إذا كان انتماء الرفيق الأديب سعيد تقي الدين (1) قد شكل ظاهرة يحكى الكثير عنها، فإن انتماء الرفيق نقولا طراد هو ظاهرة أيضاً ويجدر أن يحكى عنها الكثير.
ذلك أن انتماء شخص تجاوز السن القانونية من عائلة عرفت بأرستقراطيتها، شريك في مصرف معروف تولى الإدارة فيه (2)، ولم يشده الى الحزب اغراءات مادية أو طموحات فردية، ثم كان مثل غيره، رفيقاً منضبطاً، مناضلاً، فهذا أمر يجدر أن يتوقف عنده دارسو تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، نشأة ونمواً وصراعاً، وفيه تاريخ أفراده، توزعهم المناطقي والطائفي والمذهبي، كما العائلي والعشائري، من أكثرها اقطاعية ووجاهة، الى أقلها فقراً مدقعاً. ومع ذلك كانوا جميعهم سواسية أمام النظام، والواجب، والحقوق، ليس فقط في الاجتماعات الحزبية، انما – وهذا أصعب – في المعتقلات والسجون التي، وقد جمعت في زنانينها وقواويشها، مئات الرفقاء في عهود مختلفة وسجون متنوعة، شهدت كلها انهم شكلوا وحدة مادية – روحية، بالرغم أن هذه السجون جمعت رفقاء من أعلى "سلم المجتمع"، مادياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو مهنياً، الى مختلف درجاته.
*
بعد وفاة الرفيق نقولا طراد نشر الأمين عبداللـه قبرصي مقالة في " الديار" بتاريخ 24/01/2000 تحت عنوان " نقولا طراد كما عرفته " نقتطع منها ما يلي:
" كان ذلك في ربيع 1958. كان الأمين أسد الاشقر رئيساً للحزب، وكنت أنا رئيساً للمجلس الأعلى. كانت الحرب الأهلية على الابواب، والحزب يعد نفسه لخوضها، مضطراً لا متحمساً.
كان نقولا طراد قد رافق أديبنا الخالد سعيد تقي الدين راغباً في التعرّف الى الرئيس أسد ومن يلتقي في القيادة. بدأ الرجل يطرح أسئلة ذكية ويناقش ردود الرئيس عليها بلغة فرنسية أصيلة ممتازة الى حد أني ظننت بادىء ذي بدء أن الرجل فرنسي لولا سمرة خفيفة كانت تلبننه دون طويل شك. كان الرجل شعلة ذكاء وشعلة حماسة. قلت في نفسي: "لقد اصطدت منذ بضع سنوات سعيد تقي الدين، ها هو نقولا طراد طريدة ثانية دسمة، تعارفنا و تواعدنا على اللقاء".
"عرفت لتوي ان الرجل من الأثرياء، نائب مدير بنك طراد – كريدي ليونيه – Credit Lyonnais - وصاحب قصر في منطقة اليرزة، حيث الأغنياء.
وراح يدعونا الى العشاء أو المآدب الفخمة عدة مرات في الشهر، نلتقي في دارته الأدباء والصحفيين، كالمرحوم كسروان لبكي، والاستاذ باسم الجسر اطال الله عمره، والنائب سورين خاناميريان أحد حلفائنا الدائمين. وكانت زوجته السيدة نينا طراد آية في الجمال واللطف والذكاء، تشارك في مناقشاتنا عندما ترى تدخلها مفيداً.
لا أستطيع ان أصف فرحي عندما استطعت إقناع هذا المؤمن بالانتماء الى الحزب. كنت أتصور انه مكتف من دنياه بعلمه وجاهه وماله وذكائه، فلماذا الأحزاب ؟ الا انه أثبت لي في معرض الأسئلة التي طرحتها عليه أنه يفهم العقيدة مثلنا، كما يفهم النظام ايضاً.
ما ان أقسم اليمين حتى رحنا نستثمر نفوذه ومركزه. وظف عدداً من القوميين في البنك وفروعه، وراح يجمعنا في دارته بالسفراء أو كبار الموظفين، فادخلنا في عالم جديد، كما مدّنا بما استطاع من مال، إذ كان اشتراكه أعلى اشتراك عرفناه: ثمانماية ليرة لبنانية شهرياً.
كان معنا في بلدة قرطبا في المأدبة التي أقامها للحزب الرفيق جورج كرم وكان معنا في كل حفلة من ضبية في مخيمات الفلسطينيين الى بزبدين واميون وطرابلس وصور وصيدا وفي كل مكان. اذا اردت أن أضع صفة لهذا الرفيق لا أجد له اسماً الا حاتم طي في كرمه وعنترة ابن شداد في بطولته.
