لا شك في أنّ تطوّرات المنطقة المتسارعة والأحداث والوقائع التي تتشكل في سياقاتها تفترض قراءة معمّقة لتداعياتها ومآلها، والتحسّب لنتائجها على مختلف الصعد، إذ إنها تؤشر إلى بداية خروج من نفق الأزمة السورية على مدى كلّ هذه السنوات العجاف التي جسّدت أخطر هجمة شرسة حاقدة استهدفت ضرب الحاضنة القومية والإنسانية والحضارية لأمتنا وتدمير بنيانها وسحق عناصرها كلّها، لتمرير المشاريع الاستعمارية الكبرى المتناغمة مع المشروع الاستيطاني الصهيوني الأصلي على أرضنا القومية والذي واجه في العقود الأخيرة، وبالرغم من كلّ مظاهر القوة الخادعة، أزمة وجودية شكلت من المنظور الواقعي والنظري خطراً حقيقياً عميقاً على كلّ هذا الوجود الاستيطاني بكلّ تجلياته، ومأزقاً يطال الرؤية والخطة والمسارات التي سلكتها الحركة الصهيونية منذ نشوئها الى يومنا هذا.
هذه الهجمة الجديدة وغير المسبوقة التي تمّ فيها حشد الإمكانيات كلّها واستجلاب الضغوط والأساليب والوسائل كلّها واستحضار الإرهاب بتشكيلة منظماته الإرهابية المتطرفة والمختلفة شكلاً، الملتقية مضموناً، والتي عاثت فساداً وخراباً وموتاً في بلادنا على مدى هذه السنوات كلّها، لم تستطع أن تحقق أهدافها الأصلية في ضرب المجتمع وتدميره داخلياً بالرغم من الجراح والنتوءات والأوجاع والفوالق التي رسمتها في جسد الأمة، الا أنّ هذه الهجمة، وبالرغم من الدعم والتحشيد كلّهما وصلت إلى نقطة الهزيمة أو فقدان السيطرة على قواعد اللعبة الجهنمية التي أدخلت منطقتنا ومن خلالها العالم كله في آتون الصراعات المدمّرة التي جلبت الدمار والخراب والفوضى على مدى بلادنا وأرضنا القومية.
إذاً، بعد هذه الوقائع الهائلة التي تتالت في الأشهر الأخيرة بدءاً من العراق وصولاً الى سورية الشام ولبنان وبعد الانتصارات التي حققها محور المقاومة بدوله وجيوشه ومقاوماته وشعبه في مواجهة الإرهاب ودولته ومراكزه ونقاط انتشاره على خريطة الصراع الممتدّ من العراق الى سورية الى لبنان، بعد كلّ هذا ترتسم تساؤلات لا بدّ من الإجابة عليها لمواكبة هذه التطورات ورسم آفاق المرحلة المقبلة.
طبعاً، الإنجازات الميدانية التي تحققت، شكّلت مظلة حماية لكامل المنطقة، ولكامل البيئة القومية الطبيعية التي شكّلت فعلاً وعلى أرضية الصراع الميداني وحدة استراتيجية وجغرافية وحياتية واحدة، أسقطت مشاريع التقسيم والفدرلة، وضيّعت الفرصة على أحلام التقسيميين ومشاريعهم المشبوهة. ولكن، هذا لا يعني أنّ ما تحقق وما أُنجِز كافٍ، أو أنّ الأخطار أصبحت وراءنا، فتعدّد السيناريوات، والانتقال من خطة إلى أخرى بديلة في روزنامة القوى المعادية تجعلنا محكومين بإعادة التموضع، والتحضير لكلّ ما يُحاك هنا وهناك، في سراديب التآمر الدولي الذي يسعى إلى تغيير المعادلات وفرض شروط تسويات موضعيّة تصبّ في مصلحة التسوية النهائية الشاملة في هذه المرحلة من مراحل الصراع على الأقلّ.
ثمّة حقيقة لا بدّ من الاعتراف بها، وهي أنّ المعركة في بلادنا لها أبعاد إقليمية ودولية. وهي ذات تشعّبات كبيرة في لحظة عالمية معقدة بعد عقود من الأحادية الأميركية والغربية التي أصبحت تضغط بثقلها على كاهل أمم وشعوب بأكملها تسعى للتحرّر والانعتاق من المعادلة الدولية التي ترسّخت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما أحدثه من خلل في منظومة العلاقات الإقليمية والدولية حول العالم.
وبهذا المعنى، إنّ نتائج هذه المعركة الداخلية تستتبعها نتائج إقليمية ودولية، يجب التنبّه لها والتعامل معها بواقعية، ولكن، من ضمن رؤية ومنهج يهدفان الى الاستفادة من وقائعها، ومحاولة التخفيف من بعض تداعياتها السلبية كنتيجة طبيعية لشراكة حقيقية بين أطراف وقوى تشاركنا وإياها الموقع والميدان والأهداف والرؤى حول طبيعة المرحلة وعلى المستويات كلها.
عندما تهدأ المدافع وأصوات البارود، تبدأ تحدّيات من نوع آخر، تتمثل في تجسيد الإنجازات الميدانية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وبنيوياً، لذا تحدّيات ما قبل التسوية كبيرة جداً. وهي تفترض أن نمتلك رؤيتنا الأصلية ومشروعنا القومي النهضوي الجذري الذي يحمل بذور خلاصنا المجتمعي، ويحقق المنعة والصلابة والصمود والقوة، ويؤسّس لبناء بنى سياسية اجتماعية متراصّة تقوم على أسس جديدة في الوعي الشعبي من فصل الدين عن الدولة، إلى تفعيل حركة العقل في اجتراح الحلول لمشكلات مجتمعنا ذات الطبيعة البنيوية، وترسيخ مفاهيم الهوية والانتماء ومعرفة الذات، ورسم خطوط العلاقات مع القوى الحليفة والصديقة سواء كانت دولاً أو شعوباً، وأن ندفع أية محاولة لاستلاب مجتمعنا أو دفعه باتجاهات مغايرة لحقيقته، وتحدّي صياغة العلاقة مع شركاء الانتصار بما يؤمّن المصالح المشتركة للأطراف كافة وتثميرها فعلاً في عملية الصياغة المستمرة للنظام العالمي الجديد بشروطه ووقائعه وملامحه التي سترتسم في الآتي من الأيام…
|