3- خطوات سعاده الأولى باتجاه تأسيس الحزب:
غادر الفتى أنطون سعاده بلاده عام 1919 إلى المغترب، ملتحقاً بوالده في البرازيل. تاركاً ذلك في نفسه أعمق الأثر على شعبه، نتيجة مشاهداته للمآسي وحالة البؤس التي ألمت به من جراء الحرب العالمية الأولى. فاستفاد كثيراً من قربه من والده الذي كانت لديه تجارب وطنية وعلمية عديدة. فكانت فترة درس وتأمل عميقين قادته إلى ترسيخ فكره على الأساس القومي.
تابع هناك، متابعة دقيقة مختلف التيارات الفكرية والسياسية السائدة آنذاك. لم تسفر عن نتيجة إيجابية لأنها لم تتوافق وطموحاته العالية.
كتب عن الدول العظمى، والحروب التي تشنها لنهب ثروات الأمم والشعوب الضعيفة. منتقداً أعمالها الوحشية... وطالع دساتير هذه الدول، ووجه نقداً لاذعاً لبعضها لأنها لم تتضمن حلولاً جذرية لأوضاع مجتمعاتها. وألقى باللائمة على المفكرين السياسيين والاقتصاديين في هذه الدول. وانتقد الفكر السياسي الذي أغرق أوروبة في سلسلة حروب دموية حملت الخراب والدمار لها. كما أثنى على النتاج الفكري لبعض المفكرين في أوروبة. لكنه عبثاً، لم يجد فكراً يحمل حلولاً جذرية للمشاكل الإنسانية بشكل عام.
وبعد درس وتأمل عميقين في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد درس الأفكار الماركسية والهيغلية، والنازية والفاشية والرأسمالية. ووجد بعضها تحمل بذور فشلها، وأخرى اعتبرها أفكاراً جزئية، لم تحل كل مشاكل الإنسان المعقدة، كما لم تأتِ بنتائج إيجابية على صعيد المجتمعات البشرية، ولم تحمل حلولاً شافية لمشاكلها الاجتماعية والاقتصادية. لذلك أعلن أن ذلك سيولد حروباً مدمرة على العالم أجمع. مستشهداً بما آلت إليه الأوضاع في العالم بعد الحرب العالمية الأولى وما خلفته من آثار كارثية على أوضاع العالم قاطبة. وأن العالم ما زال مهدداً دوماً بسلسلة حروب دموية مماثلة، لا سيما أنه كان مستشرقاً أسراع العالم إلى حرب ثانية.
خلال هذه الفترة الزمنية، كان شعبنا يعاني من انقطاع شبه كامل مع تاريخه الحضاري... ففقد من جراء ذلك الكثير من مزاياه الثقافية. وكانت الدول الكبرى – آنذاك – تفتش عن أسواق وطرق لها للسيطرة على موارد الدول الضعيفة والفاقدة لهويتها القومية...
وكانت هذه الدول، قد حصلت على "امتيازات" من الإمبراطورية العثمانية سمحت لها بالتواصل مع الجماعات المذهبية والأثنية في بلادنا، فربطت هذه الجماعات بمشاريعها الاستعمارية والتفتيتية لسورية.
الغياب الحضاري:
وبعد هزيمة "الرجل المريض" في الحرب العالمية الأولى، كانت سورية من حصة كل من الدولتين الاستعماريتين فرنسة وإنكلترا... مما أبقى سورية فريسة المطامع الأجنبية وبالتالي فريسة الانقسامات الطائفية والعرقية في ظل شبه غياب للشأن الثقافي والحضاري السوريين.
وكان سبق للمعلم بطرس البستاني أن ألمح إلى قلة ثقافة شعبنا، فهو يقول أنه كان من الصعوبة بمكان أن تجد شخصاً متعلماً "يفك الحرف" في كل جبل لبنان. وهذه حقيقة لا يجهلها أحد. فالترك لم يجهدوا في إنشاء مدارس في أراضي الإمبراطورية العثمانية. إذ لم يتركوا أي أثر ثقافي في سورية طوال مدة تسلطهم عليها.
وكان سبق الاحتلال العثماني لبلادنا انقطاع طويل مع تاريخها الثقافي منذ سقوط بغداد في القرن العاشر الميلادي. وتشرذم الإمبراطورية العباسية.
إذن انقطع حبل التواصل الحضاري لسورية لفترة طويلة من الزمن. قرون عديدة مرت أبعدت شعبنا عن جذوره التاريخية العريقة، وأبعدته بالتالي عن حقيقته القومية واستسلم للشؤون الغيبية البعيدة عن تاريخه الثقافي والحضاري.
وكان أن أقدمت الإرساليات الأجنبية (اليسوعية والبروتستانتية) على إنشاء المدارس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر خلال فترة التسلط العثماني الطويلة على بلادنا، التي حُرَّمت فيها الطباعة والعلم، مما ساهم في رفع المستوى العلمي، وأنشئت الجامعات الأميركانية واليسوعية، كما أنشئت الجمعيات العلمية والأدبية... التي ساهم في إنشائها المعلم بطرس البستاني وآخرين. أما الإرساليات فقد عمدت لتعليم "السوريين المبادئ الإنسانية العالمية وكره الحرب".
هكذا، بفعل السيطرة الطويلة الأجل للأجنبي على بلادنا، والذي افتعل فيها تجزئة وتفسيخاً على الصعيدين الجغرافي والاجتماعي. خلالها غابت الروح الحضارية – التي كانت من مزايا شعبنا العالية لفترة طويلة – فغاب شعبنا عن التواصل الثقافي مع إرثه التاريخي الطويل، فوقع خلالها فريسة الإتكالية والنزعات الفردية والأنانية، رافق ذلك ميل نفسي للانزواء ضمن العشائر والقبائل والعائلية... في ظل غياب تام للمؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية على الصعيد القومي العام. ففقد شعبنا من جراء ذلك كل مقومات وجوده القومي وحياته القومية التي امتاز بها عبر تاريخه التليد.
إن حالة الخمول والأمية التي سادت لفترة طويلة (11 قرناً) أدت إلى غياب الشأن العام من نفوس الناس، مدفوعين للتقوقع داخل حياة الأنا الضيقة، والحياة الريفية الضيقة. كل ذلك قضى على إرادة الحياة العامة في نفس الإنسان السوري. بعدما كانت سورية مجتمعاً حضارياً بامتياز، فكانت المدن عامرة، مزدانة بالعلوم والفنون، ومحط أنظار العالم قاطبة يقصدونها للتزود بالعلوم والمعارف. وقد أدى الانقطاع عن المجرى الحضاري إلى زوال العمران المديني.
