يبدو أنّ الواقع الفلسطيني الراهن يعبرُ مرحلة مخاضٍ قاسية ، فالأحداث تتلاحق مسرعةً ، تبشرُ بتغيرات دراماتيكية غير متوقعة ، قد نشهدُ فيها إنشطارات بنيوية ، في هياكل الفصائل والقوى القائمة ، أو قد نشهدُ فيها انفلاتاً انحدارياً لرموز وشخصيات فلسطينية ، أو انتقالا من ضفة الى ضفةٍ أخرى ، وهو انتقال قد يأتي متوافقاً مع ما تمليه التقديرات والحاجات التنظيمية ، أو مع ما تفرضهُ قوة التأثير للبيئة السياسية السائدة ، وخاصةً في ظروفِ الإحتلال ، وكذلك مع ما تمليه الرغبات والتطلعات الفردية الطموحة .
قد يحدثُ كلُ ذلك نتيجة نهوض قوة التفاعل الداخلية ، أو قوة صعود الحركة النقدية والتقيمية ، في الأطر التنظيمية للفصائل ، أو في السّاحة الفلسطينية ، التي تنعكسُ عليها حالتا التململ والإستياء اللتين تسودا الشارع الفلسطيني ، بسبب غياب المحددات الوطنية في سياق العمل اليومي الفلسطيني ، حيثُ بات حضور سلام فياض لمؤتمر صهيوني ، في هرتسيليا ، بمثابة تعبيرعن وجهة نظر سياسية ! قد نجد مَن يدعمها ، بل مَن يطالب بخطوات إنحدارية أكثر جرأةٍ منها ، في الساحة الفلسطينية !
تحاول القيادة الرسمية ، التي تمتلك مقدرات السلطة الفلسطينية ، وتستحوز على قيادة حركة فتح ، ورئاسة منظمة التحرير الفلسطينية ، حرف اتجاهات التجاذب والتفاعل والتقييم النقدي ، داخل الفصيل الأكبر " فتح " الى اتجاهات أخرى مغايرة لمجراها ، وأخذها الى مواقع خطيرة ، من شانها أن تأجج الصراع مع حركة حماس ، وتحقق بالتالي الهروب من استحقاقات الوحدة الوطنية الفلسطينية ، دون الإلتفات للمعاناة القاسية التي يكابدها الفلسطينيون في قطاع غزّة ، من جراء الحصار المضروب عليهم !
بسبب غياب الإتجاه الثالث في الساحة الفلسطينية ، الذي كان من المفترض أن تعبّرَعنهُ الفصائل اليسارية الفلسطينية ! لأسباب متعددة ، عجزت عن حسم موقفها اتجاه طرفي الإنقسام ، في الساحة الفلسطينية ، وكأنها باتت تدّور زوايا العملية النقدية والتقيمية ، بين الحركتين الفلسطينيتين المتنازعتين ، وأحياناً أخرى بدت كأنها طأطأت رأسها ، وأحنت رقبتها ، حفاظاً على مكتسباتها التنظيمية والإدارية والمالية المترتبة لها ، والتي تتحصل عليها بفضل مرونة مواقفها ، سواء اتجاه رئاسة السلطة الفلسطينية في رام الله ، أو اتجاه حركة حماس في قطاع غزّةَ .
باتت العلاقة بين قوى اليسار الفلسطيني ، والمنظومة الإدارية التي تمثلها السلطة الفلسطينية ، شبه علاقة تعاقدية ، تحكمها الظروف المادية والإدارية والوظائفية الضيقة للفصيل ، أو للأفراد الذين يمثلون هذا الفصيل أو ذاكَ ، والذين باتوا يحققون من هذا الواقع ، مكاسب ذاتية لهم ، وأحيناً لأبنائهم وبناتهم ولعائلاتهم ! وبتعبير آخر ، باتت العلاقة التحالفية والتوافقية التي تحكم وجود الفصائل ، والقوى الفلسطينية في رام الله ، تحكمها صيغُ التعايش مع الإحتلال ومتطلباته ، وليست محكومة بصيغة مقاومته !
