- تشرين ثاني طه غدار
" لقد قدّرت منذ البدء أن مهمة نهضتنا التحريرية الأولى هي إنقاذ مجتمعنا من حالة انحطاطه وتعثره بنفسياته الصغيرة الضيقة. وليس لتحقيق هذه المهمة سوى طريق واحدة مستقيمة واضحة هي طريق إنقاذ العناصر الجيدة الصالحة لبناء مجتمع صحيح وتكوين جبهة مناقبية جديدة تقيم حاجزاً يمنع مثالب عناصر الظلمة من الاندماج فيها أو التأثير على الشعب". ( سعاده يخاطب الجالية السورية، تاريخ 24/6/1939)
"إن نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة... وجعل الأمة وحدة حياة، وحدة مقاصد، وحدة مصير". (محاضرة الزعيم في الندوة الثقافية 18/1/1948)
"نحن حزب يدرك إدراكاً جلياً ما هي علة الشعب، ما هي علة المجتمع، وما هو العلاج الشافي لأمراضه؛ ما هي الغاية الواضحة الحقيقية المصيبة التي يجب أن يتجه الشعب إليها ليجد فيها حياة جديدة سامية تُشعِر كل فرد وتُشعر كل بيت بالعز، بالاستقرار في الخير، تُشعِره بالنمو وبجمال الحياة الروحية والمادية". (خطاب الزعيم في جل الديب 22/2/1948)
لم يجد سعاده عندما عاد إلى الوطن عام 1930 أية مؤسسة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية يمكن الاعتماد عليها لإنهاض شعبه. فقد " نام الوجدان القومي في سورية نومه العميق " ، فضاعت شخصية الأمة نتيجة غرقها بالعصبيات الأتنية والحزبيات المذهبية، وانتشار الآفات السياسية لدى بعض المتزلفين من أصحاب المصالح والمنافع ، إضافة الى الآفات الاجتماعية لا سيما منها الفردية الغارقة في أنانيتها المناقضة لوحدة المجتمع ومصيره الواحد .
هذه الأمراض ترسخت في ذهن شعبه جيلاً بعد جيل، نتيجة تفسخ الوحدة السورية، وانهيار الدولة العباسية، وتفككها وتشرذمها إلى دويلات متحاربة منذ القرن العاشر الميلادي. وأتى الحكم العثماني في بداية القرن السادس عشر، ليزيد الطين بلة. فمُنعت المدارس وتعطلت الأعمال الثقافية على اختلافها في الوطن السوري، مما أمعن في سقوط الشعب في المفاسد الاجتماعية وزاد الأمور تفاقما تدخل قناصل الدول الأجنبية في الحياة السياسية والاجتماعية، مما ساهم في تأجيج النزاعات والانقسامات الداخلية، وتمزيق وحدة الشعب السوري.
بعدها أتت المعاهدة – المشؤومة الذكر – سايكس بيكو، التي أعملت سكينها في تقطيع أوصال الوطن فجزأت بلادنا وفقاً للمطامع الأجنبية بموقعها وخيراتها... و"مُنح" اليهود على طبق من فضة الجزء الجنوبي منها، وكانت قد سُلخت سيناء وقبرص والأحواز عن الوطن الأم. ثم كان وضع اليد على كيليكيا والإسكندرون من قبل تركيا "المستيقظة" على مصالحها في منطقة الشرق الأدنى.
وهكذا وجد السوريون القوميون الاجتماعيون أنفسهم اليوم أمام "مهمة مستحيلة" قالها لي أحد الأمناء المؤمنين بحق. وأجبته بسرعة البرق – يومذاك – والقوميون الاجتماعيون هم رجال المستحيل، وهذا بعض ما نحن!
