- من يذكر " توماس إدوارد لورنس"، الضابط البريطاني المكلف بإدراة وتنسيق العلاقات مع قيادة "الثورة العربية " على الاتحاديين الاتراك في الحرب العالمية الأولى، والشهير ب" لورنس العرب"؟
قلائل- ربما- هم من يذكرونه اليوم بعدما توارى في عتمة سجلات أرشيف تاريخ الإمبراطورية البريطانية العظمى، ضمن قائمة جواسيسها وضباط مخابراتها ومستشاريها العديدين الذين عملوا في البلاد العربية بأقنعة مختلفة لخدمة سياساتها الاستعمارية. لكن قناة فضائية عربية ذكرتنا به حينما عرضت قبل مدة فيلم المخرج الكبير الراحل " ديفيد لين" (1908-1991) عنه، بل بالأحرى عن كتابه: " أعمدة الحكمة السبعة".
كنت قد شاهدت الفيلم من قبل، ورغم اعجابي ببراعة المخرج " لين" كسينمائي مشهود له بتقديم معالجات مشهدية أخاذة بأسلوب ملحمي- كما يتبدى في أفلامه الروائية : "جسر على نهر كواي" و " الدكتور زيفاغو" و " ممر إلى الهند"- إلا أنني أسفت لأنه أكتفى في فيلمه " لورنس العرب"(LAWRENCE OF ARABIA) بالإستناد فقط إلى رواية لورنس، الاُحادية المتحيزة، لحدث تاريخي مفصلي- وإشكالي- مهم، كان كثيرون من المشاركين فيه وشهوده ومعاصريه- عرباً، وإنجليز، وأتراك، وفرنسيين، وغيرهم- ما زالوا أحياء وقت انتاج الفيلم في العام 1962. ولا تضعف من أهمية هذه الملاحظة، معرفتنا بأن المخرج ليس مطالباً بأن يقدم في فيلمه توثيقاً تاريخياً خالصاً، لأن الأمر هنا يتعلق بزاوية ووجهة النظر التي إنحاز لها وقدَّم من خلالها موضوعه. وبخاصة، وأن الكلام يدور حول شخصيات وأحداث حقيقية وقعت في وقت قريب، ومفاعيلها وآثارها ما زالت قائمة فاعلة في حاضر أهل المنطقة، وفي وعيهم، وليست شخصيات وأحداثاً روائية متخيلة، كما في غيرها من أعماله السينمائية المقتبسة عن روايات: " تشارلز ديكنز" و" بوريس باسترناك" و" إي. إم. فورستر".
* * *
لورنس، أو" أورنس" كما كان يناديه البدو، الذي ننظر إليه بنفور- كمتحاذق متحايل شارك في خداع العرب- كان واحداً من صفوة العملاء والمندوبين، رجالاً ونساءً، الذين أوفدتهم بريطانيا إلى بلاد العرب، فخدموا سياسة وأهداف دولتهم بذكاء وإخلاص.
وقد حظي بشهرة واسعة غطت على أسماء آخرين ممن لم تقِل- إن لم تفُق- أدوارهم ما قام به، مثل المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي، فالمندوب السامي في العراق، ثم السفير في طهران: " بيرسي كوكس" المشهور بترسيم الحدود بين: ( نجد، والكويت، والعراق، والمحَمَّرة) في مؤتمر "العقير" ( أو" العجير" كما ينطقها أهل الخليج) في العام 1922. والمِس " غيرترود بل"، الآنسة المفتونة بآثار بلاد الرافدين، وذات الدور المهم في تكوين الدولة العراقية الحديثة. و" جون فيلبي" عابر الربع الخالي المولع بطيور الجزيرة العربية، ومستشار الملك "عبدالعزيز آل سعود"، الذي بدّل ولاءه لبلاده، فنصح الملك عبدالعزيز بالتعامل مع شركات النفط الأميركية. و" أليك كيركبرايد" و" فريدريك بيك"، وسليلهما القوي في الأردن، الفريق " جون باجت كلوب"- " أبو حنيك" كما يلقبه الأردنيون- قائد " الجيش العربي" حتى وقت تعريبه في العام 1956. وهناك شخصيات أُخرى أدت أدواراً متباينة القدر والمواقع والشهرة، كالضابط " شيكسبير" الذي قتله محاربو قبيلة " شمَّر" في موقعة " جراب" في العام 1915، والليدي " آن بلنت"، السيدة الرَّحالة، صاحبة كتاب: " رحلة إلى بلاد نجد"، والعقيد " هارولد ديكسون" المعتمد البريطاني في الكويت، مؤلف: " الكويت وجاراتها"، و" تشارلز بلغريف" مستشار حكومة البحرين حتى سنة 1957، وغيرهم من العسكريين والمدنيين ممن عرفتهم بلادنا.
