمثال لأمين الريحاني بناء على رسالة جوابية لنا يوافق فيها على صنع التمثال بشرط أن يوضع في وادي الحرير، نظره متجه الى جبل حرمون، ويكون في نقطة الحدود بالضبط: نصفه في لبنان ونصفه في سورية، ليكون همزة وصل بين البلدين، كما قامت الرابطة بالتظاهرات الكبيرة وإرسال برقيات الاحتجاج، وأقفلت شارع 25 دي مارسو(7) عندما قصفت القوات الفرنسية البرلمان السوري. والجدير بالذكر هو ان الدكتور سعاده كان في أوائل العشرينات صاحب فكرة صنع تمثال كبير تقدّمه الجالية للبرازيل بمناسبة مرور مئة عام على استقلالها، وهو التمثال الكبير النادر المثال القائم اليوم في "بارك دون بيدرو الثاني" في سان باولو.
- وهل لديك معلومات عن ابن الدكتور.. الزعيم انطون سعاده.
• لقد التقيته مرة واحدة عام 1929 قبل ان يسافر الى الوطن ليؤسس حزبه هناك، وكان شاباً وسيماً جميلاً انيقاً جعد الشعر. دخلت معه والمرحوم داود شكور الى احد المقاهي، وتحدثت معه ما يقارب النصف ساعة، وسمعته يتحدث عن قضايا وطنية وعلمت منه أنه هو الذي أسس "الرابطة الوطنية السورية" عام 1925 لتكون حزباً سرياً في البدء، ثم انسحب منها لإصرار أعضائها الاوائل على كشف امرها حباً بالظهور، وكنت قد عرفت من البعض أنه أسس حزباً سرياً فيما بعد في سان باولو ثم حلّه لعدم تكامل الوعي لدى اعضائه، وكان هو أول من سار مكشوف الرأس بدون برنيطة في تلك الأيام.
- كيف استقبلت الجالية خبر إعدام الزعيم عام 1949؟
• اضطربت الخواطر، وسقط الخبر على الجالية سقوط الصاعقة، وتنادت الجالية لعقد اجتماع كبير في مقر "الرابطة" وقررت ارسال برقيات الاحتجاج والاستنكار للحكومة اللبنانية، وأقامت جنازاً كبيراً في الكاتدرائية الارثوذكسية حضره الألوف من الجالية.
*
معلومات
• رزق الصديق غطاس بأبناء ثلاث: رياض، رامز وسمير وجميعهم محامون معروفون وسط الجالية في سان باولو.
• إذ أذكر "كفرقوق" لا يسعني إلا ان اذكر معها الشاعرين المهجريين مخايل مخول خوري الذي أصدر ديوان "وادي التيم" ويوسف موسى البلوداني صاحب ديوان "حنين المهاجر" وقد كنت كتبت عنهما، كما اذكر بتقدير الرفيق الشهيد ياسر شموط الذي عرفته مميزاً بجرأته والتزامه الحزبي.
هوامش:
(1) اصدره الامين نواف حردان عام 1971 وفيه، الى المقدمة وترجمة الدكتور خليل سعاده من إعداد الأمين نواف، مجموعة ممتازة من مقالات الدكتور خليل وابحاثه.
(2) الرفيق الفنان عارف ابو لطيف: من بلدة عيحا، وهو رفيق واع لقضية الحزب، ويتمتع بكثير من فضائل الالتزام القومي الاجتماعي. قام بصنع التمثال النصفي للدكتور خليل سعاده، في مدينة "غويانيا" التي درس فيها فن النحت. لمن يزور "ضهور الشوير" يمكنه رؤية التمثال بعد ان يكون تجاوز ساحة الضهور باتجاه العرزال ومبنى دار سعاده للثقافة، للاطلاع على "قصة تمثال الدكتور خليل سعاده"، الدخول الى قسم "من تاريخنا" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.
(3) هو شارع باسيليوس يافث المجاور لشارع 25 اذار، وهما من اهم الشوارع التجارية في سان باولو.
(4) مراجعة النبذة بعنوان كتاب "الرابطة وقصة تمثال الدكتور خليل سعاده" على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
(5) توما توما: مراجعة النبذة عن رئيس الفياراب، المحامي رزق الله توما .
(6) ميشيل مغربي: من حمص. كان شاعراً مرموقاً، وله ديوان شعري. كنت نشرت عنه في مجلة "قب الياس"، وآمل ان اتمكن من انجاز نبذة غنية عنه.
|