درس سعاده من المحاضرات العشر الى نشوء الأمم، الى الاسلام في رسالتيه، الى الصراع الفكري في الأدب السوري، كان يناقش مستفسراً اكثر منه متسائلاً ".
ثـم يـضـيـف:
" بعد فشل الثورة الانقلابية اعتقل الرفيق نقولا طراد وحكم سنة حبس، خسر على اثرها مركزه في البنك وخسر أمواله. وعندما صدر العفو وخرج مع الباقين عاد الى مسيرته الأولى، دون تردد. عندما أقول انه كان بطلاً لا أبالغ. إن الاحياء من رفقائي الذين عرفوه يرون هذا الرأي بالاجماع.
بعد صدور العفو العام في شباط 1969 وعودتي الى أرض الوطن، كان قد عاد الى وظيفته في البنك، وتحسنت أحواله، كانت اعصابه قد هدأت. الفشل قتّال للطموحات والفروسيات. يضطر المرء الى التزام الحذر والسكوت بعد الفشل الذريع والسجن الطويل.
كان دخول نقولا طراد في حزبنا حدثاً. الأغنياء يبتعدون عن الحزب خوفاً على حرياتهم وأموالهم. لم يكن نقولا طراد يعرف للخوف معنى. إن من أفدح الخسائر التي حلّت بنا مقتل الكثير من أبطالنا وفي طليعتهم البطل محمود نعمة، ولكن خسارتنا نقولا طراد كانت فادحة. لم نستطع حتى الان التعويض عنه بنقولا آخر.
عرفنا بموته، فاندفعنا الى دارته في اليرزة، نعزّي زوجته واولاده، فما ان دخلنا القصر حتى افاقت الذكريات وكانت تلتهمنا كانها الموت وشعرنا فعلاً ان رحيل نقولا طراد رحيل جزء من قلوبنا وآمالنا !.
ما أكتبه الان هو فقط للتأكيد على ان نقولا طراد لا يُنسى. لا يمكن أن ينسى. فإذا اردت أن أفيه حقه – كل حقه – عليّ أن أؤلف عنه كتاباً!.
آمل ان يساعدني عمري – الذي طال أكثر من اللزوم – على الوفاء لرجل كان مثلاً أعلى للوفاء للحزب وللأصدقاء".
**
يتحدث الأمين عبداللـه سعاده الذي كانت تربطه صداقة عميقة بالرفيق نقولا طراد، عنه في أكثر من مكان في مذكراته " أوراق قومية ". منها ما يرويه في الصفحة 73، يقول: " كان الرفيق نقولا طراد على علاقة متينة مع النائب الفرنسي جان دوليبكوفسكي صاحب المركز المرموق في الخارجية الفرنسية. عرّفني عليه الرفيق نقولا طراد وعقدت معه اكثر من جلسة في دارة الرفيق طراد، أكد لي خلالها أن حزبنا حزب شعبي محترم جداً.
ثم يضيف: " وبناءً على طلبه أوفدت الرفيق نقولا طراد الى باريس لمقابلة المسؤولين في الخارجية الفرنسية، وتمت الزيارة واللقاءات الضرورية مع المسؤولين عن سياسة فرنسا في الشرق الأدنى الذين أبدوا بدورهم، كما نقل اليّ الرفيق طراد بعد عودته، تقديرهم الكبير للحزب الذي، بالرغم من كل الصعوبات، استطاع ان ينمو وينتشر في الأوساط الشعبية مخترقاً الحواجز الطائفية والإقطاعية السياسية، وأن حزباً أصيلاً يتمتع بهذا الصبر والإيمان، لم يعد جائزاً إلا مساعدته للوصول إلى السلطة".
هذا الإتصال الذي قام به الرفيق نقولا طراد أثير في التحقيقات التي كان يقوم بها الأستاذ نجيب كفوري، وهذا ما يوضحه الأمين سعادة في الصفحة 143 من كتابه، بعد ان يورد أن الأستاذ كفوري استدعاه ذات مرة وسأله بماذا كلفت نقولا طراد في فرنسا؟ أجابه الأمين سعادة لم أكلفه بشيء.
إنما كان غيره قد أفشى ذلك.
**
انتخب الرفيق نقولا طراد في أول مجلس أعلى يبصر النور بعد الأخذ يتوصيات مؤتمر ملكارت، بإلغاء رتبة الأمانة وانبثاق السلطة العليا عبر انتخابات من الفروع الحزبية وصولاً إلى مجالس المنفذيات فالمجلس القومي الذي ينتخب لعضوية المجلس الأعلى رفقاء من بين المرشحين لعضوية هذا المجلس.