وفي هذا المجال، يقول المفكر دولا بواسييه في كتابه "العبودية الاختيارية": "عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل، تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية، وتتواءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر".
هذه هي حالة بلادنا التي واجهها سعاده بُعيدَ عودته إلى الوطن عام 1930. فقد جال في أنحائه لفترة سنتين، متقصداً اللقاء بالمفكرين والمثقفين والصحافيين، وبعض المشتغلين بالسياسة... ولما يأس من كل هؤلاء.. اختار طريق التربية والتعليم، فعمل مدرساً في دمشق، كما عمل صحافياً في عدة صحف تصدر هناك. وبعد تفكير عميق، قرر العودة إلى بيروت، قاصداً العمل مع الطلبة، مع النفوس الطرية، المهيئة لتلقي أفكاره، والتي لم تفعل فيها بعد الانقسامات الروحية والاجتماعية. وإنه يمكن التعويل على بناء هذه النفوس لبناء مؤسسات جديدة وبالتالي حياة جديدة.
وبعد جهود مضنية، ومتابعة دقيقة، في ظل ظروف الانتداب الفرنسي. تواصل مع بعض الطلبة في الجامعة الأميركانية، فعمل على تأهيلهم وتثقيفهم قومياً. وتابع تفتيشه عن مؤهلين لتحمُّل المسؤولية الجسيمة في ظروف بلادنا الحالكة السواد على الصعيد الاجتماعي، عاملاً لإنهاض الشعب من وضعه المأساوي.
"رأى الزعيم هذه الأهواء الجامحة العابثة بالغايات النبيلة والمثل العليا من أجل المنافع الخصوصية. ورأى أن تقهقر الشعب السوري تحت السلطة الأجنبية مدة قرون قد أوجد انحطاطاً في المناقب والأخلاق يعز نظيره في أمة من الأمم، فوطَّد النفس، منذ أول دقيقة تسلَّم فيها مقاليد زعامة الحركة السورية القومية، على الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الانحراف بالأعمال الحزبية عن قاعدة النظام، ومحاولة العمل للمنافع الخصوصية، مهما كان نوع هذه المنافع، كما أنه جعل مهمته الأولى تثقيف من وجد نفوسهم طيبة، مجردة من المآرب النفعية، صالحة لحمل القضية بإخلاص، قابلة لسلوكية المناقب والأخلاق الجديدة، مستعدة لحمل المسؤوليات واحترام القوانين والأحكام وقداسة اليمين التي يؤدونها، وتدريبهم على الأنظمة والقوانين التي سنَّها وقبلها الحزب كله وأكبرها رجال الحقوق فيه. فما استشعر الزعيم بادرة انحراف نحو الفساد في جهة من الجهات حتى باشرها بالعلاج التثقيفي، فإذا لم ينفع العلاج اتخذ طريقة حاسمة لقطع دابر الفساد وإهلاك بؤرته.
بهذه الطريقة أمكن القضاء على جميع محاولات من سوَّلت لهم نفوسهم حسبان الحزب السوري القومي كالجمعيات والأحزاب التي عرفوها أو عرفوا عنها من قبل، أي وسيلة لبلوغ مآربهم أو لإرضاء خصوصياتهم وميولهم". (ضمان سلامة الحزب السوري القومي 15/3/1941)
ويأتي سعاده على شرح هذا الواقع المرير في مقالته (اختراع القومية اللبنانية ووقاحة بعض المتلبننين(1/8/1942) فيقول: "... وإذا كان شعبنا نظراً لضعف ثقافته وكثرة عدد الأميين فيه، يُعدّ كأنه لا يزال في حالة القرون الوسطى..." ويتابع قائلاً ولما كان العصر "عصر الاختصاص الراقي" فعلى المتعلمين السوريين ألاَّ يعموا "عن قوة الحقائق العلمية ووجوب إعطاء القوس باريها في كل أمر من الأمور الفنية أو العلمية أو الاجتماعية أو السياسية أو غيرها". ويقع على عاتقهم بالتالي، القيام بدورهم بتثقيف الشعب للنهوض به من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار.
كانت الثقافة الدينية هي "العصب" الأساسي السائد في مجتمعنا وأنتقلت هذه الثقافة إلى كل شاردة وواردة في حياتنا العامة (خاتم الأنبياء) وأنه لا حقائق أخرى عداها....
وعمل سعاده على إخراج الإنسان السوري من إنغلاقه الفردي إلى المأسسة للحياة القومية الجديدة، عاملاً لتأسيس إرادة مستقلة في نفوس السوريين دون تبعية لأحد، ليعملوا بدأب ومعاناة للإنتقال من الأنا – الفرد إلى وحدة المجتمع القومي.
دور المتعلمين:
وكان سبق لسعاده أن ألقى محاضرة في كانون الثاني 1933 (فترة العمل الحزبي السري) حول التفكير العملي والإصلاح الاجتماعي (المجلة 1/4/1933) يوجه فيها الأنظار إلى أن سورية أمام "أبواب عصر جديد... عالم النور" ويطلب فيها من "الطبقة المتعلمة المتنورة" ضرورة القيام بدورها القيادي في مجتمعها المشرذم. ويدعو هذه "الطبقة الراقية" للقيام "بأكبر قسم من المسؤولية في تقرير الحياة القومية، لأنها عقل الشعب وقوته التفكيرية. فعنها يجب أن تصدر الأفكار النيِّرة والآراء الصائبة، ومنها يجب أن تخرج المبادئ الصحيحة التي هي مصدر صحة الحياة القومية. فإذا قامت الطبقة المتنورة بواجبها من تسديد مرامي شعبها وإعداد طرق حياته، كانت الحياة القومية صحيحة وكان مطلب الأمة الأعلى جميلاً ذا قيمة عقلية عالية".