إنقاذ الوطن:
أدرك سعادة صعوبة الأمور التي آلت إليها أوضاع شعبه لا سيما بعد تجواله في بعض الأنحاء السورية لمدة سنتين فأيقن جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، فباشر عمله الإنقاذي عام 1932 بصياغة العقيدة الموحدة. وتابع بوضع "النظام الجديد" الذي يعيد توحيد الشعب، وينظم كيانه، والذي يسمح له بالنهوض من وهنه – رغم عظم المصائب – ويطلق قواه الحية في مؤسسات ناظمة لأعماله تساهم في نهضته في كل مناحي الحياة. وتعيد الدور السوري إلى الفعل والتقرير في عالم الصراع والنفوذ على المصالح والمنافع، لبناء صرح إنساني جديد على أسس جديدة من العدالة والقيم الإنسانية القائمة على الاحترام للحقوق القومية للأمم والمجتمعات البشرية.
وكان سعاده قد عاين شعبه معاينة دقيقة لفترة طويلة في المهجر البرازيلي حيث كان يعمل مع والده الدكتور خليل سعاده. ساعده في ذلك اطلاعه على العديد من المؤلفات باللغات الحية، إضافة إلى مطالعاته لبعض المفكرين الوطنيين السوريين الذين سبقوه.
ورغم محاولات ثنيه عن غايته من قبل أساتذة الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية اليوم) وبعض أصدقائه وأحبائه، لصعوبة العمل الذي يُقدم عليه. إلا أنه من جهة أخرى، لقي الكثير من الثناء والتقدير لعمله من قبل نخبة من المثقفين السوريين. وما كان لسعاده أن يتوانى عن مبتغاه. إن قدومه إلى الوطن كان لغاية واحدة في نفسه إعادة شروق النبوغ السوري على العالم أجمع لأن العالم كله يحتاج "إلينا" كما كان يردد دائماً.
مؤسسات فاسدة:
لم يجد سعاده– كما أسلفنا – المؤسسات التي يصح الركون إليها. أو الاعتماد عليها في عملية النهوض القومي. حتى مؤسسة البيت أو العائلة – كما يقول – كانت مؤسسة متهدمة لا يمكن الارتكاز عليها وتوكيداً لذلك يورد في محاضرته في مؤتمر المدرسين (المنشورة في العدد الخامس من النظام الجديد تموز – آب 1948): "إذا حسبنا ما كان لنا نحن من قواعد للنهوض والبناء بالنسبة لما كان عند غيرنا وجدنا أننا ابتدأنا من درجة الصفر. فقوميتنا كانت مجهولة لنا وأصولها تفككت وتبعثرت من قرون بعيدة ولم أجد يوم ابتدأت تخطيطي البنائي، مؤسسة واحدة في أمتنا صالحة للارتكاز في عمل النهوض والبناء القوميين الاجتماعيين. كان عليَّ أن أضع قواعد الحياة القومية وفلسفة الحياة القومية الاجتماعية، وأن أُشرَّع للمنظمة القومية الاجتماعية التي أعلنتها سنة 1935 دولة الشعب السوري الاجتماعية المستقلة الحقوق والواجبات العامة، وأن أؤسس المؤسسات الجديدة الصالحة للحياة الجديدة التي نريدها ولمثلها العليا. إلى مثل هذا العمل لم تحتج نهضة واحدة من النهضات المعاصرة في أية أمة من الأمم. فإذا قلنا أن عملنا الإنشائي العظيم يفوق في خطورته وروعته عمل أية نهضة أخرى في التاريخ لم يكن قولنا إلا إعلان الحقيقة السليمة والواقع الصحيح اللذان يملآن صدورنا اعتزازاً وافتخاراً".
هذا الكلام الواضح لسعاده، يتضمن وصفاً شاملاً ودقيقاً لأوضاع الأمة السورية ويؤكد على فداحة أوضاعها قبل تأسيس النهضة القومية، مما يتطلب ممن يرهن نفسه لإنقاذ مجتمعه أن يكون قادراً على فهم الأسباب الحقيقية التي دفعت الشعب إلى هذه الحالة المشؤومة، وبالتالي، تعيين أساليب وطرق عملية النهوض، عبر إعادة توحيد الشعب وإطلاق قدراته الحيوية البناءة ليعود ويبزع فجر جديد لحياة جديدة كل الجدة.
