الحديث عنـه يطول : شـاعراً ، واديباً ، وكاتباً ، ورسّـاماً ، وخطيبـاً ، وقوميـاً اجتماعيـاً عنيـداً ، وانسـاناً يتمتـع بكل الصفات التي تفرح بها .
عرفته جيداً منذ سـتينات القرن الماضي ، وعرفت معه صديقه الاوفى والاحب ، الصحـافي والاديب الرفيق فايز كرم. وكانت لي لقاءات عديدة معه في تلك السـنوات من العمل القومي وفي ظروف صعبـة لا يدرك خطورتها الا من عاش تلك المرحلة بدقائقهـا . الرفيق الشـهيد هنيبعل من القلـة الذين يفاجئونك بهذا السـيل المتدفق من الحب والشـفافيـة والصـدق . . كان يحكي من قلبه ووجدانه . لم يعرف الا الوفاء ، ولم يرتبط بكل شـرايين عقله وقلبه الا بالقضيـة القوميـة الاجتماعيـة التي آمن بها بالمطلـق .
كنت تغلق عينيك اذ تتحدث اليه ، تفتح له قلبك ، وتسـتريح .
بعد اسـتشـهاده اصدرت مؤسـسـة " فكر للأبحاث والنشـر " كتابـاً تضمّـن الكثيـر ممـا كتب ، بعنـوان " كلمة وتشـتعل الحرائق ".
مقدمة الكتاب للأمين د. ربيع الدبـس
منها هذه المقاطع :
تخطى الكتاب الذي بين ايدينا " قطوعات " كثيرة ومخاطر شـتى ، لعل اخطرها تمثل في الاجتياح الاسـرائيلي المعادي للعاصمة اللبنانية عام 1982 . وكان كاتب هذه السـطور واحداً – فحسـب – من جنود عديدين صانوا هذا السـفر الثمين من السـبات بل من الضياع والبدد ، ولم يكن الحاح وجداننا القومي على واجب اصدار الكتاب ارحم من الحاح شـقيق الشـهيد ، وليم عطيـة ، على اصداره .
إن قلّة عرفت فعلاً أغوار الحياة القصيرة الثرية التي امضاها ذلك الموظف المغمور في دائرة الطيران المدني في مطار بيروت ، والمبدع المشـهور ، الذي وُجد مقتولاً في إحدى ليالي الرملة البيضـاء على ايدي رعاع مأجورين خلال سـنوات بيروت الاحترابية العجاف .
والحق أن لهنيبعل عطية نكهة معتقة في معجن النهضة ، هي نكهة السـنابل الطالعة من الجذور ، الملوحة بأشـعة الشـمـس والمعمدة بحمرة الشـفق وأنداء الغسـق .
نادرون هم الذين كتبـوا بسـوية الاديب الشـهيد هنيبعل ، واندر منهم اولئـك الذين سـتتاح لهم امكانيـة الاشـعاع بالقلم – الذهب . فهذا الشـاعر الغريد حتى في نثيره ، الثقيف في إعلامه ، الدافق في حلقته الاذاعية ، المسـتعمق في تحليله ، الشـهيد في نضاله ، يطلّ علينا اليوم بكتابات امسـه فيعانق الحاضرُ المسـتقبل لأن للكتابة النورانية راهنية الحاضر ومنذورية المسـتقبل . . فكأن مقالاته ومقطوعاته ، ومعظمها منشـور في جريدة " الشـمـس " خلال السـتينات من القرن الماضي غالباً تحت زاوية " قوس قزح " أو في مجلة " صباح الخير – البناء " الصادرة عن الحزب السـوري القومي الاجتماعي في السـبعينات وبالاخص خلال حرب السـنتين تحت زاوية " عل الدرب " ، علماً أننا وجدنا بعضها غير المنشـور بين اوراقـه الخاصـة المبعثرة في شـقتـه الصغيرة التي هجَّره اليهـا دعاة الحريـة والديموقراطية . نقول : كأن هذه المقالات والمقطوعات هي نتاج القرن الواحد والعشـرين – نتاج عام 2003 الذي اسـتبيح فيه العراق للعدوان الجهنمي المرسـوم منذ سـنوات ، والعام الذي تسـتمر فيه – يومياً – اسـتباحة فلسـطين بالارهاب الصهيوني المكشـوف والمخطط له بكل العهر وكل الكفر .
وبعـد . . .
اي نشـيج ينداح من ذاك الـذي ما فتـئ نزف حروفه يتمسـك بالورق ويأبى أن يموت ؟ أي حرارات تنسـاب من نبض ذلك العاشـق المسـكون بلهب فلسـطين : أرضاً وشـعباً – وطناً ومنفى – شـوكاً وورداً – ربيعاً وجرحاً – نهراً وبحراًَ – زيتوناً وبرتقالاً – قمحاً وبيادر – قضية ومؤامرة – نازحين وصـامدين – مقاومين وماجورين – فقراء وشـهداء – دموع اطفال وحسـرات شـيوخ – مآسـي وملاحم – بطولات وانكسارات – آمالاً واحباطات – حلاواتٍ ومرارات ؟ !
هنيبعل عطية . . .
كلمـة مجنّحة كالطير ، حادة كالسـيف ، دالة كالسـهم ، موحية كهالة من نور .
إذا نبت الجمال كان لهنيبعل منه غرُّ القطوف وابكار المذاقات .
وإن تجمر الرماد كان من توقيع دمه وهج الجمر ورمضاء الرماد .
أما رهف نفسـه ففيضٌ من شـاعرية ، وزوبعـة من عنفوان .