فقد كان سعاده خلال فترة التأسيس دائم التفتيش عن إمكانيات متنورة جديرة بتحمل المسؤولية القومية، كما كان يعمل على بناء النفوس الجديدة. فيقول في رسالته إلى غسان تويني (9/7/1946): "... هذه كانت طريقتي في تأسيس النهضة: بناء النفوس المؤهلة في العقيدة والنظام. ولما كان العمل في بدئه إفرادياً ولا يزال قسم كبير منه إفرادياً حتى الآن، فإني كنت أُعنى كل العناية بتثقيف الأفراد المؤهلين لكي تحصل وحدة النظر والاتجاه وكمال الوعي والفهم اللذين هما أساس كل تعاون مفلح". لذلك أيضاً، صرف سعاده وقتاً لبناء غسان تويني نظراً لمؤهلاته الفكرية و"لزيادة وعيه القومي الاجتماعي". ويعرض في رسالته أيضاً الصعوبات التي كابدها خلال فترة التأسيس والاختبارات التي مرَّ بها الحزب في سنواته الأولى بسبب افتقاره "إلى الأشخاص المؤهلين والمخلصين". مؤكداً، أنه بسبب هذا الفقر "فقد تعرَّض الحزب إلى اختبارات مرَّة ومحزنة". لذلك يقول أنه كان بحاجة للانتظار "لحصول الجهاز الشخصي لتوزيعه على الأعمال المختلفة ليسير العمل باستمرار... ولا تزال مشكلة الجهاز الشخصي لإدارة الحزب وسياسته غير محلولة..."، كما يأتي على ذكر ما تعانيه الإدارة المركزية من تباطؤ وخلل في متابعة الأعمال.
لذلك نراه يصارح هشام شرابي في رسالته إليه (23/8/1948) فيقول: "فمجموعنا القومي الاجتماعي في أشد الحاجة إلى المتخصصين في عقيدته الذين ينصرفون إلى توطيد أسس نهضة وتقوية ثقته بنفسه وبمصيره". فنراه يدعوه للاكتفاء "من التخصص في العموميات"... لينصرف "إلى التخصص في فلسفتنا وقيمنا والعمل في ثقافتنا... وإن وجودك بقربي سيعينني على تصريف أمور كثيرة تزدحم وتتراكم حولي وليسوا كثراً الذين أستطيع تكليفهم النظر في بعضها". ويدعوه لإكمال بناء نفسه بالتعاليم القومية الاجتماعية ليتمكن من المساهمة في نجاح الأعمال الثقافية والمركزية.
مؤهلات المسؤول:
والمسألة الأخيرة، لطالما كانت مثار اهتمام سعاده. فهو كان يفتش "بالسراج والفتيلة" عن كوادر مؤهلة لتسلم المسؤوليات المركزية، بعدما تكون قد اكتسبت من المواهب والمزايا ما يؤهلها لذلك. فهو يستغرب – على سبيل المثال – تسلم تويني مسؤولية مركزية دون حصول معرفته بتاريخ الحزب وعهد نشوئه الأول (من رسالته إلى نعمة ثابت 5/9/1946) ويؤكد على ضرورة إجراء اختبارات لمؤهلات من يتسلم المسؤولية من المنتدبين "الجدد للمسؤوليات المركزية" داعياً إياهم لاجتياز "امتحان في تاريخ الحزب ووحدة سياسته وإدارته واستمرارهما" (رسالته لتويني 26/5/1946).
أما بالنسبة لمن يود تحمل مسؤولية مركزية في الجهاز السياسي، فيجب أن يمر في عدة اختبارات بالنظر لأهمية المسؤولية السياسية والإغراءات التي تحصل من جراء تواصله مع وفود الدول الأجنبية. لذلك يؤكد على ضرورة أن يكون محصناً من كل النواحي، كما على ضرورة أن يجتاز امتحاناً يؤكد على أهليته: "... فالأعضاء يجب أن يكونوا قبل كل شيء قوميين اجتماعيين وأن يقوموا بواجباتهم القومية الاجتماعية قبل التقدم إلى أي عمل سياسي. ولا يُنتدب للأعمال السياسية في الحزب إلاّ المؤهلون لذلك"... (رسالته إلى صلاح الدين الأيوبي 11/12/1937).
كما يأتي سعاده في رسالته إلى الأب بولس مسعد (2/8/1946) الذي كان يرى في أسد الأشقر مؤهلات لتحمل مسؤولية سياسية، فيكتب له: "إني أعرف الرفيق أسد الأشقر العصبي وشدة اندفاعه في مجرى الأفكار والآراء اللامعة، وهما صفتان من أحسن الصفات المؤهلة للكتابات الإذاعية، ولكن التخطيط السياسي هو عمل دقيق جداً لا يمكن بلوغ أحسن النجاح فيه بواسطة الأفكار اللامعة". وكان سعاده قد أشار في رسالته لتويني (9/7/1946) إلى كيفية تدرج الرفيق بالمسؤولية وصولاً لمسؤولية مركزية وسياسية: "... وإن من القواعد الضرورية لتفكيرنا القومي الاجتماعي الحرص على إعطاء القضايا حقها من الرصانة والتقدير والتحفظ وإعمال الفكر الواقية من خطر الزلل والمقللة له. وإني أقول هذا القول في معرض كتابي إليك، ليس لأني أستشف فيك ميلاً إلى عكس ذلك، بل لأني أرى فيك الاستعداد لوعي هذه القواعد والقضايا الهامة، ولأني أحب أن أنشط فيك هذه الناحية الضرورية للعمل السياسي العالي". ويتابع قائلاً له: "إن من الأشخاص من هم مؤهلون للمسائل العقائدية فقط، وتحولهم على السياسة يصيّرهم سياسيين ولا ينتج أعمالاً سياسية ودبلوماسية باهرة أو مجدية، وأن منهم من لا يصلح لغير الإدارة أو النظام أو الجندية فيجب أن لا نحمِّلهم أعباء قضايا لا يُحسنون معالجتها ويمكن أن يرتكبوا فيها أغلاطاً كبيرة كما حدث في الماضي. ويجب أن يكون هنالك رجال مؤهلون للمسائل السياسية يكلفون القيام بها. وهؤلاء كانوا قلائل في الماضي ولا يزالون قلائل الآن. وإكساب الحزب كله مرونة سياسية من غير تهور في عقائده يحتاج إلى وقت وجهاز شخصي ضابط".
واضح مما سبق، أن هاجس سعاده الكبير كان تعليم وتدريب المثقفين والمؤهلين على كل المستويات للقيام بالأعباء القومية. فالأوضاع الفاسدة في المجتمع بحاجة لعدد كبير من المؤهلين وعلى كافة المستويات، ليساهموا في عملية الإنقاذ والنهوض القوميين. وكان سعاده يدرك أن ذلك كله يحتاج لوقتٍ طويل.