قواعد النهوض:
وضع سعاده الأساس للبناء المتين البنيان. وكما يشير في خطابه إلى الطلبة في الجامعة الأميركانية عام 1949، أنه وضع الأساس على الصخور الصلبة، لأنه لا يمكن البناء على الرمال. أرسى قواعد النهوض القومي، ولما لم يجد المؤسسات السياسية والاجتماعية الصالحة صاغ في "نظامه البديع" المؤسسات الجديدة التي يمكن الاعتماد عليها لينهض شعبه من كبوته. شَرّع للمؤسسات القادرة على إعادة بناء الإنسان السوري ورفعه عن الدنايا وحالة التمزق الاجتماعي والنفسي والتخلف الثقافي والاقتصادي والسياسي إلى رحاب التعاليم القومية الاجتماعية الموحّدة والجامعة.
أنشأ سعاده المؤسسات السياسية العليا للدولة المركزية السورية الجديدة، لقيادتها في معارك الوجود والمصير القوميين: "في عصر تنازع الأمم البقاء" وأوكل أمور هذه المؤسسات إلى أصحاب المؤهلات والكفاءات، أصحاب الاختصاص العالي، والمناضلين بامتياز في سبيل خير وسيادة وعز الأمة، والعاملين باطراد لتقدمها وتطورها.
وبالنظر للحالة البائسة التي كان عليها الشعب أنشأ المؤسسات الاجتماعية: المنفذية، المديرية، مجالس المنفذيات ولجان المديريات في المناطق، لتكون المحيط الطبيعي الذي يحتضن الإنسان، ويبنيه بناءً جديداً متوافقاً مع التعاليم القومية الاجتماعية التي جاء بها سعاده، ليخلصه من الرواسب المذهبية والطائفية والإرث العرقي، وليعيد حياكة نسيج وحدته الاجتماعية، دافعاً إياه للعمل لإنماء منطقته، وبالتالي نهضة بلاده الغالية.
أولى الصعوبات:
عمد سعاده لإنشاء المؤسسات الاجتماعية بعدما وجد أن بلاده تفتقر لمؤسسات جامعة موحدة، مؤسسات متحررة من كل العصبيات والعنعنات والأنانيات والأمراض الاجتماعية والنفسية. واصطدم بصعوبات عديدة في بداءة العمل التنظيمي، وفي هذا المعنى يقول في رسالته إلى وليم بحليس بتاريخ 7/4/1941: "... أعتقد أن المسألة تستدعي الصبر. إنها نتيجة عدم وجود نظام سابق ومن مشاكل بداءة التنظيم واحتكاك العقليات الناشئة في بيئات منفردة كل منها بشؤونها النفسية. هذه حالة شعبنا. وفي بداءة أعمال الحزب في الوطن نشأت صعوبات كثيرة من تصادم النفسيات الناتجة عن تباعد بيئاتنا، بالصبر الطويل والتغيير والتحور والتقليب تمكنت من تعديل الأمزجة وسبك النفسيات سبكاً جديداً".
كتب سعاده العديد من الرسائل، يشرح فيها معاناته الأولى خلال فترة تأسيسه الحزب. كما كتب لاحقاً، بعد التأسيس، العديد من الرسائل أيضاً، يشرح فيها للمسؤولين والأعضاء أهمية النظام والتنظيم وكافة الأعمال الإدارية. تدل هذه الشروحات الطويلة والكثيرة على الصعوبات التي واجهها سعاده لتعليم وتدريب الرفقاء والمسؤولين الأُول على تحمل المسؤوليات ومواجهة الأمور لتخطي الصعاب وبناء المفاهيم الجديدة للحياة الجديدة.
