القيمة الحقيقية لإعلان الرئيس الأميركي ترامب نقل سفارة الولايات المتحدة الأميركية لدى الكيان الاستيطاني اليهودي إلى مدينة القدس، والاعتراف الرسمي بالقدس عاصمة لهذا الكيان إسرائيل تكمن في السقوط المريع لكلّ أطروحة ما يسمّى «السلام في الشرق الأوسط»، حسب المصطلح الأميركي الغربي لمفهوم «السلام» طبعاً، والتي لطالما نظّر لها رهط اللاهثين وراء صفقات تصفية «المسألة الفلسطينية» من قادة وحكام في بلادنا وعالمنا العربي، وجرى توقيع صكوك استسلام وتنازل عن الحق الثابت لشعبنا الفلسطيني.
ما أعلنه ترامب ومهّد له في خطابه يؤكد حجم التزوير والتحوير والطمس لحقائق التاريخ والجغرافيا والحضارة في فلسطين خاصةً وفي بلادنا عامةً، وبالتالي تتكشّف أكثر فأكثر خيوط التآمر المحلي والإقليمي والدولي التي تمّ نسجها منذ عقود من الزمن تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والتي جاءت في سياقها اتفاقية «سايكس بيكو»، و «وعد بلفور» وتهجير أبناء شعبنا الفلسطيني من أرضهم، وتقسيم فلسطين في أربعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى إعلان «دولة إسرائيل» عام 1948، وما تلى هذا الإعلان من أحداث وتطوّرات وحروب تتصل بأصل الصراع وحقائقه ووقائعه.
لم يفاجئنا القرار الأميركي فهو يأتي في سياق متصل من الدعم الأميركي اللامتناهي للكيان الصهيوني منذ وجود هذا الكيان ومدّه بكلّ أسباب القوة والاستمرار بفعل التأثير الحاسم لمجموعات الضغط اللوبي اليهودي سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو في دول أوروبا والغرب عموماً، وطبعاً بفعل التقاء مصالح هذا الكيان مع المشاريع الاستعمارية التي استهدفت بلادنا ومنطقتنا.
ما يعنينا من هذا الإعلان الوقح هو سقوط نهائي لكلّ أضاليل السلام مع هذا العدو، وإعادة الاعتبار إلى طبيعة الصراع الأصلية، أيّ الطبيعة الوجودية للصراع مع هذا الكيان منذ نشأته باعتبار هذا الكيان يشكّل مشروع إلغاء وتدمير كامل للبنية المجتمعية القومية والإنسانية والحضارية، ومشروع حرب مستمرّة على إنساننا وبلادنا ومجتمعنا وحضارتنا.
ما حصل أسقط نهائياً كلّ أحلام الواهمين والمستسلمين والمنظّرين لسلام لن يأتي، ولاستقرارٍ لن تعرفه المنطقة طالما بقي هذا الاحتلال في أيّ بقعة من أرضنا القومية سواء في فلسطين، أو في محيط فلسطين القومي والطبيعي أيّ بلادنا الممتدّة من الفرات إلى النيل.
هذا الإعلان بوقاحته وفظاظته أسقط ورقة التوت التي يتلطى وراءها المستسلمون من أصدقاء أميركا الذين لا يساوون شيئاً لأميركا ولقادتها ولسياساتها سوى أنهم أدوات صغيرة تنفذ مخططاتها ومآربها وأهدافها من دون أيّ اعتبار إلا لمصالح أميركا وحليفتها «إسرائيل».
ولكن، الغريب حقاً هو أمر ما يسمّى «العالم العربي والإسلامي» المخصيّ حيث التهديد والوعيد لا يرقى إلى مستوى «الضجيج الفارغ» والعجز والبروستات المزمن…
يؤكد إعلان ترامب أنّ أميركا سقطت إلى غير رجعة من عالم الإنسانية الأدبي، وهي دولة استعمارية لا مكان في قاموسها لحق تقرير الشعوب لمصيرها، وهي إضافة لذلك – تحمل شعارات ديمقراطية «مزيّفة» مشوّهة، وتشوّه مفاهيم «الحرية» التي تدّعي أنها تقوم بتسويقها حول العالم.
لقد أسقط إعلان ترامب كلّ هذا المسار التفاوضي المتعثر منذ «كامب دايفيد» إلى «أوسلو»، إلى «وادي عربة»، إلى كلّ محطات التفاوض مع العدو برعاية أميركية – غربية، وأعاد حقائق الصراع إلى المربع الأول، إلى نصابها الحقيقي باعتبارها حقائق صراع وجودي مع أخطر هجمة استيطانية عنصرية على بلادنا تهدف إلى تثبيت وجود «الكيان الاستيطاني اليهودي» في فلسطين وسعيه الدائم للتوسّع وقضم الأراضي وتوسيع دائرة النفوذ والسيطرة «الإسرائيلية» على أمتنا وبلادنا ومنطقتنا والعالم وتكشّفت أكثر من أيّ وقت مضى حقيقة المخططات الهادفة إلى ضرب بنية مجتمعنا بهدف تفتيتها وتقسيمها وتشليعها كمقدّمة للتهميش والإلغاء والاختزال.
مع إعلان ترامب، تترسّخ وبعمق في الوعي الشعبي العميق حقيقة أنّ «المقاومة» بأبعادها وأساليبها ومناهجها وأدواتها ووسائلها كلّها هي الردّ الوحيد على الاحتلال والاغتصاب والعدوان، وهي الخيار الوحيد الذي لا بدّ من انتهاجه كطريق وحيدة لاستعادة الحقوق وتحقيق السيادة والاستقلال والوحدة والتنمية والتقدّم حاضراً ومستقبلاً.
ما يعنينا اليوم من إعلان «ترامب» بما هو أبعد من القدس وما ترمز إليه في الوعي الشعبي لدى إنساننا، هو أنّ كلّ فلسطين وكلّ مدنها وقراها هي أرض محتلة وسواء أعلن ترامب أم لم يعلن «القدس» عاصمة لكيان «شذاذ الآفاق». ما يعنينا أنّ هذا الكيان الاستيطاني الغاصب واللقيط هو مشروع حرب كاملة على وجودنا القومي والحضاري والإنساني.
وبالتالي، فإنّ هذا الإعلان لا يساوي الحبر الذي كُتبَ به، فلا أميركا ولا أية دولة في العالم تستطيع إضفاء شرعية أو سحب شرعية من واقع «الحق القومي القانوني الإنساني التاريخي الأخلاقي»، أيّ واقع حقنا الكامل غير المنقوص في أرضنا وثرواتنا ومواردنا، كما أن لا جامعة «الخيبات» العربية هي مخوّلة أن تتكلم باسم أصحاب الحق الأصليين، ولا أية هيئة إقليمية أو دولية ستصنع لنا «فارق الانتصار»…
فما يحمينا ويحصّن حقنا هو قدرتنا نحن، على المواجهة والصمود والردّ المعاكس والانتقال من ردّ الفعل إلى الفعل ذاته في السياسة والمقاومة والاقتصاد والقانون والثقافة والمال والإعلام.
ما يحفظ المستقبل هو حفظ الذاكرة القومية الإنسانية وتأكيد وعينا حقنا وشحذ هذا الوعي بإرادة الصراع…!
|