فقد حاول سعاده مراراً، خلق فريق عمل لمساعدته في كافة الأعمال النظامية والإدارية والسياسية. فكان يكثِّف زياراته لمنزل آل المعلوف للتحادث مع كل أفراد العائلة. وكتب 10 رسائل طويلة إلى غسان تويني، يشرح له فيها بالتفصيل كيفية نشوء الحزب، والاهتمام بلغتنا ومفرداتنا القومية. كما كتب لهشام شرابي يستعجله العودة إلى الوطن والاكتفاء بما حصّله من التعليم الأكاديمي ليتخصص في "فلسفتنا".
وعندما شكَّل أول مجلس عمد، كان يُدرب كل واحد منهم على كيفية عقد الجلسات، والعمل كفريق منسجم. وكتب لعبد الله قبرصي (أول عميد إذاعة) خطته الإذاعية...
وأيضاً، عندما سافر إلى المغترب، أنشأ لجنة لمتابعة أعمال جريدة "سورية الجديدة" وكتب لها العديد من الرسائل يشرح فيها طريقة عمل اللجنة كفريق موحد لإدارة شؤون الجريدة، وكيفية وضع الخطط ومتابعتها...
كان يعمل وحيداً بصبرٍ وأناة في ظل ظروف بالغة الصعوبة، على ثلاث مستويات: الحزبي الداخلي، القومي العام، والعلاقات مع الدول ذات التأثير المباشر على قضايا الوطن السوري، محاولاً الاستفادة من أحداث العالم المتعاقبة لنيل استقلال بلاده.
كان سعاده رغم كل هذه المصاعب يتابع العمل القومي على كل المستويات السالفة الذكر. فتقدم بخطى ثابتة لوضع الاستراتيجيات لبناء الحزب، والتواصل مع الدول الأجنبية داعياً إياها لحل المسألة اليهودية حلاً مغايراً. ولمتابعة صياغته لفكر قومي وإنساني جديدين ينقذان العالم من شرور الحروب العالمية وما تخلِّفه من خراب ودمار على الحجر والبشر.
الإكتشاف السوري:
أمام هذا المشهد العالمي، طرح سعاده، فكراً سياسياً جديداً ينقذ سورية من وضعها الفاسد. كما ينقذ البشرية من جملة آفات سياسية واقتصادية واجتماعية، دافعاً إياها إلى رحاب التفاعل المحيي للآمال بين الشعوب لإقامة علاقات فيما بينها قائمة على أسس من الاحترام المتبادل.
قامت نظرته على الأساس القومي، وعمل للتحرر القومي والاجتماعي من كل أنواع الاستعباد الداخلي والخارجي على كافة الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفق نظرة جديدة للحياة عاملاً لإرساء قيم سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة.
شرح في كتابه العلمي "نشوء الأمم" تطور الاجتماع البشري وصولاً إلى الدولة القومية. كما صاغ الأساس العلمي للنظام الجديد، وأعاد شرحه في العديد من مقالاته وخطبه ورسائله إلى مسؤولي الحزب، مؤكداً على أنه النظام "الوحيد" الصالح لإنقاذ سورية من مفاسد الديمقراطيات التمثيلية المعمول بها في الدول "المتمدنة"، التي تنوء تحت أعباء "الديمقراطيات" الفاسدة. ففي خطابه في سانتياغو (25/5/1940) أعلن بشكل واضح، أن سورية تعود لتأدية دورها القيادي للبشرية. فهي "تضع أمام العالم اليوم فكرة "التعبير عن الإرادة العامة" بدلاً من فكرة "تمثيل الإرادة العامة" التي لم تعد تصلح للأعمال الأساسية لحياة جديدة". ويتابع قائلاً: "إننا نشق في الحياة طريقاً جديداً... وسوف يكون هذا الطريق من جملة الإنتاج الذي يأخذه الناس عنا. إن التفكير الحاضر دخل في طور الشيخوخة في العالم كله، والبشرية بأسرها تنتظر تفكيراً جديداً تنال به سعادتها وراحتها وحريتها، وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية بلاد العبقرية والنبوغ. فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمها "التعبير عن إرادة الشعب..." فهذه الفكرة الجديدة، أي "التعبير عن إرادة الشعب" هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد. وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة".
ويعود في مقالة أخرى، إلى الإشارة إلى حداثة فكرته وتمايزها، يقول: "ففكرة أن العمل العام دوائر صغرى في دائرة كبرى، وإن كل فرد يجب أن يعمل ضمن الدائرة التي يقع فيها اختصاصه وكفاءته هي فكرة جديدة أوجدها التنظيم القومي الاجتماعي". (النزعة الفردية في شعبنا 1/8/1942)
ويكرر سعاده تأكيده لأهمية وأفضلية "النظام الجديد" على غيره من الأنظمة المعمول بها في العالم الحديث: "إن فكرة التنظيم الاختصاصي هي فكرة جديدة أوجدتها في سورية والشرق العربي الحركة السورية القومية الاجتماعية. وبيَّنا أن هذه الفكرة لا تزال غير مفهومة الفهم اللازم، حتى عند أكثر القوميين الاجتماعيين أنفسهم، بدون استثناء المتنورين منهم. وعنينا بهم الذين لم يصهرهم النظام القومي الاجتماعي، إما لحداثة عهدهم في الحركة، وإما لعدم اختبارهم في النظام والإدارة". (عود إلى النزعة الفردية 15/8/1942)
إن حداثة هذه الفكرة الجديدة، وفرادتها وتمايزها، وعدم الغوص في كل ثناياها وتفرعاتها. إضافةً إلى ندرة العارفين بفنون الإدارة وعلم السياسة والفكر السياسي، لم يسمح للعديد من المنتظمين في صفوف الحركة أن يلموا بكامل هذا "النظام الجديد". لذلك، لطالما أشار سعاده إلى الصعوبات التي كابدها لشرح فكره ونظامه الجديد. وفي ذلك دليل واضح على أن شعبنا كان رازحاً تحت طبقات من ركام الجهل والأمية... وبالتالي عدم أهليته لتسيير شؤونه العامة.
