إذ نحكي عن الحزب في الاشرفية، تبرز امامنا اسماء لرفقاء كان لهم حضورهم ونشاطهم، والبعض منهم تعرّض للاسر والتشرد، وبقي على التزامه.
غسان تويني، جبران حايك، ادمون حايك، نقولا قباني، نقولا فياض، ميشال صباغة، جورج وفكتور بشور، نقولا بردويل، متري الياس ونقولا النمار، نقولا طراد، نقولا ناهض، ولسن مجدلاني، راغب حداد، وليم خوري، جورج مقدسي، مرسال غانم، جان حداد، حبيب الحلو، جورج حايك، متري تبشراني ميشال جقليس، جوزف وجورج حداد، والمئات غيرهم ممن يصح، وفاء، اذ نسطر عنهم مآثرهم النضالية والتزامهم بحزبهم.
احد هؤلاء الرفقاء، نقولا جرجس النمار الذي وافته المنية مؤخراً، وكان تولى في الحزب مسؤوليات عديدة منها عمدة الثقافة والفنون الجميلة.
عنه هذا المقال بقلم احمد بزون في جريدة السفير اليوم.
*
"وحده نقولا النمّار يستحق لقب «عميد الفن في لبنان»، لا لأنه أكبر الفنانين سناً (مواليد 1925)، فهو ليس كذلك، ولا لأنه أكبرهم فناً، فهو ليس كذلك أيضاً، إنما لأنه كان أكثر الفنانين اهتماماً بالفن وأهله، وأول من اهتم بأن تكون للفن مؤسسات تؤسس أجياله وترعاهم وتعمل على نشر الإبداع في لبنان... هو عميد الفن لأنه ناضل من أجل أن يكون لبنان منارة له، ولأنه كان مسكوناً بالحركة الفنية، يهتم بتطويرها قبل أن يهتم بتطوير لوحته، يعطي وقته لتأسيس البناء الفني أكثر من اهتمامه ببناء فنه الخاص، يتابع محترفات الآخرين قبل أن يعطي الوقت لمحترفه. لولاه لما كان معهد الفنون الجميلة، أو لربما تأخر. هو من دفع الفنانين لأن تكون لديهم جمعية. هو من ساهم في إقامة العديد من المعارض الجماعية. كان أباً لعدد من الفنانين اللبنانيين، وأستاذاً في الأكاديمية اللبنانية، ثم أستاذاً وعميداً في معهد الفنون، وبقي لقب «عميد» يرافقه حتى عندما صار مديراً للفرع الثاني للمعهد، ثم عندما عاود رئاسته لجمعية الفنانين اللبنانيين في تسعينيات القرن الماضي. ولا غرابة في أن تبقى عمادة الفن لقباً لا وظيفة، وأن ترافقه حتى آخر أيامه.
كان النمار ثاني طلاب الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)، التي فتحت أبوابها العام 1943، من دون أن يتسجل في قسم الرسم والنحت أي طالب، ثم في السنة التالية تسجل فريد عواد، ثم تبعه النمّار ووصل العدد إلى العشرين، بمن فيهم عدد من الطلاب البولونيين اللاجئين إلى لبنان. كان النمار على رأس الدفعة الأولى من جيل الفنانين اللبنانيين الذين تلمسوا خطوط الحداثة الفنية، وازداد عددهم سنة بعد سنة ينهلون من أساتذتهم الأوائل قيصر الجميل وجورج بول خوري والبولوني ماركوفسكي. وكان إلى جانب النمار وعواد، في الصف نفسه، شفيق عبود ومنير عيدو ونقولا بخعازي وآخرون.