فيا هاني ،
ايها المشـذّى بشـعبك وبلادك .
مشـوقون نحن إلى خمر لك منهـا الدنّ والطيب ، ولنـا الكأس والنشـوة ، بل مشـدودون نحن من بعـد فراقك بالجسـد الى عناقك بالفكـر والـروح في لقاء آسـر يبـدأ الآن .
**
وبعض من كثير رائع ، مما كتب:
باسـمكما اهتف على مسـامع الدنيا
الى بسّـام الشـكعة وكريم خلف
بلا جواز سـفر ولا تأشـيرة دخول وصلت السـيقان المبتورة إلى كل الوطن . .
فما الذي تغير أيها الوطن القديم كالتـاريخ والأنبيـاء . . ؟ !
ما الذي تغير أيها الصفصاف الباكي على خصور الانهار ؟ !
لقد ازدادت أشـجار بلادي ثلاث أشـجار من الزيتون . . وازدادت أنهار بلادي ثلاثة جداول من شـقائق النعمان . . !
إن دم فلسـطين كمياه الأنهار لا يتوقف . . فهل يتوقف النهر عن مياهه ؟
هل تتوقف الأشـجار عن خضرتها ؟ هل يتوقف القلب عن الحب ؟ !
" بسّـام وكريم " باسـمكما أهتف على مسـامع الدنيا : " بلا اقدام سـنظل نمشـي . . فمن يحب لا يحتاج الى قدميه . . فكما يحب بقلبه ، يمشـي به " ! ! !
مناجاة لحرمون
جبل الشـيخ . .
أواه ، لو باسـتطاعتي أن البـس كل رصاصة خلخالاً من فلسـطين .
أن اعطي المقاتلين إجازة صغيرة ليشـتروا من أسـواق دمشـق خواتم خطبة لعرائـس الجولان . .
وأن اقدم للمقاتلين . . اباريق ماء من بردى ، وقد ذوّبت فيها عيون كل النسـاء السـوريات . .
جبل الشـيخ . .
ما اروع أن يصير قلبي ، على صدرك وردة جورية . .
أواه يا جبل الشـيخ . .
أصابع الطحلب سـرقت بحيرة طبريا ، بعد أن كانت سـاعة زرقاء في معصم الجولان . .
أطفال القدس سـيكبرون
الى المطران هيلاريون كبوجي
على طريق القيامة هرع الاطفال يحملون لك الزهور ويرشـون يديك المقيدتين بالماء المقـدس . .
قلبي حزين . . هكذا قال المعلم الذي صلبه اليهود . . قلبي حزين . . هكذا قال تلميذ المعلم الذي سـجنه اليهود . .
وأنت ما زلت تذكر مع كل خفقة اولئك الشـهداء الذين ماتوا من اجل تحريرك . . وانت لن تنسـى رفقاءك المعتقلين . . ليلى الشخشير تنتظر الحرية . . وليم نصار ينتظر الحرية . . فاطمة البرناوي تنتظر الحرية . .
ما زال اطفال القدس يلعبون ببنادق الخشـب ، لعب الفدائي واليهودي ، وسـيكبرون يا هيلاريون . . سـيكبرون ! . .
ليتني اعود طفلاً
ليتني اعود طفلاً ابكي ملء عيني ، حتى لا اشـعر ببشـاعة الجريمـة الملصقـة بجلد الرجـال . . فهذا العالم اصبح اكثر وحشـية من الغـابة ..
يؤذيني أنني كلما انهمرت حباً ، افقد شـيئاً في صدري ، خبأته منذ اشـتعل القمح في البيادر . .
فما اقسـى الحياة اذا ماتت الاغنية على شـفاه المغني . .
وما اقسـى القدر اذا مات شـاعر ولم تبكه حبيبة . .
فكل الشـهداء اليوم ، يحفرون الشـارع الذي يصل بين قلبين ! ! ! . .
أقطع الرصيف وصولاً اليك
يا رفيقي الشـهيد . .
ما زالت امك تغسـل قمصانك الملونة ،
تعطرها وتنشـرها على حبال القلب . .
وأنت ما زلت تومئ لي أن اشـاطرك اول الكأس ، وأن اقطع الرصيف المجاور اليك . .
يا من تعدو كالريح لترسـم افقاً واسـعاً يلائم عينيك . .
فالارض اذا وطئتها قدماك تعود الارض . .
والقدس اذا وصلت اليها تصير القدس . .
نبتديء السـفر نحو الآتي
عصافير كفرقاسـم تذبح بريشـة جناح غراب . .
وأطفال دير ياسـين يتسـاقطون مطراً أخضر بلون الربيع . .
عندما كانت كفر قاسـم تزور دير ياسـين كانت ترتدي فسـتانها من ورق البرتقال . .
وعندما كانت تزور حيفا كانت تفتح فوق جبينها مظلة البحر . . وتشـد خصرها باغنية البحارة والصيادين . .
المجد لفلسـطين التي لا تعرف طعم النوم . .
والتي تحيط خاصريتها برصاص من عيون الشـهداء . .
المجد للتراب الذي لا يصنع القمح لغير الجياع . .
وللطواحين التي لا تغني لغير الاطفال . .
وللمصانع التي لا تنسـج الحرير إلا لبنات الفقراء !
وها نحن من كل الاماكن التي جلـس الفقر امام ابوابها يدخن التبغ الرديء . .
*
لعل أفضل من يكتـب عن الرفيق هنيبعـل عطية: رفيقـاً واديبـاً وشـاعراً ورسـاماً وشـهيداً ، هو صديقه الاحب، الرفيق فايـز كرم. نأمـل ان يكتـب
|