أعظم أعماله:
ولطالما اعتبر سعاده أن إنشاء المؤسسات "أهم من الأشخاص" لإعادة إحياء وحدة شعبه، وبالتالي وحدة بلاده. ففي رسالته إلى منفذ عام المكسيك بتاريخ 14/8/1941 يقول: "إن كل هم الزعيم كان منصرفاً لتأمين نشوء مؤسسات تكفل سير الحركة تحت كل الظروف، حتى لو مرض الزعيم نفسه أو حدث له حادث. ولو أن الزعيم لم يُنشئ مجلس العمد، ولم يضع المراسيم الدستورية بإنشاء هيئات المنفذيات ومجالسها، واكتفى بالقيام بالأعمال بحصرها في شخصه، فماذا يُنتظر أن يحدث غير الفوضى والشلل وإذا حدث للزعيم حادث أقصاه عن العمل".
لذلك، كانت المؤسسات "أعظم أعماله" بعد تأسيس القضية السورية القومية الاجتماعية. وبالنظر لأهميتها، يُورد في خطابه إلى المدرسَّين القوميين الاجتماعيين بتاريخ 17/7/1948 بعض الأمثلة عن كيفية نهوض الشعوب بالاعتماد على مؤسساتها القومية، مثال ألمانيا التي ارتكزت في نهضتها السريعة قبل وبعد الحرب الأولى على مؤسساتها، وإلى وجود دولة مركزية موحدة سهلت لها القيام والنهوض خلال وقت قصير بعد هزيمتها النكراء في الحرب، واعتماد أتاتورك على مؤسسة الجيش للنهوض بتركيا الحديثة، والاتحاد الأوروبي، اليوم، يعمد لبناء مؤسسات موحدة للدول المنضوية ضمنه ليطل على العالم كقوة عالمية كبرى.
المعلم الإداري:
سعاده – كما أسلفنا – وعى باكراً دور المؤسسات، وأهمية وجودها للإرتقاء والتقدم القوميين. وهذا واضح كل الوضوح من حجم رسائله إلى المسؤولين لنقف على توجيهاته في هذا الشأن لبناء الدولة السورية العتيدة. وفيها يبرز حجم معرفته وعلومه وفكره الإداري الحديث الذي يجاري ما بات يعرف اليوم "بالمنجمانت" مما يدل دلالة أكيدة على أنه كان مطلعاً على العلم الإداري في زمانه والفن الإداري والمخاطبة الإدارية والأعمال الإدارية، مما يصح معه القول أنه كان معلماً إدارياً بامتياز. لذلك، فهو لطالما تحدث عن الحزب كمنظمة لديها سجلاتها وكُتابها وإداراتها المتشعبة... وهذا واضح كل الوضوح، من دستوره الذي صاغه عام 1934 وهو خير دليل على العمارة النظامية التي أشادها، كل ذلك بناءً على مطالعاته لتاريخ بلاده، وأنظمة دول العالم المتمدن التي عاصرها في حياته القصيرة من ليبرالية ونازية وفاشية وشيوعية والتي أشاح النظر عنها ليضع نظاماً جديداً مستخلصاً من "تاريخ سورية الثقافي السياسي القومي" – الديمقراطية التعبيرية – وبالتالي ليؤكد على إسهام هذه الأمة بكل ما يساعد العالم للخروج من المأزق الذي يعيشه من جرّاء أنظمته "الديمقراطية" و"الكُلية" الفاسدة والعاجزة في آن عن حل كل "المشاكل الاجتماعية – الاقتصادية المعقدة".
