مثلما تندفع الضواري عندما تشتم رائحة الدم نحو الفريسة, اندفعت الدول الغربية للهجوم على ليبيا, لكن ما أثار شهيتها ليس رائحة دم الشعب الليبي المسفوح, بل رائحة النفط المحفزة لغرائز المصالح الإمبريالية. ومن البديهي أننا لا نستطيع أن نصدق أن الضمير الإنساني قد استيقظ وحرك قادة الدول المشاركة في الهجوم, وأن "حماية المدنيين" هي الدافع الذي ألهمهم القيام بالعمل نيابة عن البشرية. فهم أنفسهم الذين أعادوا تأهيل نظام القذافي في السنوات الماضية, بعدما تاب عما سلف من تاريخه "الثوري" واستجاب لما يريدونه منه, ووفر لهم الصفقات المربحة على حساب معاناة الشعب الليبي.
لسنا هنا في مقام كشف زيف دعواهم وريائهم المعروف لكل من هب ودب في العالم. ولا نلومهم على طبيعتهم الأنانية ذات المعيار الأُحادي, الثابت, المنطلق من المصلحة دائماً- وليس "المعايير المزدوجة"- كما يردد الكثيرون بوقار أبله فارغ!
لكننا نتوجه باللوم والنقد لأصحاب الشأن وأهل البيت: العرب. فهم الذين كان يجب عليهم أن يتولوا مهمة إنقاذ الليبيين, وأن يبادروا إلى نصرتهم كما تريد الأمة العربية.
لكن العرب الرسميين الذين التقوا في "جامعة الدول العربية", لم يفعلوا شيئاً سوى تقديم توقيع على دعوة مفتوحة تفوض الدول الغربية-عبر مجلس الأمن- بالتصرف في شأن من صميم الشؤون العربية, مع معرفتهم بأن قرارهم الخطير سيفتح الأبواب أمام مطامع هذه الدول في ليبيا, وسيؤسس قاعدة للتدخل في عموم البلاد العربية.
* * *
استقالة العرب الرسميين من واجبهم القومي, تركت الليبيين مكشوفين أمام آلة القتل القذافية, التي انطلقت لتنكل بهم بوحشية منذ اللحظة الأولى لتحركهم المُحِق والمشروع للمطالبة بحقوقهم. واللافت, أن عقيد ليبيا لم يكلف نفسه عناء التقدم بأي حل للأزمة, ولو من باب المناورة كما يفعل أقرانه القادة العرب! وما كان له أن يقدم على هذه الخطوة وهو الذي جاهر بمساندته لنظام "بن علي" وأنكر على الشعب التونسي حقه في الإطاحة به. بدلاً من ذلك السلوك- الذي يتطلبه إدراك الموقف, ما دام الشعور بالمسؤولية العامة مفقوداً- سارع إلى عمل ما اعتاده طوال سنوات حكمه المديدة: ملاحقة وتصفية كل من يعترض.
وحينما صرخ "إلى الأمام", متوعداً بالزحف لسحق "الجرذان", لم يبق لأبناء الشعب المنتفضين من أجل الحرية أيما خيار سوى القتال دفاعاً عن أنفسهم وعن عائلاتهم ومدنهم وبلدانهم المحررة بما غنموه من سلاح, وإطلاق نداء الإستغاثة الإنساني اليتيم الحارق. سقط منهم آلاف الضحايا: شهداء وجرحى وأسرى ومخطوفين ومفقودين, ونزح الكثيرون طلباً للأمان, وفرَّ مئات الآلاف من الموظفين والعمال البؤساء وعائلاتهم وتقطعت موارد عيشهم.
* * *
لا يصح قياس الوضع في ليبيا على ما جرى في تونس ومصر اللتين تميزتا بوجود مؤسسات مستقلة للدولة- وبخاصة الجيش- رغم عبث السلطة بها, ووجود تنظيمات مجتمع مدني: أحزاب, نقابات, جمعيات.., قادرة على التصرف بشكل متمايزعن السلطة كما بينت التجربة. ففي ليبيا ثمة, فقط, سلطة سافرة, مندمجة في زعيم كلِّي القدرة, لا تحده وتضبط سلوكه أية مؤسسات أو قوانين وطنية أو دولية, ولا أعراف إجتماعية أو حتى قبلية. يتبع مزاجه المتقلب و"يتواضع" فيسمح "بطيبة خاطر" لمريديه, مدمني الهتافات, بأن يضعوا اسمه قبل اسم الوطن في صيحتهم:" الله, معمر, ليبيا وبس"! ولا تطرف له عين وهو يقول علناً, وببساطة مرعبة, أن " الملايين مستعدون للموت من أجله"! فيما هو يعرف أن الله العلي قد إفتدى بني الإنسان وأبطل عادتهم القديمة بتقديم أبنائهم كقرابين له.
نحن أمام طاغية فريد, ربما, نجد شبيهاً مقارباً له في مثال زعيم " الخمير الحمر", بول بوت, الذي حوَّل شعب كمبوديا إلى مختبر لتجاربه ونظرياته.
