كانت الشرارة الأولى عندما أشعل بوعزيزة النار بنفسه ، ردّا على واقع اجتماعي مرير ومتردي عاشه الشعب التونسي ، كما عايشته الأمة العربية في ظل حكومات تتميز بالفساد والديكتاتورية وسلطة الأسر المتسلطة . بوعزّيزة أعلن بتلقائية يائسه من واقع تونسي حياتي مرير تحكمه منظومة اجتماعية اقتصادية بولسية ، جعلت حياة الناس لا تطاق ، فانطلق ذلك الخبر كالنار بالهشيم ، واتقدت مشاعر الشعب رفضاً للواقع المرير ، واستنكارا للمارسات القمعية التي يمارسها النظام الديكتاتوري في تونس ، فكانت الشرار التي أشعلت الحقل كله !
ما حدث وما يحدث ، هذه الأيام ، في الساحة العربية يوحي بأنّ عصراً جديداً قد بدأ بالظهور ، بعدَ حقبة ثقيلة أسدلت بثقلها على العرب من مغربهم الى مشرقهم .
عندما فاجأت ثورة الشعب العربي في كل من تونس ومصر العالم ، بالوتيرة السريعة التي حدثت بها ، وبالإستخدام الأفضل للقدرات الجماهيرية البسيطة . ثورتان عربيتان أطاحتا بنظامين دكتاتوريين لهما علاقتهما المتميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل ، ثورتان شعبيتان استخدم فيهما الشعب صدره ولحمه درعاً وسياجاً للمطالب الشعبية ، فلم تستطع الأسلحة المخزونة للنظامين المهزومين أن تقمع إرادة الشعب . إذ أنّ ما كان قد أبدعه الشباب في تونس ومصرَ لا يدخل في باب الشعوزة أو الظواهر اللامرئية ، ولم يكن نتيجة لالهام أو توجيهاً جاء من الخارج ، بل كان إبداعاً شعبياً من فئات شعبية بسيطة ، تمكنت من الاستيعاب والإحاطة الشاملة لحركة الواقع السياسية ، ومعرفة قوة القدرة الشعبية على التواصل والإلمام بمستجدات الأدوات المعرفية الحضارية . فقد أوجدَ التطور التكنولوجي السهولة في طرق الإتصال وإبتكار وسائل الإنتاج الإعلامي عبر الأجهزة الألكترونية بما تحتويه ، وهذا التطور العلمي أدى الى نشوء شرائح اجتماعية ثورية جديدة غير تقليدية ، شرائح الشباب الثوري القادر على استخدام انتاجية العصر دون عوائق ، ممّا أهلهاأن تضع أقدامها على عتبة المسرح السياسي ، لأنها شرائح ناشئة نامية لا تقدر النظم الديكتاتورية الوقوف في طريق تطورها ، برغم ما أنتجته من فساد وبيرقراطية وتخلف ، فكان لهذه الشريحة المتوهجة المتيقظة الصاعدة تأثيرها على حركة المجتمع العربي بأسره ، بانتصار ثورتين شعبيتين قي تونس ومصر ، لم تقدر أن تخترقهما القوى الدولية ، ولم تستطع أن تحني أغصانها الأموال الخليجية . وكان من أبرز ملامح ونقاء الثورة الشعبية العربية ؛ أن الفئة الشبابية لم تستأثر بالثورة ، ولم تحاول جني محاصيلها ، بل أدركت أنها طليعتها ومفجرهاوأن الثورة جاءت نتيجة تطور نضال جماهيري أخذ مداه الزمني ، فأنضجته الظروف وتطورت تعبيراته عبر مسيرة تاريخية . لقد بدأت الثورة شبابية لكنها سرعان ما تحولت الى جماهيرية شاملة لكل قطاعات الشعب ، وأصبحت ساحة التحرير هي منطقة القرار الثوري في المصرية .
فعلى مدى الأسابيع الأولى للثورة المصرية جهدت الإدارة الأمريكية كي تساير الأحداث وتواكب التطورات المتسارعة ، وبات من الصعب علىها أن تجد المبررات التي تجعلها تؤثر ، بشكلٍ من الأشكال ، على سير الأحداث الدراماتيكية التي جعلت أقوى حليف عربي لها في المنطقة ، ينهار ويستسلم أمام قوة الجمهور وحجمه وإصراره ، مما دعى بعض لجان الكونجرس الأمريكي لطرح تساؤلات عن كفاءة التقارير وتحاليل المخابرات الأمريكية بسبب الإضطرابات التي اجتاحت شمال افريقيا . وكانت السرعة التي أسقط فيها الشعب في تونس نظام ابن علي الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل ، شكلت الصدمة ضربة أليمة للمستويات الرسمية في أمريكا ، في الوقت نفسه أقرَت الإدارة الأمريكية أن الذي حصل بتونس ومصر قد فاجأها ، حيثُ قال تومي فيتور المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية" هل كان أحد يعلم مقدماً أن بائع الفاكهة في تونس سيضرم النار في نفسه ويشعل ثورة ، كلا " لكنه أشار الى أن مسؤولين أمنيين ودبلوماسيين كباراً كانوا قد أعدوا تقارير تفيد أن توتراً يغلي في المنطقة منذُ سنوات ! لكن السرعة التي تطورت فيها الأوضاع في مصرَ أظهرت بوضوح محدودية نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية التي لطالما حاولت أن تهزّ الحبل المشدود !