الشلل الفكري:
في زمن سعاده، قام الحزب أساساً على زعامته، قيادته، هدايته، تعليمه وبالتالي قدوته. قام إذن على الفرد. وهكذا استمر الحال بعد غيابه، على الفرد – رغم فارق الشبه البعيد – لا المؤسسة التي حاول سعاده جاهداً تركيزها في أذهان السوريين القوميين الاجتماعيين، لا سيما "أصحاب" المؤهلات منهم. لأن القيادات – الطحالب بعده – لم تلحظ أهمية المؤسسات وقيامها في حياة الأمم، ودورها في عملية التقدم والنهوض. ولم تعمد لتعليم وتدريب الأعضاء على تحمل المسؤوليات، كما فعل هو ولم تقم بشرح بسيط للدستور، في تقصير فاضح لإبقاء القوميين في جهل مقصود لنظام الدولة السورية الجديد! يشير سعاده إلى هذا الموضوع في أكثر من مقاله له يوضح فيها إلى أن النظام الذي كان معمولاً به في عهد زعامته، هو "نظام مؤقت لنقل شعب من حالة إلى أخرى. نظاماً لا بد منه في الأمم التي أصابها شلل فكري وأخلاقي واقتصادي". ولأنه عرف شعبه معرفة دقيقة. فقد صاغ له المؤسسات الاجتماعية التي تنقذه من الأمراض الاجتماعية لا سيما منها المذهبية والطائفية والعشائرية، وتنتشله من كل المفاسد التي زُرعت في نفسه أيام الحكم العثماني الطويل، وزمن الانتدابين الفرنسي والإنكليزي. وقد جهد سعاده لتعليم الرفقاء الأول القواعد الأولى النظامية لبناء مؤسسات صالحة تساهم في ارتقاء الشعب.
لا للمؤسسات:
لم تقدّر القيادات – بعده – أهمية العمل المؤسساتي حق قدره فكتب واحد من هؤلاء في بداية السبعينات عندما أنشأ ما يسمى "التنظيم السري" عن الاجتماعات والجلسات الدورية للمنفذيات والمديريات، إنها تشبه "جلسات الدراويش"، ولم يفقه ما قصده سعاده من أهمية الجلسات والاجتماعات للوحدات الحزبية، وبالتالي في حياة الجماعة البشرية.
كان سعاده قد أوصى بكثرة الاجتماعات واللقاءات لتقريب النفوس والرباط الروحي فيما بين القوميين، ولتقوية "المصالح" على اختلافها فيما بينهم، ذلك أن كثرة الاجتماعات دليل حي على "العروة الوثقى" الجامعة بين القوميين. وقد سُئل سعاده من قبل أحد الأمناء المقربين عن أهمية الاجتماعات، فأجابه "الاجتماع للاجتماع"، أي ليرى الرفقاء بعضهم بعضاً ويخططون خططاً بناءة للمستقبل القومي.
لذلك، لم تنمُّ فكرة المؤسسات وأهميتها ودورها في حياة الحزب وبالتالي حياة الأمة بعد استشهاد سعاده فبقي الحزب بدون مؤسسات حتى اليوم. وبقي شعبنا بالنظر للمثالب العديدة التي كان يرسف فيها منقسماً على ذاته اجتماعياً ونفسياً وبالتالي ممزقاً وموزعاً إلى إقطاعات طائفية ومذهبية وأتنية. وتابعت هذا العمل القوى الإقطاعية بتحالفها مع رجال الدين قابضة على خناقه. ولم تعمل قيادات الحزب طوال تاريخه لإقامة المؤسسات الجديدة والجديرة بإنقاذه من كل ما يتخبط به من مفاسد اجتماعية وسياسية واقتصادية.
ثقافة المؤسسات:
كل ذلك، أبقى القوميين الاجتماعيين رغم إيمانهم العجيب بفكر سعاده الإنقاذي، بدون وحدة روحية واجتماعية واقتصادية تؤهلهم للقيام بالأعاجيب كما "طمح" سعاده العظيم الذي شرع للمؤسسات الدستورية المبنية على الدستور الأساسي موضحاً أن نهضة الأمم والمجتمعات لا تقوم إلا بالمؤسسات. وإن عملية بناء المؤسسات وتعليم الناس أن يعملوا في حقولها وأنظمتها وقوانينها، عملية شاقة تستلزم جهداً وصبراً ووقتاً طويلاً لا سيما بالنسبة لشعبنا الذي لا يملك ثقافة المؤسسات ولا يملك المؤهلات المطلوبة لفهم معنى المؤسسات، كما يفتقد لتوضيحات حول مفهوم المؤسسات القومية القائمة على الحرية والواجب والنظام والقوة المستندة إلى قيم الحق والخير والجمال.
يشرح سعاده عملية إنشائه أول مجلس عمد، وكيف أنشأ بعدها بعض اللجان للقيام بمهام محددة، فانفرط عقدها منذ الجلسة الأولى لعدم فهم "المعاونين" الأول أهمية العمل النظامي القومي.
