هي ذي المسألة: النكبة ما زالت حيَّة قائمة: على الأرض, وعلى ملايين الوجوه, وفي الذاكرة التي ترفض النسيان. والمجرمون الذي أقترفوها ما زالوا موجودين طلقاء يعدون لنكبات اُخرى مثل قاتل متسلسل آمن من الملاحقة.
في البدء, كانت سايكس- بيكو, التي صاغها لِصَّان استعماريان أعطيا لدولتيهما الحق في إعادة رسم خرائط البلدان والأمم وتقرير ما يحق لها وما لا يحق. وكان بلفور, صوت الإمبراطورية التي لا يغيب عنها السطو والنهب, فنظرت بعين العطف اللئيم إلى مطامع الصهاينة الإشكنازيين الذين رفضوا قبول التطبيع والإندماج الجاري لليهود في الأمم التي ينتمون اليها, فوهبتهم فلسطين. وكان ما كان من مجازر, وهول, وتشريد, لتكون الطريق معبَّدة أمام شعب الإستعمار المختار الذي ضاق به لاساميِّو الغرب العنصريون, فقرروا تخليص بلادهم منه من جهة, وإعادة إستخدامه كأداة خادمة مضمونة في بلاد العرب من جهة ثانية.
* * *
- هل ثمة ريب في هذا؟
-لا. فما من عطف على اليهود هنا. وما من إلتباس أو إعتباط في إختيارهم لفسطين ليزدرعوا فيها دولتهم. فالغزاة الذين لم تفارقهم أشباح حروب الفرنجة, التي أطلقوا عليها تضليلاً اسم الحروب الصليبية, ظلوا يتذكرون أن وحدة إقليمي الشام ومصر هي التي هزمت أسلافهم ودحرتهم. وما كان ممكناً لهم أن ينسوا هذه الذكرى البعيدة المتواترة منذ القرون الوسطى, وهم الذين خبروا- وحطموا- التجربة القريبة ل "محمد علي باشا" التي وحَّدت الإقليمين في القرن التاسع عشر.
* * *
فهم الصهاينة المُراد منهم. ولم يخيبوا ظن الأسياد الإمبرياليين القدامى والجدد أبدا, كموظفين تحت الطلب جاهزين دائماً للقيام بالمهام كافة, وبخاصة القذرة. كل ما عليهم, المواظبة على اداء الواجب والوظيفة الموكلة: حراسة المصالح الإمبريالية, والسهر على بقاء العرب مجزئين, تابعين, متخلفين. ولهم- في المقابل- ما للثكنة الأمامية الضاربة, ولكلب الصيد المُدَرَّب البارع المدلل: الدعم المفتوح, والتغطية المستمرة, والتغذية المميزة.
وفي الحقيقة, لم يتقيدوا بحدود الوظيفة الأصلية. فإثبات الولاء, وإظهار المنفعة التي لا يُستغنى عنها, وحاجة الإمبريالية لخدماتهم الخاصة, التي لا يستطيع - أو يصعب- على غيرهم من الأتباع القيام بها, كل هذا دفعهم لما هو أبعد: التآمر المعروف على الدول الإشتراكية حينما كانت قائمة, وعلى النضال التحرري للشعوب في مختلف قارات العالم.
وهاهم اليوم يواصلون مهمتهم- فِعلَ المرتزقة المحترفين- فيقدمون أنفسهم, ويزكيهم حلفاؤهم, كسدٍّ عازلٍ وحصنٍ متقدم للغرب في مواجهة الإسلام والمسلمين.
* * *
مع كل ما سبق, لا نحتاج للسؤال عن سرِّ الدعم الغربي الموصول "لإسرائيل", الدولة الإستعمارية العنصرية الوحيدة الباقية رغم تصفية الإستعمار والعنصرية. فالسِّرُّ مكشوف تفضحه هذه المهمات الإستثنائية التي تقوم بها, أو التي تعِدُ بالقيام بها مستقبلاً. وما الحديث عن اللاسامية, وذكرى المحرقة, والقِيَم الحضارية المشتركة, والتخويف من العرب والمسلمين, سوى أدوات لتضليل عامة مواطني الدول الغربية البسطاء, والتلاعب بعقولهم لتبرير الدعم المستمر "لإسرائيل" والتواطؤ معها على حسابهم ومما يُجبى منهم من ضرائب.
ما نحتاج للسؤال عنه وفحصه إذاً, ليس الروابط العضوية العميقة للصهيونية و"إسرائيل" بالغرب, فهي معروفة للناس العاديين والمطلعين على السواء. وإنما نحتاج للسؤال عن الخلل القائم في الوضع العربي: في مدى الوعي بطبيعة الوجود الصهيوني, ودوره الإستعماري, ومخاطره على أمن الأُمة والوطن العربي حاضراً ومستقبلاً. وفي مدى الجهد و الإستعداد الجاد للتصدي له ومواجهته, كأولوية في جدول الأعمال العربي. والأمر هنا لا يتعلق فقط بتعاطف وتضامن مطلوبين مع شعب شقيق هو الشعب الفلسطيني, بل يتعلق, وبالدرجة الأولى, بوعي العرب لذاتهم كأُمة, ولمصالحهم وتطلعاتهم. فبقاء "إسرائيل" يعني بقاء حاجز معيق لتحررهم ونهضتهم وتوحدهم الذي سيظل مؤجلاً حتى إشعار آخر: تحرير فلسطين.
* * *
إن هذا الخطاب الذي نردده منذ وقت طويل, موجه اليوم بشكل خاص للجماهير العربية الناهضة للمطالبة بحقوقها في الكرامة والحرية والعدالة والتقدم, لتتذكر أن الظفر بهذه الحقوق, والتوق إلى غدٍ جديد, لا يتمَّان عبر مواجهة المستبدين المحليين فقط, بل وعبر المواجهة مع المهيمنين والطامعين الأجانب العديدين, وفي المقدمة منهم, المحتلون للأرض العربية, فلسطين والعراق: الأميركيون والصهاينة.
|