ومنذ أن أرست الثورة الشعبية في مصر وتونس حبال سفنها على شاطئ التغيير ، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية ، بدأب قلَ نظيره ، الدخول في نسيج المجتمعين المصري والتونسي لإشغالهما بمزيد من الحرائق ، ودفعهما نحو الإنكفاء الى الداخل ليكونا بعيدين عن محيطهما العربي ، إلا أن القضية الفلسطينية التي تعشعش في وجدان كلّ مصري ، بل كلَّ عربي ، جعلت مصر َ تعمل بصدق لحل العقدة الفلسطينية في موضوع المصالحة ، وتفتح بشكل متوتر معبر رفح . الثورتان الشعبيتان اللتان انتصرتا ( مصر وتونس )أكدتا الحقيقة التي تدل على انهلابدّ لانتصار أي ثورة شعبية أن يتوفر فيها ثلاث شروط رئيسية : أولها تحقيق عنصر المباغتة أو المفاجأة ، وثانيها حيادية الجيش واستقلالية قراره الوطني أو ضعف قواته، وثالثها الإبتعاد عن الأدوات العسكرية والوسائل الإرهابية في تحقيق الثورة الشعبية .
في الأشهر القليلة التي مضت ، ومنذُ أن سقط نظام حسني مبارك ، بدا كأنّ انصهاراً قد أصاب سياج الدول العربية ، فانكشفت الحدود وبان المستور ، وظهر الأمر كأنه بداية لحقبة جديدة يتم فيها تغيير نظم سياسية تكرست قي الحياة العربية عقود طويلة بشكلها العائلي العشائري الديكتاتوري الفاسد ، حقبة يتم فيها صياغة وجه جديد للدول العربية ، يحقق فيها الشعب العربي تغييرا ثورياً ، تتحول فيه الدول العربية المتخلفة الى دولٍ عصرية ديمقراطية ، يرسى فيها الشعب هيكليات مجتمع حضاري أساسه الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية . أمام هذه الحالة المتيقظة دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط الحماية للأنظمة الخليجية الموالية لها والمؤهلة لحدوث مثل هذه الثورات فيها ، وتعمل بقوة وبمساعدة دول خليجية على مدِّ أمد الثورة الشعبية في اليمن ، بانتظار بذوغ نظام يمني بديل قادر على تقديم مستلزمات الأمن للدول الخليجية والمصالح الأمريكية . أما في ليبيا التي بدأت فيها الثورة الشعبية نقية وطنية ، فدخلت عليها الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأطلسية ، واستطاعت القوتين أن تحرف اتجاهات الثورة الى حرب مناطقية وأهلية !مستخدمة فئات تنتميلتنظيم الإخوان المسلين في أوروبا التي نجحت في اختراق رأس الثورة الليبية ، وحرفها عن اتجاهاتها الطبيعية الى اتجاهات تدميرية تخدم الأهداف الأمريكية الأوروبية .
أمّا سوريا التي شهدت حراكاً شعبياً وطنياً حاولت الولايات المتحدة الأمريكية أن تركب موجته بدعم مالي وعملي من دول الخليج ، في محاولة تغيير حركته واتجاهاته بقصد اشعال الحرائق وإزكاء النزاعات الطائفية ، فلم تقدر الولايات المتحدة الأمريكية على ذلك ، بل تورطت في تحميل الحراك الجماهيري السوري تبعات أعمال إرهابية أساءت للشعب السوري وحراكه الديمقراطي ، لكن الهزة التي حدثت في سورية لم تأتِ وفقاً للمقياس الأمريكي ، بل جاءت خدمة للمقياس الديمقراطي الذي سوف يخرج سورية أقوى بنيةً وأشدّ عزيمةً ، في حياة ديمقراطية حقيقية ، في صياغة وطناً عزيزاً ممانعاًمحددا لأهدافه الوطنية بتحرير الجولان ، وإعادة الحقوق العربية.
|