ترى المشرق في المغرب! لم يبدُ لي المشهد غريباً سوى في لهجة الكلام. حدثني زملائي المغاربة في الجامعة من قبل عن هذا, حينما كنا نجتمع على طعام "الكسكسي" أيام الجمعة, أو نلتقي على طاولةٍ منزوية لِنُعِدَّ بياناً في ذكرى الشهيد المُغتال: المهدي بن بركة.
ومن قبل القبل, والجامعة, كان زميلي في مقعد الدراسة الإبتدائية في عمَّان, من حارة المغاربة في القدس, وقد حكى لي قصة رحيل عائلتهم بالسفينة الى المغرب بعد هزيمة حزيران 1967م بعدما اكتسح الصهاينة حَيَّهم وهَجَّروهم منه. وحينما صرت فتى, قرأت في الكتب والمجلات ما تيسر لي وقتها من أدب مغربي, وعن استعمار المغرب وكفاح شعبها من أجل الحرية والاستقلال. ومن بين الأسماء والوقائع التي اطلعت عليها, ترسَّخ في ذهني اسم احتفظت له بتقدير خاص: الأمير عبدالكريم الخطابي, قائد ثورة الريف التحررية الباسلة, ومؤسس الجمهورية التي سحقها تحالف الغزاة الإسبان والفرنسيين بكل دناءة.
في دمشق, أخبرني صديقٌ من عائلة "الخضراء", التي لجأت الى الشام من مدينة "صفد" الفلسطينية إثر النكبة في العام 1948م, أن اُصول عائلتهم ترجع الى مدينة "سلا" المغربية. و"أهل سلا أهل البلا, منقارهم من حديد يصيب من بعيد" كما يقول عنهم المغاربة. فبعدما هَجَّرهم الإسبان من الأندلس, اتخذوا من "سلا" قاعدة بحرية للجهاد ضد السفن والأساطيل الإسبانية والبرتغالية. لكن سائق التاكسي, أو "الطاكسي" بحسب اللهجة المغربية, وهو من مدينة "الرباط" التي بينها وبين "سلا" منافسة ودعابات, روى لي عنهم ــ بتحبب ــ نادرةً ذكرتني بالنوادر التي يرويها السوريون عن أهل مدينة "حمص", والأردنيون عن أهل مدينتهم الجنوبية: "الطفيلة", فعرفت عندها أننا "كلنا في الهَمِّ"ــ والنوادر أيضاًــ مشارقة ومغاربة! و"استغربتُ" لأنَّ الراحل "أحمد شوقي" لم يُضِف "الغرب" العربي, حينما قال في قصيدته التضامنية المشهورة مع سورية:
(نَصَحْتُ ونحنُ مختلفون داراً = ولكن, كلنا في الهَمِّ شرقُ)
مع أن الجميع آنذاك ــ في مشرق الوطن العربي ومغربه ــ كانوا يعانون من ويلات الإستعمار, وما زالوا, حتى إشعار آخر!
بعد انتهاء أعمال الندوة التي شاركت فيها:"المواطنة في الوطن العربي", والتي نظمها "منتدى الفكر العربي", واستضافتها" أكاديمية المملكة المغربية", أخذت القطار مسافراً من "الرباط", مقر انعقاد الندوة, الى"طنجة" لأمضي فيها بضع ساعات فقط, قبل أن أعود الى الرباط ليلاً. وهناك, تولت الشابة الذكية والقارئة المثابرة "إلطاف", مهمة التعريف بمدينتها الساحلية الجميلة المرابطة في أقصى الشمال الغربي.
وعلى حافة الأرض, حيث يلتقي المتوسط بالأطلسي, وحيث تتقابل الضفتان: المغربية والإسبانية, وقفت لتريني "القبور الكنعانية", فاستعدتُ تاريخ تواصلٍ قديم جمع المشرق بالمغرب قبل آلاف السنين, حينما إنتشر الكنعانيون وحضارتهم وعمَّروا المتوسط وضفافه, قبل أن يهزمهم الرومان خلال ما يعرف "بالحروب البونية, أو: البونيقية", ويدمِّروا بهمجيةٍ حاضرتهم الكبرى في شمال افريقيا:"قرت حداش"(أي: "المدينة الجديدة" باللغة الكنعانية, وهي الموجودة في "تونس" والمعروفة بإسم: قرطاج). فلم يكتفوا بهزيمة المدينة وإخضاعها, فقاموا بتشريد وتهجير أهلها واقتلاع أشجارها, ثم نثروا الملح في أراضيها كي لا تعود صالحة للزراعة. وهي همجيةٌ مارسها الإسبانُ ضد مسلمي ويهود الأندلس بعد استيلائهم على آخر امارة أندلسية: "غرناطة" في العام 1492م, وضد الريف المغربي الذي أوقعت ثورته هزيمة مُذِلة بالجيش الإسباني وقائده المتغطرس في معركة "أنوال" في تموزــ يوليو 1921م, فمنعوا عنه الطعام والماء, وقصفوه بالأسلحة الكيماوية والغازات السامة لإجبار شعبه على وقف المقاومة والإستسلام.
مرَّ الوقت بسرعة, كما هي عادته في الزيارات التي نحبها, وها نحن نسير في طريقنا إلى مطار "الدار البيضاء" لننطلق عائدين. لكننا لم نستطع, رغم المحاولات التي بُذِلت, الإعتذار عن تلبية الدعوة الكريمة التي وجهتها لنا سيدة اُردنية من مدينة "الكرك", علِمت بوجودنا فأصَرَّت على استضافتنا في بيتها, حيث استقبلتنا بحفاوة مع زوجها ابن مدينة "وجدة" الواقعة في الشرق الشمالي للمغرب, والتي كانت أحد مراكز الثورة الجزائرية أيام حرب التحرير الوطنية.
حينما أقلعت بنا الطائرة متجهة الى القاهرة, شعرت بالأسف لأنني لم ألتقِ بأحدٍ من زملائي المغاربة الذين عرفتهم في سنوات الدراسة الجامعية, لكنني لم أنْسَ ما كانوا يقولونه لي عن بلادهم, البلاد الرابضة على حافة الأرض, وترنو عيونُها بشوقٍ إلى مطلع الشمس...
ـ وهل يكفي التذكر؟
السلامُ على المغرب والمشرق: الآن, ويوم يلتقيان.
*ذكريات وخاطرات عن المغرب.
|