يروي الامين اديب قدورة في الصفحة 135 من مذكراته "حقائق ومواقف" عن الرفيق الشهيد محمد اديب الصلاح الذي شارك في عملية اغتيال رياض الصلح في عمان في تموز 1951، فأطلق النار على نفسه بعد ان غطى انسحاب رفيقه، أسبيرو وديع ، التالي :
" نقله الجنود الى المستشفى العسكري للعناية الفائقة وتحت الحراسة المشدّدة . ولم يكن يدخل عليه سوى أطباء معينين وممرضة مختارة والجندي الخفير.
بعد أيام تحسنت حالة الجريح وصار بإمكانه أن يتمتم وان يفهم . وكان من الأطباء المختارين الدكتور أمين تلحوق ( وهو من الرعيل الاول في الحزب ).
ولما استوعب الجريح أين هو وان السلطات ربما تحقق معه غداً طلب بعض الماء من الممرضة، التي وصلت الى الغرفة لتجد دماء رفيقنا الذكية سائلة قرب سريره ويداه غائصتان في جراحه، حيث مزق الجراح ليستشهد قبل ان يصل المحققون".
فمن هو الرفيق الدكتور محمد أمين تلحوق ؟؟؟
ولد الدكتور محمد أمين عبد الحميد تلحوق عام 1896 في بلدة عيتات في جبل لبنان. وبعد ان أكمل دراسته الثانوية إلتحق بكلية الطب في الجامعة الاميركية، بيروت وتخرج منها متخصصاً في الطب العام.
وبعد تخرجه تنقل ما بين العمل الخاص في لبنان، والالتحاق بالخدمات الطبية العسكرية في كل من السودان والاردن على التوالي، حيث تولى مسؤوليات قيادية رفيعة .
ولعل خير شهادة تسجل له هي تلك التي صدرت من زميل له في العمل تعرّف عن قرب على قدراته العلمية والعملية وعلى حياته الاجتماعية. ألا وهو اللواء عامر خماش الذي أدلى بمعلومات وافية عن سيرة الدكتور تلحوق العملية والعلمية والانسانية والاجتماعية.
" إلتحق الدكتور تلحوق بالجيش العربي الاردني عام 1945، بعد ان قدم من السودان، حيث عمل في الخدمات الطبية للجيش السوداني. وكان مجيئه الى الاردن بناءً على طلب من القيادة العسكرية الاردنية. وألحقته القيادة العامة في عمان بالكتيبة الاولى التي كنتُ قائدها آنذاك، وكانت ترابط في مدينة صفد الفلسطينية ".
" من هناك بدأت معرفتي بالدكتور تلحوق وصداقتي الحميمة له. وقد فوجئت فيما بعد بأنه لم يكن مُلماً إلماماً واسعاً بالعلوم الطبية فقط، وإنما كان موسوعة علمية تسير على قدمين، حيث كان يملك إلماماً واسعاً بالتاريخ وسائر العلوم الانسانية والدينية، وبالعادات القبلية والعشائرية والشعبية العربية والأجنبية. وكان يتقن أربع لغات إضافةً الى تمكنه الواسع من لغته العربية، قراءة وكتابة ومحادثة، هي الإنكليزية والفرنسية والتركية واليونانية.
ويفيد اللواء خماش أنه " وردته رسالة في ذلك الحين من شقيقه الذي كان يدرس في جامعة كورنيل الاميركية، يقول فيها ان سيدة من أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة، طلبت منه التعرف على مبادئ الدين الاسلامي، ويطلب مساعدة شقيقه في هذا الأمر. فحملت الرسالة الى الدكتور تلحوق وتساءلت امامه، كيف أتصرف والأمر يحتاج الى عالم أزهري يتقن اللغة الإنكليزية جيداً. فرد عليّ الدكتور تلحوق قائلاً: " لا عليك، سأكتبها لك الليلة وأسلمها لك في الصباح، لكي تنقلها بخط يدك وترسلها الى شقيقك ". وفي صباح اليوم التالي سلمني رسالة تضم صفحتين من القطع الكبير، تشرح مبادئ الدين الاسلامي واهتماماتها بالإنسان والمجتمع، ونظرتها الى المرأة من حيث ضمان كامل حقوقها الانسانية. وقد ادهشني مضمون الرسالة الى حد كبير، وأنها كتبت بلغة إنكليزية شكسبيرية.