انتخب معه الرفقاء عصام المحايري، حيدر الحاج اسماعيل (عبود عبود)، صالح سوداح، ياسين عبد الرحيم، بهيج أبو غانم، رؤوف أبو زكي، محمد غملوش، ورياض عزام.
عنه يقول الأمين إبراهيم زين وهو كان موظفاً في بنك طراد قبل الثورة الإنقلابية، وكان الرفيق نقولا نائب مدير البنك وشريكاً أساسياً فيه.
حين اعتقل الرفيق نقولا طراد في ثكنة الأمير بشير، ووقعتُ عيناه علي، كاد يبكي تأثراً، لأنه على ما اعتقد تذكر لقاءاتنا الحزبية قبل السجن، ومن أجل رؤية باقي الرفقاء الذين يعرفهم قبل السجن، كان يتطوع مع الرفقاء الذين يوزعون الطعام على الغرف للتحدث إليهم والإطمئنان عليهم.
في إحدى المرات رأيته يحمل صندوقة بطاطا مسلوقة ويوزعها على الرفقاء الأسرى في غرفهم، وهكذا حوّل فكر سعادة الاجتماعي رفيقاً ثرياً الى مناضل ثوري يقوم بتقديم الطعام لرفقائه الأسرى بكل فرح المؤمن وانضباطية القومي الملتزم.
هـوامـش
(1) المعروف ان الرفيق سعيد تقي الدين انتمى للحزب بإذن رسمي، وكان قبل ذلك قد حقق نجاحاً مالياً في الفيليبين، تعيّن قنصلاً فخرياً للبنان فيها، وكانت سبقته إلى لبنان شهرته كأديب كبير، إلى كونه ابن عائلة معروفة خرّجت نواباً ومحامين وأدباء ومديرين عامين وسفراء..
(2) هو بنك طراد – كريدي ليونيه Credit Lyonnais، وهو مصرف برأسمال مشترك لبناني – فرنسي، وكان من المصارف المحترمة المعروفة في بيروت، مركزه الرئيسي عند زاوية شارعي فوش – اللنبي، وسط العاصمة.
(3) اذكر انه تولى مسؤولية وكيل عميد العمل في العام 1960 – 1961 في فترة تولي الأمين عمر ابو زلام مسؤولية هذه العمدة.
(4) من الرفقاء الذين عملوا في بنك طراد نذكر:
عبد اللطيف غلايني: تولى مسؤوليات مركزية في السنوات التي تلت الثورة الإنقلابية.
كان محامياً في مكتب الاستاذ جبران مجدلاني وفيه كانت تتم لقاءات ومراجعات حزبية. اقترن من السيدة نورما مجدلاني. غادر الى قطر ثم الى مونريال. تابع دراسته وحاز على شهادة دكتوراه في القانون.
صباح قبرصي: المحامي المعروف. والده الأمين عبدالله.
أسعد زين: نشط حزبياً في السنتين اللتين تلتا الثورة الإنقلابية. لوحق فغادر باسم مستعار "جوزف بولس" واستقر في بلجيكا حيث تولى مسؤولية الحزب وفيها، وافته المنية. كان متميزاً بوعيه العقائدي وبالتزامه الصادق بالحزب.
وهيب بدوي: من منطقة رأس النبع. كان رفيقاً نشيطاً، وتولى مسؤوليات محلية في بيروت خاصة في المجال العسكري أثناء حوادث العام 1958. اذكره دائماً الى جانب رفيقه وصديقه زهير جلول الذي غادر الى سلوفاكيا وبات من رجال الأعمال فيها.
إبراهيم زين: الأمين الذي تولى مسؤوليات مركزية ومحلية عديدة، في عمدات المالية والإذاعة وعبر الحدود. كان عميداً أكثر من مرة وعضواً رديفاً في المجلس الأعلى ومنفذاً عاماً. شاعر، وله أكثر من ديوان، وكتاب مذكرات، بعنوان "قطاف من حقول العمر".
عصام مغربي: من كفر سلوان. غادر الى سويسرا وفيها تابع دراسته حائزاً على شهادة دكتوراه. ما زال مقيماً فيها.
محمد عباس نزهة: من النبي عثمان.
أديب جابر: من النبطية.
**
نأمل من كل رفيق يملك ما يفيد اضافته على النبذة المعدة عن الرفيق الراحل نقولا طراد ان يزوّدنا بها إغناءً لها، ومساهمة منه في التعريف اكثر على سيرته الشخصية والحزبية.
|