ليس تفصيلاً ما تشهده المنطقة في هذه الأيام، لأنّ ما يجري له انعكاسات هامة ستفرض نفسها على المشهدية الكاملة للواقع بكلّ تفاصيله وحيثياته وجوانبه المختلفة.
لقد دخلت المنطقة وبلادنا عموماً مرحلة مفصلية جديدة من مراحل الصراع بعد الإنجازات الميدانية التي تحققت في المعركة ضدّ الإرهاب، سواء في سورية أو في العراق وإسقاط مشروع داعش ومَن يقف وراءه من قوى ودول عملت على محاولات ترسيخ التجزئة والتفتيت والتقسيم في بلادنا على أسس طائفية ومذهبية وهدفت إلى تفخيخ مجتمعنا وضرب بنيته الداخلية وإدخال المنطقة برمّتها في أتون الصراعات المدمّرة المجانية والعبثية، تحقيقاً لأهداف وأحلام السيطرة الصهيونية مع تقاطعاتها الإقليمية والدولية، ولا سيما التقاطع الأساسي مع الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها المنحازة والعنصرية تجاه شعبنا والدعم الكامل الذي تقدّمه لـ«إسرائيل» منذ قيام كيانها الغاصب على أرض فلسطين وسعيه الحثيث للتوسّع وقضم الأراضي ومحاولات الهيمنة المستمرة لتحقيق المشروع الصهيوني التاريخي، الذي أصيب بأعطاب بنيوية نتيجة المقاومة التي انبثقت من رحم الحاضنة الشعبية لأمتنا، والتي تمكّنت بدعم القوى الحليفة والصديقة من تغيير مسار الأحداث وتحقيق معادلة الردع والتوازن والدفاع ورسم قواعد جديدة للعبة لا يمكن القفز فوقها بعد اليوم، وتمكين هذه القواعد من التأسيس للزمن المقبل في السياسة والاقتصاد والأمن بما يتجاوز الجغرافيا المحلية إلى فضاءات أوسع ليس فقط في الإقليم وإنما في العالم أجمع.
إنّ التطوّرات التي حصلت خلال العام المنصرم وتحديداً خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي تجسّدت سواء في دكّ وضرب قواعد الإرهاب في سورية الشام أو في العراق وإنهاء وجود دولة داعش وتحرير مناطق شاسعة من الموصل إلى الأنبار إلى الرقة وحمص ودرعا والسويداء والبادية وحلب وغيرها من المناطق، كلّ هذه التطوّرات تؤشر إلى بداية مرحلة جديدة مختلفة كلياً في مضامينها وسياقاتها ومعانيها وصورتها ومآلاتها…
لقد سقطت كلّ السيناريوات التي استماتت القوى المعادية في تنفيذها على ساحات الأمة، ونفّذت الخطط البديلة وسقطت الرهانات على تطويع شعبنا وقواه الحية وضرب إرادة الصراع لديه، ونهض محور المقاومة من بين الركام قوياً متماسكا يفرض معادلاته ومنطقه بما يتلاءم وضرورات المرحلة وعلى الصعد كلّها.
إنّ خصوصية المرحلة تتمثل في القدرة على تثمير إنجازات الميدان في بناء واقع سياسي عسكري اقتصادي استراتيجي جديد تستفيد منه دولنا في تحصين وتطوير بناها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وتلتقط من خلالها الفرصة التاريخية في تمتين أواصر التعاون في ما بينها في مواجهة الخطر الحقيقي المتمثل في «الكيان الاستيطاني» الاغتصابي على أرض فلسطين.
والتحدّي الحقيقي يكمن في القدرة على إعادة تركيز المفاهيم وتوجيه وحشد كلّ القدرات في الحرب المستمرة لإسقاط آخر قلاع الاستيطان والاستعمار في بلادنا.
إنّ عودة فلسطين إلى المشهد السياسي بعد إعلان ترامب حول «القدس» تشكّل حافزاً لإسقاط كلّ مفاعيل المرحلة السابقة أيّ مرحلة التفاوض والرهانات الخاطئة على سراب ما يُسمّى «السلام»، وبالتالي إعادة الاعتبار إلى منطق المقاومة والرفض لكلّ مشاريع التسويات المنقوصة والتي تفرّط بالحق القومي، وإعادة تفعيل جبهة المقاومة هذه، وتطوير بنيتها وتفعيل طاقاتها وتركيزها على قواعد الهويّة الوطنية والقومية التي تستوعب في طياتها الانتماءات الجزئية كلّها وتعطي للمقاومة بعدها المجتمعي وعمقها الشعبي بمخزونات نضاله الهائلة والمستمرة عبر التاريخ.
هذه العناوين النضالية من استكمال معركة القضاء على الإرهاب إلى استعادة ألق النضال القومي من أجل فلسطين وتفعيل مقاومة شعبنا الفلسطيني في الداخل من خلال إطلاق انتفاضة شعبية حقيقية تغيّر من معادلات هذا الداخل وتُربك العدو وتعيق مشاريعه في التوسّع والقضم والإلغاء، وربط كلّ هذا بعملية التطوير والتحديث لدولنا ببناها وأنظمتها وأشكالها، وترسيخ مفاهيم المواطنة والهوية والوعي القومي، كلّ هذه العناوين تشكّل المضامين للمتغيّرات والتحديات المقبلة…!
|