صخب الحوار
إذا كان شقيق نقولا، متري النمّار، هو الذي قاده إلى الأكاديمية، فإن شغفه سبقه إلى الفن، بعدما أمضى سنتين محاسباً وكاتباً في الجيش الفرنسي، بل إن الحماس الذي كان يتعلم به وزملاءه جعل الصفوف الأولى للرسم في الأكاديمية تشهد حركة أكاديمية غير عادية، إذ كثيراً ما تحدّث طلاب تلك الصفوف عن حياة أكاديمية تبدأ في الصباح ولا تنتهي إلا في آخر الليل، درساً ونقاشاً وسهراً وبحثاً في شؤون الحداثة الفنية، وقد تطور الأمر أكثر مع مجيء الفنان الإيطالي فرناندو مانيتي أستاذاً في الأكاديمية العام 1946، ومشاركاً للطلاب في حياتهم خارج الصف، ومساهماً في حوارات سرعان ما تلقف الطلاب التماعاتها وبنوا عليها الكثير.
كان النمار مشاركاً أساسياً في تلك النقاشات، خصوصاً تلك التي تجري في «الندوة اللبنانية» التي وجد فيها متنفساً للأفكار التي كانت تموج في مخيلة أبناء جيله. كان رابع ثلاثة أطلق عليهم لقب «الثلاثي عين»، وهم عبود وعواد وعيدو. أغرم بالموسقى، وشغف بسماعها وقصد زواياها ومرابعها، تماماً كما أغرم بالجميلات وعاش شبابه معهن بالطول والعرض، ما حفزه في ذلك الوقت على رسم الكثير من وجوه الفتيات، إلى جانب رسوم العري التي اتخذت من «مريم» موديلاً، بعدما أتى بها قيصر الجميل لتكون بداية تجربة الموديل العاري في لبنان.
بعد سفر «الثلاثي عين» بقي النمار يساعد الأساتذة في تدريب الدفعة الجديدة من الطلاب على درب الفن، وكان من بين الدفعة إيفيت أشقر وسعيد عقل وجان خليفة. وبقي يتابع دراسته حتى حاز دبلوماً مع «ميدالية ذهبية»، وكان أول طالب يتخرج من الأكاديمية في فرع الرسم والنحت العام 1949.
في ذلك العام سافر النمار إلى باريس بمنحة من وزارة التربية، ليلتحق باثنين من ثلاثي الصحبة والفن، عبود وعواد. هناك غاص في بحر الحداثة الذي كانت أمواجه فاضت على العالم، بل بات للنقاشات هناك نكهة مختلفة عنها في لبنان، في ظل تصارع الأفكار الجديدة والسجالات المحتدمة في الفكر والسياسة والأيديولوجيات. وكان شفيق عبود أقرب الناس إليه، إلا أنّ تدافع الفنانين اللبنايين الجدد خلال سنوات قليلة جعل الجو أكثر صخباً وألفة واحتكاكاً وبحثاً في الإجابات عن الأسئلة الكثيرة التي يحملونها معهم حول فهم الحداثة الفنية والهوية الفنية، وقد تفتحت لدى البعض فكرة إنشاء محترف تشكيلي لبناني في باريس، وتبنى النمّار الفكرة، إلا أن أجراس العودة دقت العام 1952، فعاد ليكون أستاذاً في الأكاديمية، قبل أن يحقق حلمه في إنشاء معهد للفنون الجميلة. عاد إلى الأكاديمية ليعيد الصخب نفسه، مع عدد لا بأس به من الطلاب الذين هم اليوم في واجهة الفن التشكيلي اللبناني، لا سيما أمين الباشا وحسين ماضي وحليم جرداق وابراهيم مرزوق ورفيق شرف وحسن جوني وزافين.
دينمو الفن
وإذا كان النمار ثاني طلاب الأكاديمية بعد فريد عواد، فقد كان أيضاً ثاني رئيس لـ»جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت»، بعد قيصر الجميل، العام 1958، ثم ثاني عميد أصيل لمعهد الفنون العام 1968، بعد المهندس المعماري أنطوان نحاس، الذي استمرّ بضعة شهور، وقد استمرّ الإصرار على النمار ليتسلم العمادة، بعد توكيل آخرين بها، إلى أن أذعن. وهو كان على رأس من ناضلوا لتأسيس المعهد، وجابهوا رفض الرئيس شارل الحلو في ذلك الوقت الذي كان شعاره «لا لإنشاء مؤسسة رسمية ما دامت لدينا مؤسسة خاصة تقوم بالمهمة». وبالفعل قاد النمّار التحركات الطلابية، التي قام بها طلاب الأكاديمية، وكان أستاذاً فيها منذ عودته من باريس، وتحقق مطلبهم بعد إضرابات واعتصامات عنيدة، واستمرّ عميداً للمعهد حتى العام 1973، ثم من العام 1978 حتى العام 1981 مديراً للفرع الثاني للمعهد.