ويسرد حكاية تشكيل أول مجلس عمد، وكيف كان يساعد العمد لوضع البرامج وفقاً لخطة الزعيم. فوضع هو بيان أول عميد إذاعة (عبد الله قبرصي). وعندما كان يشكل وفداً لإجراء لقاء سياسي مع سياسيين، كان الوفد يغرق في الجدل العقائدي. وعندما عين مجلس إدارة لجريدة "سورية الجديدة" الصادرة في أيلول 1939 في البرازيل، لم يلتئم المجلس في جلسات رسمية لدراسة وضع الجريدة ومكاتبها والمحررين فيها والعمل على إنتشارها... بل كان أعضاء هذا المجلس يلتقون إفرادياً ويتحادثون في أمور الجريدة دون أن يلتقي أعضاءه في جلسة واحدة!! وهذا ما رفضه سعاده وأرسل عدة رسائل إلى الأعضاء يلفت نظرهم إلى دور المؤسسة في حياة الجماعة. وكيف أخفقت هيئة اللجنة المركزية المفوضة التي أنشأها سعاده لتنظيم العمل في سانبولو خاصة والبرازيل عامة، في مهامها نتيجة عدم ثقافتها المؤسساتية فهو يطلب إليها في رسالته بتاريخ 2/9/1939 بأن تضع منهاجاً لعملها الإداري والإذاعي. ويعيد تكرار كلامه إليها بعد عشرة أشهر بتاريخ 23/6/1940 فيوضح أنه على اللجنة أن "تضع برنامجاً عملياً للأعمال الإدارية والإذاعية، وتصنفه في فصول، وتعيّن فيه نتائج يجب الوصول إليها، وهذه النتائج يجب أن تكون ذات صفة محسوسة...". كما نلاحظ في رسائله تكراراً لذات المواضيع إلى المسؤولين لعدم قيامهم بما يترتب عليهم من مهام في المناطق الحزبية، فنشهد في بعض هذه الرسائل شروحات مفصلة في مهام كل من المنفذ العام، وهيئة المنفذية، وهيئة المديرية ومجالس المنفذيات ولجان المديريات والمجلس الإداري و... دون أن تقوم هذه الهيئات بالمهام المنوطة بها، أو ترتكب العديد من الأخطاء في أعمالها.
لقد أُرهق سعاده بالشروحات المطولة، لأن ما طرحه في نظامه كان شأناً جديداً، بعيد المدى، عالي القيمة، كان شأناً لم يسبق لهم أن عرفوه أو سمعوا به ربما. وذلك بسبب قلة الثقافة المؤسساتية، ولأن بلادنا لم تكن تعرف أي نوع من المؤسسات الجديدة الصالحة للحياة الجديدة. لذلك، واجه سعاده صعوبات جمة لإفهام الرفقاء معنى المؤسسة وكيفية العمل ضمنها، والنجاح بالتالي بإحراز إنجازات تؤهل شعبنا لبلوغ أسمى المراتب .
أراد سعاده، من كل ذلك، زرع فكرة المؤسسة في حياة القوميين الاجتماعيين أولاً، ليعمدوا هم إلى تدريس الناس كيفية إنشاء المؤسسات، وقيامها بواجباتها في مختلف الظروف، وتوحيد الناس في عمل اجتماعي نظامي، وبالتالي عمل قومي عام. وهذا ما لم يُِعمل به في تاريخ حزبنا. فلم تنشأ في جنباته ثقافة المؤسسة، وعلة وجودها، وأنشطتها... لذلك قلنا أن لا وجود للمؤسسات منذ استشهاد سعاده وحتى اليوم. إذ لا يكفي إنشاء أية إدارة، لنقول هذه مؤسسة. فالمؤسسة هي بأسباب نشوئها ومجمل أنشطتها وصياغة قانونها الخاص، ومركزها بين بقية المؤسسات أو الإدارات وضرورتها وفق التطور القومي والاجتماعي، ولها تشريعها الخاص الذي يعبر عن كينونتها القانونية وموقعها وطرق تعاونها مع المؤسسات الأخرى في الدولة أو المجتمع وعلاقتها بعضها ببعض ، ولها معناها ومضمونها، ونظامها وسجلاتها وبالتالي شخصيتها.