لقد أفرزت حالة التعايش مع الإحتلال التي فرضتها اتفاقيات أوسلو ، صيغاً تعاقديةٍ معه ، وأنتجت تكوينات سياسية ، حققت على أرض الواقع أساساً بنيوياً وسياسياً هشاً ( مجلس تشريعي ، حكومة السلطة ، العملية الإنتخابية ) وبات كلّ ما هو قائم يخدم ، بشكل أو بآخر ، الإحتلال واغتصاب السيادة الوطنية الفلسطينية . فيما تصبح المسألة أقلَ تعقيداً في قطاع غزّة ، حيثُ يتحالف الطرف الرسمي الفلسطيني " محمود عباس " مع الطرف العربي الذي لا يمكن له أن يخرج البتّة عن دائرة السياسة الأمريكية ، التي تفرض عليه التساوق السافر مع السياسة الإسرائيلية ! .
الاتحادات الشعبية الفلسطينية ، التي يسميها البعض بمنظمات المجتمع المدني الفلسطيني ، لم تكتمل بنيتها التنظيمية ، بسبب غياب المرجعية الحقيقية التي تؤمن لها شرط الإستقلالية الوطنية ، الأمر الذي جعل الفصائل الفلسطينية تنحو في اتجاه توليد منظمات شعبية خاصة بها ، تُلزمها ببرامجها ، وتكبلها بأجندتها السياسية و التنظيمية ! ووصل الأمر للحركات الجماهيرية الفلسطينية في أوروبا ، حيثُ تحاول السلطة من جهة ، والفصائل الأخرى من جهة ثانية ، إلزام المؤسسات الجماهيرية الفلسطينية في أوروبا ، بعوامل الربط والتبعية لها .
أمام هذا الواقع الفلسطيني ، وفي ظل الإنقسام والتباعد ، تفرض الضرورة التاريخية على الشخصيات والفعاليات السياسية والثقافية الفلسطينية المستقلة ، أن تبادر الى أخذ ذمامها بنفسها ، وأن تفرض شروطها الوطنية على الساحة الفلسطينية ، وأن تعلن بوضوح ، أمام كل الفصائل والقوى ، بل أمام الشعب الفلسطيني عن ارادتها الوطنية ، وعن حقّ تمثيلها لإرادة للشعب الفلسطيني ، وعن قوة تمسكها بالبرنامج الوطني الفلسطيني المتمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية ، التي يجمع عليها الشعب الفلسطيني .
تبدو الصورة الفلسطينية بما تحمله من تناقضات وتداخلات ومفارقات واضحة ، رغم عتمتها وبهتانها !
وبات من المهم ، بل من الضروري ، أن تُعبر شخصيات وطنية فلسطينية ، تتسم بالإستقلالية ، عن طيفٍ واسع الإنتشار ، متعدد المهام ، في مجابهة الرؤى الإنهزامية المفروضة من بعض الدول العربية على القوى الفصائلية الفلسطينية ، خاصةً تلك التي تشكل ، في الواقع الفلسطيني ، قطبا الإنقسام الفلسطينيين ، المطلوب حراكا وطنياً فاعلاً ، تقوده حركة فلسطينية مستقلة ، تستطيع ، بما تمتلكه من طاقات وامكانيات ، وقف التدهور في الساحة الفلسطينية ، بل إحداث الإختراق الوطني المفترض ، الذي يتيح المجال للقيام بالعديد من الحملات ، التي من شأنها ، أن تجابه السياسة التضليلية الصهيونية ، والضغوط العربية الداعية للإستسلام ، بشأن الحصار المفروض على قطاع غزة من جهة ، وبشأن مواجهة حالة الإنقسام الفلسطينية من جهة أخرى ، ورفض سياسة الإستقطاب والإصطفافات الفصائلية من جهة ثالثة .
أما الوحدة الوطنية الفلسطينية ، وهي الهدف الوطني الأساس ، لحركة المستقلين الوطنيين الفلسطينيين ، في إطارمنظمة التحرير الفلسطينية ، الوعاء الذي ينبغي أن يكون جامعاً وقادراً على إضفاء المناخات الوطنية على الحالة الفلسطينية ، وعلى اساس تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ، لتكون ممثلاً حقيقياً للشعب الفلسطيني ، الأمر الذي يفترض عقد المجلس الوطني الفلسطيني ، وتأمن نصابه على أساس الإنتخاب الديمقراطي ، وبما يحقق التمثيل الكامل للشعب الفلسطيني ، بكل قواه الوطنية المستقلة والفصائلية ، ومؤسساته الجماهيرية .
|