والحقيقة، أن سعاده كان على عجل لتأسيس حركة قومية الاتجاه والغاية، لمواجهة الأخطار الداهمة: الحركة الصهيونية العالمية وعمليات التقسيم لبلادنا واحتلال أجزاء عزيزة منها. لذلك صوَّب نظره إلى المتعلمين. فالأخطار المحدقة بالوطن في ازدياد، والاستراتيجية الصهيونية عقيدة وغاية وخطة دقيقة منظمة شاملة كل الشؤون، من سياسية إلى العسكرية فالاقتصاد والثقافة تستهدف ليس فلسطين فحسب بل سورية كلها. وما لم تكن هناك حركة منظمة مواجهة لهذه الحركة الصهيونية العنصرية فإن خطتها ستنجح. لذلك كان سعيه كبيراً لإيجاد هذه الحركة القومية التي تملك خطة شاملة كل الشؤون أيضاً: السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية و... لتنهض سورية من جديد.
ولم تكن خطة سعاده ردّة فعل على أوضاع سورية السالفة الذكر، بل كانت الحركة القومية الاجتماعية لإعادة النهوض بسورية. فكانت غاية الحزب: بعث نهضة...
4- الحزب - الدولة:
يدرك كل من يلقي نظرة خاطفة على واقع سورية أوائل القرن العشرين، ويوقن كل ذي بصيرة نتيجة دراسته المعمقة لمجرى حياة شعبها، لاسيما الآثار التي خلفتها الحرب العالمية الأولى: من مجاعة وأوبئة، وأمراض اجتماعية وسياسية واقتصادية هبطت بها لحد كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة. وزاد الطين بلة الاتفاقيات المشينة التي ابتدعها الانتداب الفرنسي – الإنكليزي: اتفاقية سايكس – بيكو، وعد بلفور المشؤوم والكرم الفرنسي على تركية بكليكية والإسكندرون و... فإلى استحداث دول هزيلة في الهلال السوري الخصيب، دول مستولدة قيصرياً، خاضعة للوصاية... كالولد المعاق. دول لا تحمل مقومات البقاء والحياة الطبيعية، أسبغت عليها أنظمة وقوانين ظالمة. وفرضت عليها "دساتير" غير ذي أساس وطني، ممهدة بذلك لإشعال الحروب الداخلية.
في ظل هذه الظروف الداخلية للأوضاع الشعبية والسياسية لكيانات بلادنا، كانت أعمال الحركة الصهيونية تتقدم بخطى ثابتة نحو نجاح خطتها لإقامة دولتها العنصرية والفاشية.
لذلك، سرعان ما تهاوت هذه الدول بعد "نسمات" ما أُصطلح على تسميته "الربيع العربي". وكأنها بلغت سن الشيخوخة، ولم يتبق لها أنفاس للبقاء والاستمرار في صيغتها القديمة – الراهنة – وما زال البحث مستمراً في دوائر الدول العظمى والإقليمية، لمزيد من الشرذمة على وقع مصالح هذه الدول ومصلحة الدولة اليهودية.
لا مشاحة من القول، أن مفهوم الدولة، لم يكن نتاجاً عضوياً أصيلاً للجماعات القاطنة في الكيانات المصطنعة والمستولدة من رحم اتفاقية سايكس – بيكو. فمعنى الدولة، كان مرادفاً للطائفة والمذهب، والعشيرة والقبيلة و... مما أغفل وظيفة الدولة في إقامة مجتمع مدني حديث قائم على المساواة والعدالة والانتماء للأرض والشعب. وبالتالي تأمين مصالح هذا المجتمع في الرُّقي والتقدم والحياة الكريمة.
أمام هذا الوضع الاستثنائي لسورية، الذي يفترق عن مثيلاته من بلدان العالم، حيث فقدت كل مظاهر الحياة الواقعية أو الطبيعة، وعلى كافة الصعد: الاقتصادية، السياسية، الثقافية والاجتماعية... حيث شهدنا غياباً شاملاً للمؤسسات الوطنية الجامعة.
أيقن سعاده أن ما يواجهه في سورية ليس "صورة شعب غاضب على حكام، أو قاعدة حكم، عامل على إصلاح فساد حكام، بل صورة شعب تغلغل الفساد في جميع طياته وأصبح في حالة مرض وشلل". وهو الفرد الذي "تجرد لاستئصال الفساد وإصلاح أمر الشعب"، وإن كل ضعف "في سلطة هذا الفرد المصلح قد تؤدي إلى زلة إلى الوراء أو تشقق وتهدم في البناء... وإنه لكثرة الفساد في الشعب قد فُقدت الثقة بالأفراد...، ولهذا، السبب عينه يجب أن يُعطى المصلح الخبير هذه السلطة غير المحدودة". (سلطة الزعيم 1/3/1941)
وضع سعاده العقيدة المحيية للآمال السورية، التي توضح حقيقة الوطن وتاريخه الطويل، والأمجاد التي خلفها. وما يختزنه من موارد طبيعية تؤهله للعودة إلى مسرح الحياة الدولية. وباشر في الوقت عينه، بوضع المواد النظامية والقانونية التي توضح الحقوق والشخصية القومية. فكان أن أقام احتفالاً في 21 تشرين الأول 1934 لمناسبة إبرام الدستور. الذي عاد وصنَّفه في كانون الثاني 1937، وضمَّنه فكرته الجديدة التي تنقذ سورية والبشرية جمعاء من براثن الديمقراطية الزائفة التي يتخبط فيها العالم كله. ديمقراطية جديدة هي "التعبيرية" التي هي نتاج سوري خالص.
وانكشف أمر الحزب الذي أسسه في تشرين الثاني 1935، وكانت المواجهة الأولى مع "المنتدب" الفرنسي، الذي سرعان ما أيقن أنه أمام شخصية فذّة. وواجه سعاده في المحاكمة الأولى الدولة المنتدبة مواجهة "رجل الدولة": أنتم تعديتم على أمتي... أنتم قسَّمتم بلادي... على اعتبار أنه هو الناطق الرسمي باسم الأمة جمعاء. وكان يحاور السياسيين المحليين والأجانب كقائد أمة وزعيم سياسي من طراز جديد، لم يألفه شعبنا فيما سبق. كما تفاجئ قادة الانتداب الفرنسي بشخصيته وتصرفاته وقيادته لأعضاء حزبه.
إشادة الدولة الجديدة:
وشرح سعاده الديمقراطية الجديدة شرحاً وافياً، في كتابه العلمي نشوء الأمم، وفي رسائله وخطبه ومقالاته. وهي في صلب التعاقد (مقدمة الدستور). وهذا التعاقد يُلزم جميع السوريين القوميين الاجتماعيين بتطبيق هذه الديمقراطية الجديدة وتقديمها للبشرية مستوحياً إياها من تاريخ سورية الثقافي القومي، ومن التطورات السياسية الجارية في العالم المتمدن.