يضيف: " بأن الدكتور تلحوق تنقل مع الكتيبة الأولى في عدة مدن فلسطينية وأردنية، أبلى خلالها بلاءً حسناً في حرب 1948، الى أن تسلّم قيادة مستشفى الميدان في القطاع الغربي الفلسطيني من المملكة الاردنية الهاشمية، حيث أشرف على معالجة أهالي قريتي قبية ونخالين في الضفة الغربية بعد تعرضهما لإعتداءات إسرائيلية بربرية أدت الى مقتل وإصابة العشرات من الأهالي المدنيين، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ.
وبعد ذلك بفترة زمنية قصيرة عهد إليه بتأسيس المستشفى العسكري الرئيسي في الجانب الشرقي من العاصمة عمان ويدعى ماركا. وقد تم التأسيس بسرعة قياسية، وبقي الدكتور تلحوق يتولى قيادته وإدارته عدة سنوات، عمل خلالها على توسيع المستشفى وتطويره وتنويع أقسامه ومعداته، بحيث أصبح واحداً من المعالم الطبية المرموقة في المنطقة .
وأضاف اللواء خماش " لقد عاش الدكتور تلحوق بيننا معززاً مكرماً من الجميع. فقد كان رحمه الله طيب المعشر حاضر النكتة، لبقاً في إدارة الحديث وتنويعه، فضلاً عن إستعداده الدائم لأداء واجبه الطبي والانساني في أية ساعة من ساعات الليل والنهار.
" مُنح الدكتور تلحوق أثناء خدمته في الأردن أوسمة رفيعة تقديراً لخدماته الفذة، في مقدمتها وسام النهضة ووسام الاستقلال.
" استقال الدكتور تلحوق من خدمته العسكرية في أواخر عام 1956، وعمل بعد ذلك في وكالة الغوث الدولية، حيث أشرف على إدارة مراكزها الطبية في كل من مدينتي الخليل ورام الله لعدة سنوات، ثم إفتتح عيادة خاصة في مدينة الزرقاء، عرفها معظم اهالي المنطقة التي تضم كثرة غالبة من العسكريين وعائلاتهم، بأنها تقدم الخدمة الطبية والعلاج مجاناً ... الى أن توفاه االله عام 1970، عن عمر يناهز الاربعة وسبعين عاماً، وقد شيعته ثلة مشتركة من القوات المسلحة الاردنية والكفاح المسلح الفلسطيني ومجموعة كبيرة من ذويه وأصدقائه ومعارفه الى مثواه الأخير في مقبرة تقع مقابل المستشفى العسكري الرئيسي الذي أسسه ورعاه، بناءً على وصيته".
من معلومات سجلها الامين قاسم الزعبي من الرفيقة هدى إبنة الرفيق الدكتور تلحوق(1)، أن الرفيق محمد أمين تلحوق إنتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1935، كان دائم البحث في كتب المعرفة، سريع البديهة والمرح، قوي الشخصية وشديد عند اللزوم. من هواياته الرسم والصيد، ومن صفاته الكرم وفعل الخير دون حساب، دقيق في مواعيده.
كان أباً وصديقاً مخلصاً لكل من يتعرف عليه، صادقاً مخلصاً في عمله، ودوداً في تعامله مع الغير. تذكر الرفيقة هدى بعض الشيء مما كان يقوم به والدها فتروي أنه جاء الى بيته جندي يحمل طفلاً عمره سنتين كان أصيب بحروق بليغة في قدميه وبطنه فأخذ الدكتور على عاتقه مداواته والإشراف عليه بإستمرار، وكان يشتري له العلاج على حسابه، واستمر على هذا الحال أكثر من شهر حتى تعافى الطفل كلياً ". فسأله الجندي: كم تأمر يا سيدي؟؟ أجابه: " كل ما أريده هو أن تحافظ على أبنائك وترعاهم لأنهم أبناء الحياة، وقدم له بعض المال لسلامة الطفل.