جمعية عادية:
لذلك، لا ينطبق على الحزب اليوم القول أنه منظمة، بل إنه مجرد جمعية عادية من جمعيات هذه البلاد المنكوبة بقلة الثقافة القومية المحيية، والمنكودة الحظ بوجود شخصيات فئوية ذات عقليات عفنة أو متحجرة، تعمل لأمجادها الشخصية، دون أي افتراق عن بقية الجماعات ذات المنحى الإقطاعي أو الطائفي أو الأتني، وتغرر الشعب الفقير الثقافة بألوان ثيابها المزركشة لكل موقع، أو موقف، فكأنها استمرار للعهد اللاقومي السابق لانبثاق نهضة العز القومي عام 1932.
شرَّع سعاده – في دستوره – مؤسسات العهد الجديد، مؤسسات الدولة القومية المركزية، لعدم وجودة أية مؤسسة "يصح الاعتماد عليها" من العهد السابق، عهد الإقطاع الديني والسياسي، عهد التجزئة القومية، وهو يطلب من القوميين الانتقال إلى العهد الجديد. لذلك هو يطلب منهم تسجيل الزواج في "سجلات الدولة السورية" العتيدة. فهو لم يكن يلق الكلام على عواهنه عندما تحدث عن أهمية إنشاء المؤسسات في حياة الأمم لا سيما في حالة أمة مثل أمتنا التي افتقدت معنى المؤسسات القومية لفترة زمنية طويلة. المؤسسات التي يعتبرها التعبير الحي عن شخصية الأمة ومركزها وقوتها ودورها الحيوي في العالم المتمدن ، وهو لطالما تحدث في مقالاته ورسـائله عن " الحياة الجديدة " التي يؤمنها نظامنا القومي الاجتماعي : " النظام شيء عميق جداً في الحياة " .
وسنتناول فيما يلي أهمية ودور المؤسسات الاجتماعية في حياة سوريانا والتي صاغها سعاده تتويجاً لمنهجه القومي الاجتماعي: نظام الفكر والنهج ثم نظام الأشكال...
لقد كانت المؤسسات الاجتماعية في دستور سعاده لإعادة بناء المجتمع السوري وتوحيد جماعاته، ولضبط إيقاع علاقات الناس بعضهم ببعض وتنظيم حياة الناس .
باختصار أراد سعاده إعادة هندسة أوضاع مجتمعه والتأسيس لعلاقات جديدة قائمة على مفاهيم جديدة وعادات وتقاليد جديدة لبناء حياة جديدة كل الجدة لشعبه.
وبالنظر لأهمية مؤسسة العائلة، أو البيت، أدخل سعاده في القسم الذي يؤديه العضو المزمع دخوله في الحزب، أن يعمل على تربية عائلته على المبادئ المحيية الجامعة، المبادئ القومية الاجتماعية وهي خير "إرث" من الأباء إلى الأبناء لبناء المؤسسة الصغرى: العائلة، فقد ورد في القسم العبارة التالية: "... وان اتخذ مبادئه القومية الاجتماعية إيماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي...".
بناء مؤسسة العائلة الصغرى كمثال حي لبناء مؤسسة المجتمع الكبرى: الأمة. وهذا ما كان سبق الإشارة إليه في محاضرته في مؤتمر المدرسين المنشورة في النظام الجديد (عدد 4، تموز – آب 1948). حيث يتعرض لمؤسسة العائلة وتفككها وبالتالي عدم وجودها الفعلي. وهذا ما يرتب بالضرورة العمل على إعادة اللحمة بين أعضاء هذه المؤسسة الصغيرة تمهيداً لإحياء بقية المؤسسات الجامعة، وبناء المتحدات الاجتماعية في البلدات والقرى والمدن.