واختار سعاده، إعادة بناء بلاده، فرداً فرداً أولاً، عبر عقد جديد مع كل منهم مضمونه الأساس إعادة بناء الدولة السورية. فهو كان يعرض العقيدة والنظام سوياً على أبناء الشعب. ونتيجة الإقرار بإيمان الواحد منهم بالعقيدة والنظام، كان سعاده يبرم عقداً معه بموجب قسم واضح النص، يوافق إثرها على عضويته في الحزب – الدولة.
هذا العقد الفريد من نوعه، حيث يُقدم المقبل على الدعوة على الموافقة على إجراء عقد بكامل حريته وإرادته، بينه وبين صاحب الدعوة على بناء دولة جديدة، وفقاً للعقيدة والنظام الجديدين. ولا انسحاب من الحزب، لاعتباره خيانة للهوية القومية.
فهو نوع من المبايعة الشعبية لزعامة سعاده وقيادته الأمة... فهو أراد من الحزب أن يكون النموذج الحي للديمقراطية الجديدة، ولتكن المثال المحتذى في حزب الأمة المصغَّر ليصار إلى الاقتناع به من قبل كل شعبنا.
هو عقد، يتضمن الموافقة على العمل سوياً لإنشاء الدولة السورية. والدستور المتضمن موضوع العقد، هو أول إعلان للدولة السورية. هذه الدولة الناهضة بالتعاليم الجديدة. حُدِّدَ في الدستور، الحدود الطبيعية للوطن وبالتالي للدولة العتيدة، ومصالحها القومية ومعالم وجهتها الجديدة في (غاية الحزب – الدولة). وتضمن هذا الدستور، خلاصة فكر سعاده الدستوري، محدداً فيه المبادئ – الركائز التي بها وحدها تستعيد سورية حيويتها وتعود للقيام بدورها الحضاري وإلى سالف عهدها المجيد.
إذن، أوضح سعاده الديمقراطية الجديدة لأعضاء الحزب ولشعبنا، وأكد على أنها تنقذه من كل مثالب الديمقراطية التمثيلية التي كان يُعمل بها في الكيانات السورية، معلناً فسادها لتوزيعها الشعب إلى شلل مذهبية وعشائرية وقبلية وأثنية. وانها كرَّست الإقطاع الطائفي والرأسمالي، الذي سهَّل تسلل اليهود والمتهودين والطامعين بخيرات بلادنا إلى قلب مجتمعنا... فوقع الشعب السوري في شرّ البلية..
إعلان الدولة الجديدة:
واضح أن الشأن الدستوري الذي أعلنه سعاده خلال محاكمته عامي 1935-1936، قد تناولته الصحافة المحلية والأجنبية. وكان مثار أبحاث مستفيضة قام بها الصديق والخصم. وكان ثناء كبير على محتواه.
أراد سعاده من هذا الإعلان، توجيه الأنظار إلى الحقوق السورية. فهو كان على دراية تامة، إن الشأن الدستوري أو القانوني هو إثبات للحقوق القومية للشعب بشكل عام، وهو من أفعل وأرقى وسائل التغيير السياسي والاجتماعي. لاسيما في أوساط شعبنا الفاقد لحقوقه وواجباته. فقد أدرك سعاده، أن الدولة الحديثة لا تقوم إلاّ على الأساس الحقوقي، وأن الدولة لا تتقدم وتخطو خطواتها الأولى إلى الأمام إلاّ نتيجة التحولات القانونية والقضائية التي تلعب دوراً هاماً في عملية إدخال قيم جديدة إلى مؤسسات الدولة. فالمؤسسات القانونية هي الأدوات الأساسية في عقلنة الحياة وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، والذي ينتج عنه تحديث الدولة (إدارة وأشخاصاً ومؤسسات) واطراد تقدمها.
وتعتبر عملية نشر الدستور، بمثابة إعلان للدولة الجديدة على المستوى الدولي، وإنها وصلت إلى درجة النضج السياسي، وبالتالي يقتضي أن تتعامل مع الدول الأخرى على هذا المستوى الدولي.
وينظم دستور الدولة السورية القومية الاجتماعية عمل الأجهزة أو السلطات في الدولة (مستند قانوني وشرعي) على الصعيد السياسي العام. كما يضع القواعد الأساسية على الصعيد الاجتماعي، ليلم الشعب بحقوقه وواجباته، فتنظم العلاقة فيما بين أبنائه، كما تنتظم العلاقة بينه وبين المؤسسات العامة للدولة. ويتضمن إعلان حقوق الأفراد والعلاقات الجديدة التي يجب أن تقوم بينهم بناءً على نظرة سعاده للاجتماع والسياسة.
فعملية إعلان الدستور، ونشره هو إعلان عن عودة سورية إلى المسرح العالمي. وهو إعلان للدولة السورية الذي كان سبق لسعاده إعلانه في أول اجتماع رسمي مع المسؤولين الإداريين في الحزب في أول حزيران 1935: الخطاب المنهاجي الذي يشير فيه إلى انتهاء عهد "القطعان البشرية" وإن عملية تأسيس الحزب هي إعلان لنقض "حكم التاريخ" وابتداء "تاريخ جديد"، وإن الحزب هو "الدولة" الجديدة للأمة التي يعبِّر عنها اجتماع المسؤولين الإداريين، وإن الحزب ليس جمعية أو حلقة تضم عدداً من الأعضاء... "إنه فكرة وحركة تتناولان حياة أمّة بأسرها"... وأن هؤلاء الأعضاء قد تعاقدوا على إنشاء الدولة السورية المستقلة". وتعاهدوا على أن يكونوا حصن الحزب "كل عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي يشعر أنه آخذ في التحرر من السيادة الأجنبية والعوامل الخارجية المخضعة، لأنه يشعر أن الحزب هو بمثابة دولته المستقلة التي لا تستمد قوتها من انتداب ولا تستند إلى نفوذ خارجي.
الحقيقة، أيها الرفقاء، أننا قد ترابطنا في هذا الحزب لأجل عمل خطير جداً هو إنشاء دولتنا وليكون كل واحد منا عضو دولته المستقلة...". كما يؤكد في جملة رسائل على هذا المنحى. ففي رسالته إلى جميل شوحي (12/8/1942) يعلن أن الحزب سيسطر تاريخاً جديداً لأمّة عظيمة في تاريخها وعطاءاتها للإنسانية، وأنه "قوة وحركة تتناولان حياة أمّة بأسرها. إنه دولة السوريين القوميين الاجتماعيين المستقلة...".
