ما هي العبرة من الحدث الآني وتداعيات الاستقالة الملتبسة بين هلالين لرئيس الحكومة سعد الحريري؟ وما العبرة مما يُحكى عن احتجاز وإقامة جبرية لرئيس حكومة لبنان؟ وما هي الأسباب والنتائج لما آلت اليه الأمور؟ وكيف السبيل للخروج من المأزق؟
أسئلة حقيقية تمتلك مشروعيتها التاريخية، إذ إنها ليست الأزمة الأولى على هذا المستوى من الخطورة منذ نشأة الدولة – الكيان الى يومنا هذا…
والأجوبة وبداية تلمس الحلول لا تأتيان فقط من كيفية التعامل الحالي مع تفاصيل الأزمة ونتائجها المباشرة، مع أهمية التفاعل الإيجابي لأغلب «القوى اللبنانية» مع الحدث وما رافقه من ارتفاع «منسوب» الوعي لخطورة الأزمة وما يمكن أن تتركه من تداعيات في ما لو انجرّ بعض اللبنانيين الى الفخّ «المنصوب» للبنان، والذي قد تكون نتائج الوقوع فيه وخيمة للغاية… بل إن هذه الأجوبة تتطلّب الغوص في عمق البنية السياسية اللبنانية لإدراك مكامن الضعف فيها وكيفية صناعة عناصر القوة!
لا شك في أن ردّ فعل القوى السياسية اللبنانية سواء الرسمية أو الشعبية شكّل قمة البراغماتية والواقعية. وهذا الردّ ساعد لبنان على امتصاص «الصدمة الأولى» وبدلاً من «الاختلاف» والتخبّط والانقسام، كان نوعٌ من «تفاهم غير معلَن» وغير مخطّط له بين مختلف الشرائح والقوى والأحزاب، فترسّخ «وعيٌ «عفويّ» بأهمية الوحدة الوطنية، وتضافر كل الجهود لتخطي الأزمة باعتبارها تطال النظام والدولة والسلطة، وانتصر مفهومُ «الوحدة اللبنانية الداخلية» ومفهوم الكرامة بين هلالين الوطنية، على كل التناقضات الداخلية السطحية من طائفية ومذهبية وصراعات على السلطة غير مجدية، وتبيّن بالتجربة أن ما يحمي لبنان هو الوحدة الداخلية، وما يحصّن لبنان هو التقاء أبنائه على قيم الوحدة والحرية والمواطنة…
لعلّ العبرة الأولى اليوم المستقاة من «الأزمة الحالية» تتمثل في استعادة عفوية وقوية لمفهوم المواطنة ورمزية الانتماء الى «الدولة»، وبالرغم من أن «استقالة» رئيس الحكومة اللبنانية الملتبسة شكلت صدمة للرأي العام اللبناني، إلا أنّها أثبتت وبما لا يقبل الشك أنه تحت طبقة «العصبيات الطائفية» التي يتم استحضارها من قبل البعض سواء في الداخل أو الخارج يتموضع وعيٌ واحد يخترق حدود الانتماءات الجزئية ليؤكد الشعور بوحدة الحياة والمصير، وبالانتماء إلى «الدولة» بالرغم من تشوّهاتها البنيوية . وهذا ما قد يفتح كوة في جدار النظام السياسي اللبناني المقفل، إذا ما تابعت القوى الحية نضالها المستمر من أجل التغيير والتحديث والتطوير…
العبرة الثانية تتمثّل في قدرة اللبنانيين عن مغادرة مواقع الانقسام والتجزئة كنتيجة لاستشعارهم أنهم على متن مركب واحد في مواجهات التحديات والأخطار كلها، سواء الخارجية أو الداخلية، وأن أي خطر يتهدّد الجزء إنما يتهدّد الكل…
العبرة الثالثة تتجسّد في حاجة اللبنانيين الى استعادة حوار حقيقي وجدي حول المسائل الخلافية كلها، بما يحصّن وحدتهم الداخلية، وبما يوحّد جهودهم ويقوّي قدرتهم على الصمود وتأمين حماية لبنان في مواجهة التحديات الطارئة كلها…
العبرة الرابعة تكمن في قدرة اللبنانيين على ترجمة وطنيتهم في موقف سياسي وطني واحد في مواجهة ما يستهدف كرامتهم ودولتهم وسيادة بلدهم. وهذه مسألة إيجابية لا بدّ من البناء عليها مستقبلاً، والاستفادة منها في بلورة وعي لبناني جديد يؤشر إلى إمكانية مغادرة اللبنانيين خنادق التقوقع والانقسام إلى رحاب المجتمع الواحد الموحّد في قيمه الوطنية والإنسانية والاجتماعية، والانطلاق باتجاه تعميق وترسيخ احترام قواعد بناء الدولة التي يطمح لبنائها أغلبية اللبنانيين بما يحفظ مستقبلهم ومستقبل أبنائهم…
لبنان اليوم تجاوز أو على وشك أن يتجاوز قطوعاً سياسياً كبيراً شكّل امتحاناً لوعيهم ولقدرتهم على التوحد ورفض الأمور المفعولة، والتصدي لمحاولة مكشوفة تهدف الى مصادرة قرارهم المستقل ورؤيتهم لكيفية صياغة حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكيفية حماية بلدهم وفق رؤيتهم ونظرتهم المستقلة…
لبنان ينتصر بالوحدة والمواطنة والحرية الواعية، وكل هذه الأقانيم مجتمعةً تصنع المعجزات!
|