هذا المثال – القسم يعني أن تشريع سعاده للمؤسسات الاجتماعية في دستوره، يؤكد على عدم صلاحية كل ما هو قائم منها في مجتمعه. ولطالما طالعنا عند سابقيه من جبران وسواه من رجال الثقافة والفكر، العديد من المقالات التي تفصح عن تحالف رجال الإقطاع مع رجال الدين لإبقاء الشعب أسير حالة الانقسام والتشرذم والتبعية والإتكالية والارتهان للأجنبي: في حالة "القطعان البشرية" التي جاء سعاده لينقذ شعبه منها وليعيده إلى مكانته التاريخية السابقة من القوة والفعل والتقرير في زمن "تكالب" الأمم على المصالح والمنافع.
حصن المجتمع:
إن الاختبارات العملية التي مر بها سعاده في حياته الوجيزة قبل انخراطه في العمل السياسي في المهجر وبعده قد أيقظت فيه الملامح الكاملة لصورة المؤسسات الصالحة، المؤسسات التي تحصّن أوضاع المجتمع، فتكون بمثابة القلاع الحصينة التي تدفع عنه الأخطار الداخلية والخارجية. سيما وأن بلادنا تقع على مفترق طرق استراتيجية كانت دائماً على مر التاريخ تحت مجهر الطامعين بخيراتها ومواردها الطبيعية وثراءها النفسي والثقافي وغناها بالصناعات التي تدرّ الأرباح الوفيرة .
والمؤسسات، هي مجموعة الكيانات المنظمة على الصعيدين الإداري والاجتماعي، غايتها الصالح العام، والمرتكزة في بنائها على الدستور الأساسي (المواد الأربعة عشر الأولى فقط). وقد استخرجه سعاده من التراث القانوني والتشريعي الحضاري لبلادنا، مضيفاً إليه أفقه الاستشرافي، ثم شرّع للمراسيم الدستورية (السبعة) من أجل بناء جماعة موحدة الحياة والمصير، جماعة تحب وطنها وتعمل بصدق وإخلاص لما فيه خيره العام.
لذلك، نرى سعاده بعدما كان قد اتفق مع بعض الأفراد على تأسيس الحزب ووجد أن إثنين منهم لم يتخلصا من رواسب الفساد، أسرع وحلّ هذه المجموعة، ثم أعاد الاتصال بالبقية لما وجده عندها من إخلاص وإيمان للعمل لإنقاذ الشعب من كل المفاسد الاجتماعية والسياسية.
ولما كان العمل الذي نذر سعاده نفسه له عملاً عظيماً يحتاج من المنضوين تحت لوائه الإيمان العظيم والاخلاص الكلي وأن يختار لقيادته من يمتلك منهم معارف وخبرات ومؤهلات، واختصاص علمي ليتمكن من القيام بواجبه القومي على أكمل وجه، لا سيما في ظل ظروف سورية المعروفة، وليتمكن بالتالي من قيادة الشعب القليل الثقافة على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
وفي هذا المجال، لا بد من الإشارة، بالعودة إلى تاريخ سوريا التليد، فإننا لا نقع مطلقاً على وقوع شعبنا في حالة الانعزال والتقوقع لأن سورية أمة ثقافية بامتياز، وعدد كبير من المؤرخين أنصف سورية لا سيما كرامر في مؤلفه "التاريخ يبدأ بسومر". وأنها كانت باستمرار على تواصل واتصال دائمين مع بقية الشعوب، معروفة بانفتاحها وبتعليمها للشعوب والأمم القريبة منها والبعيدة على الحرف والعمران والبناء الثقافي بعكس ما تحاول جاهدة الدولة اليهودية والاستعمار الأميركاني إيقاع شعبنا به لاسيما في العراق وفلسطين ولبنان . لكنه حتى اليوم ما زال عصياً على هذا الاتجاه البعيد عن نفسيته ومساره التاريخي العريق.
وسنتناول في حلقتنا القادمة : " مؤسسة المنفذيات " .
|