ويوضح أنه قد لمس هذا الشعور بعد خروجه من سجنه الأول، من خلال سلسلة المواجهات مع أركان الدولة المنتدبة وأذنابهم فيؤكد أن الحزب قد أخذ يكتسب الصفة التي أعلنها في خطابه المنهاجي.. أي أنه آخذ في صيرورة "الدولة السورية المستقلة" (رسالته لنعمان ضو 8/8/1939).
كما يكرر ذلك في رسالته إلى منفذ عام المكسيك (11/12/1939) فيورد أنه يرى أن على الحزب أن يبحث عن مصلحته خلال الحرب العالمية الثانية كونه هو "الدولة السورية المستقلة" وأن "الزعيم هو رأس الدولة القومية" (رسالته على جورج بندقي 31/7/1940). كما يأتي على ذكر موازنة الدولة القومية (رسالته إلى المنفذ العام لمنفذية مينس 19/9/1940).
ويعلن في رسالته إلى القوميين (10/1/1947) بعد الاستقلالات الموهومة وإعلان "الدول – الحبوس" للأمة ما سبق وأعلنه في خطابه المنهاجي: "... لتعلموا ويعلم الناس علماً لا شك ولا غموض فيه أن الكيان الحقيقي الحائز على جميع شروط السيادة والاستقلال الحقيقيين هو كيان حزبكم القومي الاجتماعي، فهو الدولة المستقلة استقلالاً صحيحاً، لأن استقلالها كان وليد عقيدتها وإرادتها وعملها وليس وليد الصدف والظروف، ولأنها هي الدولة التي نشأت حرة وعملت، منذ نشأتها، بمطلق سيادتها منذ أعلنت سيادتها واستقلالها في خطابي المنهاجي في أول حزيران سنة 1935، فحارَبتْ الفرنسيين حرب دولة منظمة ذات سيادة واستقلال وحافظت على هذه الشخصية في جميع الظروف وجاهدتْ ما أمكنها الجهاد في جميع الجبهات القومية. وفي أشد ساعات حروبها حراجة ظلت معنوياتها عالية يصح أن تكون قدوة لدول كثيرة.
... في حزبكم تقرر منذ البدء مبدأ السيادة القومية ومبدأ عضوية الدولة القومية الاجتماعية ونظامها واستقلالها، وفي حزبكم تحققت السيادة الحقيقية والاستقلال الحقيقي والحرية الحقيقية... في ذلك الخطاب (المنهاجي) أعلنت أن الحزب القومي الاجتماعي هو دولة الشعب المستقل، وإننا قد حررنا أنفسنا في الحزب من كل سلطة وكل إرادة أجنبية...".
قبل إعلانه خطابه المنهاجي (1935)، كان سعاده قد باشر العمل بوضع دستور الدولة العتيدة، - كما سبق الإشارة - وحقوق وواجبات أعضاء الدولة المولودة معتبراً أن "وضع قواعد الحقوق المدنية للشعب السوري وابتداء الدولة السورية القومية، كانا فجر تاريخ جديد في حياة أمتنا". (نداء الزعيم إلى الشعب السوري 1/6/1940)
في الحقيقة، إن سعاده كان قد درس الأسباب العميقة للأمية التي يقع السوريون تحت سطوتها. واستحدث نتيجة ذلك كل الآليات والوسائل الواجب انشاؤها لإعادة خلق وعي قومي: وحدة الحياة والمصير.
ونبَّه السوريين – لاحقاً – بعد الاستقلالات الوهمية للكيانات السورية، أنه يجب عدم تحويلها إلى "حبوس" للأمة لئلا تكون العاقبة وخيمة. ووجه أنظارهم إلى الطريق الواجب سلوكها لإقامة الاستقلال الصحيح لسورية.
المؤسسات الجديدة:
كان سعاده "أميناً" على المسار التاريخي السوري، فأسس حزباً متوافقاً مع هذا المسار، هادفاً الوصول إلى المبتغى القومي، أي تحقيق غاية الحزب. من جهة أخرى، كان يدرك إدراكاً عالياً واقع سورية المريض. فقد كانت غارقة في قرون من الأمية والجهل والانحطاط والتخلف، فوضع ما يناسبها: خطة كفيلة بقيامها من واقعها الأليم. والسير بخطى حثيثة نحو نهضة العز والمجد، فقد أرسى الحزب "أساس السياسة القومية الذي يجب أن يحل محل أساس السياسية الشخصية القائمة عليه الأشكال السياسية الحاضرة المتصدعة. وجاءها أيضاً بالمؤسسات القومية العديدة لتحل محل المؤسسات التقليدية العتيقة التي هي مؤسسات لا تصلح لمطالب الحياة القومية". لذلك سرعان ما وقعت الحرب "بينه وبين خصومه وهي حرب بين عصر النور وعصر الظلمة، وبين الحياة والتقاليد، بين المصلحة القومية والمصالح الشخصية، بين النهضة والخمول، بين الاجتماع القومي والاجتماع الديني أو العشائري، بين النظام والفوضى، بين مؤسسات الحياة القومية من اجتماعية واقتصادية وسياسية ومؤسسات التقاليد القديمة من دينية وعشائرية وإقطاعية، بين الحياة والموت، ومصير الأمة والوطن معلق على نتيجة هذه الحرب الداخلية العنيفة". (نداء زعيم النهضة القومية إلى السوريين عبر الحدود 4/1/1938)
من هنا تفرد سعاده بعمله عبر "إنشاء القضية السورية القومية، التي أوجدها الحزب السوري القومي..." (مصير سورية بعد الحرب 1/10/1940). وإنه أتى "للشعب السوري بتعاليم وأنظمة لا عهد له بسابقة لها". (رسالة إلى الوكيل العام لمكتب عبر الحدود 29/9/1939)
وأنه لا "نهضة" لسورية بدون "النظام الجديد"، الذي هو أساس هام تقوم عليه "دولتنا الناشئة" (رسالة إلى وديع عبد المسيح 8/12/1940). لقد احتاج سعاده لإنشاء كافة مؤسسات الدولة والمجتمع على السواء. فشرَّع دستوراً اجتماعياً وآخر سياسياً، فقد كان صاحب نظرة جديدة ويعمل لبناء مؤسسات جديدة. وقد اعتبر أنه يقوم بعمل عزّ مثيله: إنهاض أمة من "قبر التاريخ" وإعادتها إلى الحياة بعد قرون من الغياب عن المسرح العالمي. وكان عليه مواجهة كل التعديات والاحتلالات من قبل الدول العظمى آنذاك. ومواجهة المخطط السرطاني اليهودي الخبيث لإنشاء كيان عنصري غريب على الأرض السورية.