* * *
مات " لورنس" المولود في العام (1888) في سن مبكرة عام 1935، إثر سقوطه عن دراجته في حادث غامض، كغموض شخصيته التي ثارت حولها الشكوك بالشذوذ، فإحتفت به بريطانيا كواحد من أبطالها. وبرغم أن سيرته تلاشت وخبت منذ عقود، إلا أن الغيرة- التي هي إحدى القوى النفسية المحركة للأُمم كما الأفراد!- حفزت الفرنسيين إلى الإعلان عن " لورنسهم العربي" الخاص بهم! فنشروا- في ثمانينيات القرن الماضي على ما أذكر- كتاباً صاغه " جان سوبلان" بعنوان: " لاسكاريس العرب"، عن مبعوث فرنسي جرى إيفاده في مطلع العقد الثاني من القرن التاسع عشر، ليتفاهم مع " الشعلان" شيوخ قبيلة " الروَلة" في بادية الشام، على التعاون مع الجيش الفرنسي لغزو المنطقة، إستئنافاً لغزوتهم السابقة المدحورة لمصر وفلسطين. لكن المخطط لم يقدر له أن يجد سبيله إلى التنفيذ بعد هزيمة فرنسا وسقوط صاحب الفكرة " الإمبراطور نابوليون" في معركة " واترلو" في العام 1815.
* * *
لم يعد الإنجليز، ولا غيرهم من الدول الغربية، يوفدون جواسيساً وضباط مخابرات متنكرين في هيئة رحالة، أو جغرافيين متيَّمين بالطبيعة العربية، أو مستكشفي آثار، أو دارسي لغات وحضارات شرقية.. ليس لأنهم تابوا وكفوا عن مطامعهم الاستعمارية، بل لتوفر العملاء العرب الأقحاح المستعدين للخدمة وبحماسة!
حينما صدر كتاب " الحجاب: الحروب السرية للسي آي ايه 1981-1987"، للصحفي الأميركي المطلع "بوب وودورد"، بعث لي صديق كان مقيماً في واشنطن بنسخة منه، مرفقة بتعليق " لئيم" عليه: " حينما تفرغ من قراءة هذا الكتاب سترى أن الفرق بين عملاء الولايات المتحدة الأجانب وعملائها العرب، هو أن الأولين يقبضون منها مقابل خدماتهم، أما العرب فهم الذين يدفعون لها!".
ليس كلهم كذلك والحق يقال! فثمة عرب يقبضون بطرق شتى، ولغرض " شريف" طبعاً: إحكام "القبض" علينا شعوباً وأوطاناً!
وهؤلاء قادة كبار، وموظفون مسؤولون، ومدنيون " متطوعون للعمل العام، ولا يسعون وراء الربح" (!؟) كما تخبرنا نشرات منظمات التمويل الأجنبي، ورعاتها محبو عمل الخير لوجه الله!
- العرب يدفعون !؟
لا ألوم صديقي على دهشته وتعجبه، فقد أمضى معظم سني عمره خارج الوطن، فلم يستوعب المفارقة! ولم يَدْرِ أن الدهر قد انقلب وتغيَّر، وصارت عتيقة بالية أيام " أورنس" وذهبه اللامع. وفاته أن يرى أن هذه هي طريقة حكامنا- في عصر النفط، ومشتقاته، و" حضارته"- في التدليل على خاصيتهم الأصيلة: الكرم.
نقول هذا، كيلا يظن بهم أحد الظنون فيأثم! كأن يعتقد أن ما يدفعونه للغرب، هو محض جزية مفروضة عليهم- ثمناً لبقائهم في الحكم وحمايتهم- كتلك التي يطلق عليها البدو اسم التحبب: " الخاوة"!
* * *
في سيرة لورنس، يذكر أنه عمل في قسم رسم الخرايط في المخابرات السرية البريطانية في القاهرة، قبل أن يوفد إلى الحجاز في المهمة المعروفة الخاصة بالثورة العربية. ولئن كان قد مات منذ وقت بعيد كما ذكرنا، فإن سلالة متشعبة، من العرب العاربة والمستعربة، حلت مكانه وورثت خطاه ودوره في ضبط وموضعة تطلعات العرب، وحصرها ضمن حدود وأبعاد الخرايط السياسية والإستراتيجية التي تصممها للمنطقة، الدولُ والشركاتُ الإمبريالية، و"إسرائيل" والحركة الصهيونية العالمية. وكما نعرف، كان التوقُ للخروج من هذه الخرايط المشوهة الخانقة، وإعادة رسم المنطقة بما يتوافق مع هوية ومصالح وآمال أهلها، هو الشغل الشاغل لكفاح الأجيال العربية طوال معظم عقود القرن العشرين. ولا بدَّ للأجيال العربية الجديدة أن تستعيد هذا التوق إذا ما أرادت أن ترى شعوب الأمة سيدة مصيرها حقاً. وأن تحذر ألاعيب وحبائل الطامعين الذين يتظاهرون بمساعدتها- كما فعل لورنس من قبل- فيما هم يسوقونها نحو شِراكِهم، كما يفعل الصيادون حينما ينثرون الطعوم للطيور والأسماك. فما يريدونه في الحقيقة، هو نهب ثرواتنا، وإعادة هندسة معالم بلادنا وأحلامنا بما يلبي مصالحهم ومصالح " إسرائيل" فقط .
* * *
خُدِع العرب في أولى ثوراتهم في القرن العشرين، فلا ينبغي لهم أن يُخدعوا مرة ثانية في ثورتهم الجديدة في القرن الحادي والعشرين.
ربما، لهذا، عليهم أن يتذكروا لورنس وغيره ممن جاسوا ببلادنا وعبثوا بها، من رسامي خرايط حدود الدول والشعوب ومصايرها.
- أنتركهم يرسمون؟
يا حيف! كما تقول العرب..
|