كان يداوي بالكلمة ويحث زملاءه دائماً على الإخلاص في العمل ومحبة الاخرين، كان سريع البديهة ويتمتع بذكاءٍ كبير، فحين تعرض للإعتقال في سجن " المية ومية "(2) في لبنان مع مجموعة من الأمناء والرفقاء، جاء حارس السجن بالطعام وكان في الطبق حشرة فإحتجوا لدى إدارة المعتقل على عدم النظافة، فقال لهم مدير السجن وهو فرنسي: " لا تخافوا فالحشرة الصغيرة لا تأكل الحشرة الكبيرة " ، فأجابه الدكتور فوراً: " لهذا لم نأكلك!! ".
تضيف الرفيقة هدى: بعد وفاة الوالدة في لبنان عاد الدكتور امين الى الاردن وكان قد كلف بتأسيس المستشفى الرئيسي وأحضر بناته الى عمان وأخذ على عاتقه تربيتهن وتثقيفهن عقائدياً، وكن يرافقن والدهن الى الاجتماعات والمناسبات الحزبية .
عمل الدكتور في وكالة الغوث في رام الله وإنتقلت العائلة معه الى هناك وتابع عمله الحزبي في مديرية رام الله ومن ثم عاد الى عمان. وعند وقوع الفتنة الداخلية في الاردن عام 1970 كان يؤرقه ما يرى من اقتتال ابناء الشعب الواحد، لان هذا لا يخدم إلا مصلحة أعداء الأمة، فأصيب بنوبة قلبية وتوفي في عمان في 9/7 عام 1970. تاركاً إرثاً كبيراً من المحبة بين جميع من عرفه وخاصةً بين أفراد الجيش العربي.
تفيد الرفيقة هدى أنها إلتحقت بمديرية رام الله متولية مسؤولية محصلة، وعن والدها: " كان لي الأب والام والأخ والصديق الصادق "، وتضيف: " تثقفتُ حزبياً على يديه، أحضر الاجتماعات الحزبية، أستمع الى المحاضرات وأقرأ من كتب الحزب، وأتربى على المناقبية القومية الاجتماعية ".
" أقسمتُ اليمين في 1957 على يد الرفيقة أوديت زعمط والرفيقة أنجليك متى، وتوليت مسؤولية محصلة في مفوضية السيدات في عمان ".
*
• يقول عنه الامين عبد الله قبرصي في مقابلة معه بتاريخ 27/11/03، أنه قماشة رئيس حزب، هادئ، رصين، عقائدي ".
وفي الجزء الأول من " عبدالله قبرصي يتذكر " الصفحة 81، يورد الامين عبدالله أنه كان في بيت
الرفيق زكريا لبابيدي عندما ألقى الزعيم خطاباً تاريخياً إستعرض فيه مراحل تأسيس الحزب والسجن
الأول. " وقد شاهدتُ السيف الذي قدمه له جورج عبد المسيح بإسم الرفيق الدكتور محمد امين تلحوق ".
• يورد الامين جبران جريج في أحد أجزاء مجلد " من الجعبة " أن سعاده منح الرفيق الدكتور محمد أمين تلحوق رتبة الأمانة. إلا أننا لا نملك معلومات عما إذا كان استمر في حمله الرتبة أو أنها اسقطت عنه لاحقاً.
• يورد الامين جريج في الجزء الثاني من مجلده " من الجعبة " الصفحة 191، أنه تشكلت منفذية جديدة من قرى عالية ومن قرى الساحل سميت " منفذية الغرب " مركزها عالية، وعُينّ الرفيق الدكتور محمد أمين تلحوق منفذاً عاماً لها يعاونه بشكل خاص الرفقاء أمين عقل ورامز الريس وفؤاد خلف.
• يورد الامين ابراهيم يموت في الصفحة 110 من كتابه " الحصاد المر" أنه في السادس من أيلول 1942 وفد علينا ( يقصد عندما كانوا في معتقل المية ومية ) فؤاد ابو عجرم والدكتور محمد أمين تلحوق والدكتور كريم عزقول، وكانوا في سجن راشيا.
هوامش
1. اقترنت من الاعلامي الرفيق عدنان اسعد داود الصباح وهو من مواليد العام 1932، انتمى الى الحزب عام 1952. عمل مدرساً، معلقاً سياسياً في الاذاعة الاردنية، موظفاً من وكالة الانباء الاردنية في بيروت، اسس مجلة "عالم السياسة" .
2. إليه كان ينقل القوميون الاجتماعيون وغيرهم من مناوئي فرنسا، في فترة انتدابها، اثناء الحرب العالمية الثانية.
|