كان سعاده على دراية تامة بأوضاع سورية نتيجة مشاهداته إن "جميع أشكال سورية الحاضرة هي مخالفة لغاية الحزب الأخيرة ولنظر النهضة". (رسالة إلى مدير مديرية خوخوي 26/7/1946) بسبب الغياب التام لمؤسسات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية... قومية الاتجاه والغاية.
فقد لاحظ سعاده بُعيد عودته للوطن عام 1930، انفكاك عُرى الوحدة وتقوقع الناس ضمن قوالب اجتماعية ومذهبية رجعية الطابع، وكان البارز منها مؤسسات البيت والعيلة والطائفة والقبيلة والعشيرة... ولم يجد أي أثر لمؤسسة يمكن الاعتماد عليها في عملية النهوض القومي. فكان الحزب لإعادة ربط أواصر القربى بين أبناء الشعب الواحد، وإعادة بناء "وحدة الروح" عبر إنشاء حياة ثقافية واجتماعية واقتصادية واحدة. معلناً أن التخلف والجهل والأمية ليست قضاءً وقدراً. وإن الحزب هو الهيئة الاجتماعية الجديدة لسورية الناهضة بمبادئ الحياة الجديدة. فالحزب هو لإعادة تركيب الوحدة المجتمعية والسياسية لسورية. فهو "أنشئ الحزب السوري القومي ليعمل على تطوير حالة المجتمع وتوحيد العقائد في عقيدة واحدة هي العقيدة القومية التي لا عقيدة غيرها تكفل زوال النظريات الخصوصية وتضمن توحيد الشعور والاتجاه". (الكيان اللبناني 14/10/1937) وأن المجتمع السوري يحتاج لمؤسسات جديدة يقوم على إدارتها أصحاب المواهب العلمية وأهل الاختصاص والكفاءة والوعي القومي للصالح العام. وأن الحزب هو أداة التغيير والتحول لأحوال الجماعة التي تستوطن بيئة الهلال السوري الخصيب. وهو المصهر الذي سينتج جماعة واحدة موحدة الحياة والمصير. والمؤسسات الجديدة على الصعيد الاجتماعي (المنفذيات والمديريات، ولجان المديريات ومجالس المنفذيات) أنشئت كوسيلة لإنجاز مهمة السيرورة المتحدية أو المجتمعية.
فالمديرية، مسؤولة عن متحدها (المنطقة أو الحي...) تعمل لتحويله إلى "وحدة حياة" بدلاً من "العيش المشترك" كما يشاع. أي أن تعمل على وحدة أبناء المنطقة، وإنتاج عادات وتقاليد جديدة تحل محل العادات والتقاليد السابقة للعهد القومي، وبالتالي نسج مصالح اجتماعية جديدة تحقيقاً للحياة القومية المنشودة.
وبالتالي، أن تكون المديرية أو المنفذية منارة بكل معنى الكلمة تعكس واقعاً جديداً عبر الاهتمام بمختلف شؤون وشجون المتحد، وإنشاء مؤسسات جديدة مستوحاة من حاجات أهل المنطقة على كل الصعد. وفي هذا المجال، تطبيق المرسوم الرابع، الذي له دور أساسي في إعادة صياغة المصالح الجديدة (المؤسسات) بين أبناء المنطقة، التي تساهم في إنشاء وشائج وعلاقات وثيقة توحِّد أبناء المنطقة في أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والتربوية و... القومية.
ولطالما، حاول سعاده العمل لتطبيق هذا المرسوم، وقد قام بشرحه لعدة مسؤولين في المركز أو للمنفذين العامين يحثهم فيه على ضرورة تطبيقه. يدلنا على ذلك، ما ورد في رسالتين متتاليتين لسعاده إلى منفذ عام المكسيك في 2/1 و14/8/1941. فهو يطلب منه تطبيق المرسوم لأنه "يُكسب الحزب حيوية كبيرة".
ولدى عودته من مغتربه القسري، نراه يطلب من عميد الداخلية العمل لتطبيق المرسوم المذكور، لتسريع وتيرة التغيير الاجتماعي ولإحداث نقلة نوعية للشعب على كل المستويات الحياتية. ودارس دستور سعاده، يلحظ أن واضعه استهدف تغيير واقع أمةٍ بكاملها، وانتشالها من "قبر التاريخ" وإعادتها إلى الوجود الحي والفاعل على المسرح الدولي.
ويتضح لكل باحث ومدقق في ثنايا هذا الدستور، أن واضعه شاءه أن يكون شاملاً كل ما تحتاجه سورية في عملية النهوض القومي.
والحقيقة المرَّة، أن تلامذة سعاده، قد تخلفوا عن إبراز مكتنزات هذا الدستور. فالمديرية أو المنفذية، قلَّصت نشاطاتها على إقامة الحلقات الإذاعية لعدد محدود من مواطني المنطقة، أو إقامة حفلات بالمناسبات الحزبية... فبقيت أعمالها ونشاطاتها محصورة بعدد محدود من أبناء المنطقة، ولم تعمد لإنشاء مؤسسات تحوَّل المنطقة كما كل منطقة يوجد فيها مكتب حزبي لمديرية أو منفذية إلى منارة لكل مناطق الوطن، فيجتمع أبناء المنطقة من كل الطوائف والمذاهب والأثنيات في وحدة قومية متينة تعيد تألق الحياة الاجتماعية السورية إلى سالف عهدها على الصعد الثقافية والاقتصادية والعلمية و...
وهكذا نخط حياة جديدة للمناطق بناءً على المؤسسات الجديدة التي تقام من قبل المنفذية لتحل محل المؤسسات القديمة. فنقضي على حياة "القطعان البشرية" ونسجل بداية "تاريخ جديد" لسورية الناهضة بالتعاليم القومية الإجتماعية.
أراد سعاده من حزبه، أن يكون صورة الأمة مصغرة، نموذجاً جديداً لحياة اجتماعية جديدة، وحياة سياسية جديدة. فكان الحزب – الدولة، الذي لم يرَ النور بعد!
|