هذه المقالة عن المماليك، ولاعلاقة لها بالانظمة العربية المعاصرة. وإن لاح لبعض القراء تشابه ما، فهو من باب المصادفات غير المقصودة، أو مكر التاريخ الذي قيل انه يتبدى مرة على شكل مأساة، ومرة ثانية على شكل ملهاة.
ففي العام 1811 للميلاد أوقع بهم والي مصر "محمد علي باشا" في "مذبحة القلعة" المشهورة، وهو الذي كان دعاهم لحضور الاحتفال بتسيير جيشه إلى الجزيرة العربية لمواجهة "الدولة السعودية الاولى" التي اقلقت "الباب العالي العثماني" وزعزعت هيبته، بعدما افتتحت الحجاز الشريف ونشرت سلطتها وفتاوى شيخها "محمد بن عبدالوهاب" عليه.
* * *
انهت المذبحة آخر ما تبقى من نفوذ داخلي للماليك في مصر، فقد كانت الجيوش العثمانية بقيادة السلطان "سليم الاول"- المعروف لدى الاتراك بلقبه "ياووز"، أي "القاطع"- قد الحقت بهم وبسلطانهم "قانصوه الغوري" الهزيمة في معركة "مرج دابق" قرب مدينة حلب في شمال سورية في العام 1516م، وواصلت زحفها إلى مصر، لتنهي دولتهم التي حكمت أقاليم مصر والشام والحجاز واليمن لاكثر من قرنين ونصف القرن، ولتعلق آخر سلاطينهم " طومان باي" على "باب زويلة"، احد ابواب القاهرة القديمة التي بناها الفاطميون، بعدما رفض بإباء القبول بالخضوع للعثمانيين كوَالٍ تابع لهم، رغم هزيمته في موقعة "الريدانية".
* * *
وللانصاف، ربما ينبغي القول هنا ان الحرص على الاستقلال ورفض التبعية، كان صفة ملازمة لعهد المماليك منذ تولى قائدهم العسكري الأتابك "عزالدين ايبك" السلطنة في مطلع النصف الثاني من القرن الثالث عشر بتدبير من السيدة المتنفذة القديرة "شجرة الدر" زوجة آخر السلاطين الايوبيين.
وقد تجلى هذا في مواجهتهم للاعصار المغولي الزاحف المُدمر وصدِّه في معركة "عين جالوت"، وفي اجهازهم على ما تبقى من امارات وقلاع صليبية في بلاد الشام. وهاتان مأثرتان خالدتان عرفتهما وحفظتهما لهم الاجيال بتقدير كثير.
غير ان ما اثار نفور الناس منهم وسخطهم عليهم، كان تعاملهم مع العباد والبلاد كممتلكات خاصة ظفروا بها، فاستباحوها وتصرفوا فيها على هواهم، المتقلب غالباً، بسبب عجزهم عن بناء نظام مستقر ثابت، وشيوع المنازعات والانقلابات الدورية في صفوف طبقتهم العسكرية المنفصلة عن السكان وذات الامتيازات الخاصة المُطلقة، وما كان يصحبها ويلحقها من تصفيات واضطرابات تهدد أمن الدولة وسلامة الأهالي المغلوبين على امرهم.
* * *
ومع حرصهم على استثمار البلاد باقامة المشاريع العمرانية بين حين وآخر- والتي ما زالت بقايا منها في مصر والشام- الا انهم اخفقوا في حفظ مكانة ودور الدولة والبلاد الواقعة في سلطانهم، والدفاع عن مجالاتها الحيوية في وجه التغلغل والزحف البرتغالي المتنامي بقوة اثر اكتشاف طريق "رأس الرجاء الصالح" الموصل إلى افريقيا والهند والصين، مما آذن بعزل مصر والشام واليمن كأقاليم وسيطة مهمة وفاعلة في التجارة الدولية، واحتلال سواحل الخليج العربي، وحتى تهديد الحجاز.
* * *
بسقوط دولتهم، تولى وارثوهم العثمانيون مهمة الدفاع عن المنطقة التي بسطوا سلطانهم عليها واعلنوا من بعد انهم الخلفاء الشرعيون للمسلمين. غير انهم – وبخاصة بعد "سليمان القانوني" أحد اعظم سلاطينهم- لم يبذلوا ايما جهد جاد لتحسين وضع المنطقة والارتقاء بأحوالها، فأخذت تتردى في الانحطاط والبؤس والجهل، فيما كانت اوروبا تجدد نفسها وتنطلق في نهضتها.
اما المماليك، فلم يعد لديهم ما يعنيهم سوى ابتزاز السكان وارهاقهم بالضرائب والرسوم والمصادرات. وحينما غزا "نابليون بونابرت" مصر في نهاية القرن الثامن عشر، كان التاريخ قد قرر مصيرهم النهائي. ولم يطل الوقت حتى أنفذه "محمد علي باشا"، الرجل المُجددُ في الشرق، الذي قام بمباشرة المهمة التاريخية في البلاد العربية والاسلامية: اسدال الستارة على عصر الفرسان القروسطيين واقطاعياتهم العسكرية العتيقة المُجزَّأة، وتدشين عهد بناء الدولة الصناعية الحديثة المُوحَّدة المستقلة.
وهي المهمة الضرورية، والمصيرية، التي ما زال يتعيَّن على العرب النضال لإنجازها في شروط العصر الجديدة.
|