نقول "شبيهاً مقارباً" لأننا في الواقع بصدد شخص إستثنائي ذي نزوات وغرابة أطوار تستعصي على العقلنة. إبتدأ حياته السياسية, كثائر قومي عروبي عزز استقلال بلاده فعلاً بطرد القواعد العسكرية الإستعمارية, وتأميم النفط الليبي, وإقرار حق العمل ومجانية التعليم والصحة, ودعم الدول وحركات التحرر الوطنية, وشق النهر الصناعي العظيم. وبعد وفاة القائد الكبير "جمال عبدالناصر"في العام 1970م, أعلن أنه وريثه المواصل لحمل أمانة الأُمة. ثم بدا له أن الأمة العربية "أصغر" من أن تتسع لمطامحه الجامحة, فإنقلب على دعواه وعلى من كانوا معه, وساوره إعتقاد بأن له مكانة خاصة مميزة تضعه فوق سائر البشر وأنه مدعوٌ لهدايتهم, فتفضل عليهم فأنزل "الكتاب الأخضر" الجامع, المبين, لما عليهم إتباعه لكيما يظفروا بالسعادة في الدنيا والآخرة!
وبرغم تلفيقاته وبهلوانياته الكثيرة, فإننا نظن أنه صادق حينما يقول أنه "ليس رئيساً ولا ملكاً" ليثور عليه شعبه ويطالب بإسقاطه! فهو"القائد" و"ملك الملوك" الذي يجمع ما هو أكثر من صلاحيات هؤلاء كلهم, ويقف فوقهم ناظراً من عَلٍ- وإلى عَلٍ- ك"إله"سامي قديم مزهوٍ متسلط!
إزاء شخص كهذا, لا نحتاج إلى القول بأن العالم كله يعرف ما الذي سيفعله بالمنتفضين لو ترك ليتصرف على هواه, وهو الذي نعتهم بصفات يأنف الإنسان السوي أن يطلقها على أعدائه التاريخيين- فكيف بأبناء شعبه؟- وتدل قبل كل شيء على نفسية قائلها وعلى المستوى المتدني لمكوناته الثقافية.
* * *
فتكُ قوات الطاغية بالليبيين المنتفضين, وتقاعسُ الدول العربية عن نصرتهم, وتسرُّع فئة منهم, متعجلة للوصول إلى السلطة بأية طريقة وبأي ثمن, وضع الشعب الليبي والأُمة العربية المتضامنة معه, في موقف حرج صعب: بين سلطة دموية تصفوية منفلتة, ودول أجنبية إستغلالية وجدت الذريعة المناسبة للسطو على ثروتهم الغنية, والسيطرة على موقع بلادهم ذي الأهمية الإستراتيجية الجاذبة, خاصة بعد الثورتين التونسية والمصرية, اللتين قلصتا نفوذ ومواقع الغرب في المنطقة.
إزاء هذا الوضع, نرى من واجبنا أن نحذر أهلنا في ليبيا مما يُراد بهم وببلادهم الشقيقة من مطامع إستعمارية تتنكَّر في زي إنساني. ولعل الكثيرين منهم ما زالوا يتذكرون التاريخ القريب الذي مرَّ به آباؤهم وأجدادهم عشية الإستقلال, عندما تآمرت الدول الثلاث :بريطانيا, فرنسا, وإيطاليا, لوضع ليبيا تحت الوصاية, وتقاسم ولاياتها: طرابلس, برقة, فزَّان, فيما بينها. وكما يذكرون, فقد قاوم الليبيون الأحرار هذا المشروع الإستعماري, وناضلوا لإحراز الإستقلال وبناء ليبيا المتحدة التي رمزت لوحدتها الألوان الثلاثة لعلم الدولة والوطن الذي يرفعونه الآن.
وإذ نعلن هذا التحذير الذي يمليه علينا الواجب, فأننا نرى أن الوقت لم ينفد بعد على تفويت الفرصة على الطامعين بليبيا. فما زالت القوى الفاعلة على الأرض هي العامل الأكثر أهمية في تقرير مسار الأحداث ونتائجها. وبقدر ما يتجنب الليبيون الإعتماد على دول الغرب, ويؤكدون على إرادتهم المستقلة, ويعملون بصدق, وصبر, وحكمة, على استقطاب وكسب تأييد شعبهم, وعزل السلطة وتفكيك نظامها, ويشددون على هويتهم وإنتمائهم للأُمة والحضارة العربية-الإسلامية, ويبرزون تطلعاتهم الوطنية الديمقراطية, ويركزون على بناء قواهم الذاتية, وتعبئة وتنظيم صفوفهم, وتطوير تكتيكاتهم وأساليبهم في شتى المجالات, بقدر ما يعززون فرص وأمكانات تحقيق أهدافهم.
وفي الوقت نفسه, فإن الواجب الذي أملى علينا تحذير الليبيين, يملي علينا الإستمرار في مخاطبة العرب: شعوباً ودولاً وهيئات ومنظمات وجماعات وأفراداً, ودعوتهم لمؤآزرة أشقائهم بكل السبل والأشكال- وبخاصة تزويدهم بالسلاح وبالمتطوعين من ذوي الكفاءة والخبرة في التخصصات المختلفة التي يحتاجونها- إضافة إلى الدعم السياسي والإعلامي والإغاثي لتعزيز قدراتهم, ولتطويق وتقليص آثار وتبعات التدخل الأجنبي, وصولاً إلى إجبار "العقيد" وأتباعه على الإستجابة لإرادة الشعب وحقه في تقرير مصيره. فبهذه الطريقة يمكن حماية المدنيين, وتحقيق خلاص ليبيا: الإنساني, والوطني معاً.
|