استمرّ النمار محركاً للكثير من الأنشطة التي تخص الفنانين، مساهماً في المطالبة بإقامة معرضي «الربيع» و»الخريف». وقد جسد حركته المطلبية تلك في لوحاته التي اتجه بها في ذلك الوقت إلى عناوين وطنية وسياسية، من دون أن يستخف أبداً بالناحية الفنية التي كان دقيقاً في تقديمها، خصوصاً لجهة الخط واللون، وتقول عنه الفنانة إيفيت أشقر: «أذكر أن نقولا النمار بقي أسبوعاً بكامله وهو يتساءل عما إذا كان يجب أن يضع، في مساحة معينة من لوحة له، اللون الأحمر أم الأزرق». وكان تمرسه في محترف البورتريه الذي كان يرأسه الفنان ادموند هوزي قد زاد من خبرته في رسم الوجوه وتفننه في نقل الموديل. ويقول شفيق عبود عن النمار في تلك المرحلة: «كان مرحاً ولديه سهولة بمقاربة الآخرين، فتعرفنا معاً إلى عدد من مشاهير الفنانين، وقمنا بزياراتهم، وتبادلنا الأحاديث معهم».
كان النمار جريئاً في البحث عن جديد الحداثة، لا يتأخر في إلحاق فنه بمستجدات قناعاته، فلا بأس عنده من تحقيق نقلة قاسية من واقعية البورتريه والمواضيع الوطنية الصريحة وانطباعية المشاهد إلى التجريد اللوني الذي قد يبتعد عن أي تلميح لإنسان أو طبيعة، ويقترب من الغرافيك أحياناً وأحياناً أخرى من اللوحة الحركية، وكذلك من تحويل اللوحة إلى مجرد مسرح فسيح للعبة ألوان. رسم الكثير من اللوحات الكبيرة والجداريات، لا سيما منها ما كان في سينما ألدورادو وفي أبنية عدة وقاعة الاستقبال في فندقية الدكوانة. حاز جائزة تقدير من معرض بينالي الاسكندرية العام 1962.
لا شك في أن النمار كان يصرف الوقت الطويل لحساب الأنشطة الفنية والتعليم وتحريك الأجواء الفنية، مستمراً في مسؤولياته تعليماً وعمادة وإدارة ورئاسة جمعية على فترات، معظم سني حياته، ما جعل إنتاجه الفني قليلاً، وكذلك معارضه التي شهدنا آخرها في «ستاسيون دي زار» في منتصف التسعينيات. ومع ذلك فقد كانت له مشاركات في معارض دولية بين العامين 1959 و1973، أقيمت في فرنسا وإيطاليا والبرازيل والولايات المتحدة واليونان ويوغوسلافيا ومصر وتونس والجزائر...إلخ.
نقولا النمار صاحب المزاج الخاص، الذي ترك نفسه على هواها، الشغوف بكونه دينمو الحركة الفنية في لبنان، مات عندما ثقلت همته وأقعدته عن المتابعة الدؤوبة التي كان معروفاً بها، قبل أن تودّعنا روحه إلى باريها أمس الأول، فنخسر أباً مهماً للحركة التشكيلية اللبنانية.
قام حضرة نائب رئيس الحزب الامين توفيق مهنا على رأس وفد حزبي ضم الرفيقين مارون حنينه ومتري تبشراني، من رفقاء الأشرفية، بتقديم واجب التعزية، الى عائلة الرفيق الراحل نقولا النمار.
|