"إن العقل السوري العملي لم يكن يميل إلى تخيلات فاسدة من الوجهة العملية. ولذلك فهو قد اكتفى من التجربة الإغريقية للحكم الشعبي، بواسطة الشعب أجمع، بالمشاهدة. إنه لخيال بديع، في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيي أن يكون كل فرد من أفراد المدينة المعترف بهم "شريكاً" فعلياً في إدارة الدولة. إن المدينة السورية ظلت محافظة على الفرق بين السياسة والاجتماع واضحاً. وهذا الفرق هو ما مكَّن الدولة من اطراد تقدمها... مع بقاء الدولة شيئاً متميزاً عن الشعب، مؤسسة لا يمكن أن تعرض لعبث الجمهور". نشوء الأمم – (الفصل السادس)
"السياسة عندنا فن يخدم غاية... نحن في السياسة آخذون بما تقضي به قواعد النهوض بالأمم". (سعادة في أول آذار 1938)
"إن السياسة الواحدة الوحيدة التي أعرفها هي سياسة الحق والصراحة لهذا الشعب. هي سياسة تعليمه وإفهامه حقيقة وضعه، حقيقة داخليته، وحقيقة القوى الكامنة في نفسه ليرتقي إلى المجد الذي يستحق الوصول إليه".(خطاب الزعيم في بيت مري 19/10/1947)
"فغاية الحزب بعيدة المدى عالية الأهمية لأنها لا تقتصر على معالجة شكل من الأشكال السياسية، بل تتناول القومية من أساسها واتجاه الحياة القومية.
يعني هذا أننا لسنا مجرد حزب سياسي. والحزب السياسي هو الذي يجمع فئة من الناس على مصالح تتحد بنطاق تلك الفئة لتناوئ فئة أخرى ضمن البلاد وتتغلب عليها وتصل إلى الحكم من أجل تحقيق تلك المصالح المختصة بتلك الفئة.
نحن حزب يتناول ما هو أبعد كثيراً من مصالح فئة جزئية محدودة في الوطن والأمة. نحن حزب يتناول حياة الأمة كلها بمجموعها، يتناول الحياة القومية من أساسها والمقاصد العظمى للحياة القومية كلها وليس لجزء منها.
... قصدنا ليس التخلص من الحكومة أو رجال الحكم بل الاتجاه نحو إقامة نظام جديد للحياة القومية بأسرها".(محاضرة الزعيم في الندوة الثقافية 4/4/1948)
"السياسة فن بلوغ الأغراض القومية وتحقيق الغايات القومية التي يجب على كل فرد أن يرتبط فيها لأنها رابطة المجتمع". (محاضرة الزعيم في الندوة الثقافية 14/3/1948)
"السياسة علم حكم الدول". (معجم ليتره 1870)
"السياسة فن حكم المجتمعات الإنسانية".(معجم روبير 1962)
"السياسة علم الدولة" (دو فرجيه 1964)
غياب المؤسسات
افتقدت بلادنا لفترة طويلة وجود مؤسسات سياسية ترعى أحوال المجتمع السوري ومؤسساته الاجتماعية. وذلك نتيجة الاحتلال العثماني (402 سنة) ثم الانتدابين الفرنسي والإنكليزي (أكثر من ربع قرن). فكان المجتمع السوري في أجواء احتضار بسبب غياب هكذا مؤسسات. مؤسسات تمثل شخصية المجتمع. باختصار، افتقدت سورية لوجود دولة ترعى أحوالها، أي إلى مؤسسات قومية سياسية عُرفت بها في غابر الأزمان.
ونبتت محلها، نتيجة ذلك، مؤسسات عتيقة، بالية، منحطة تعتمد على رجالات يمتهنون سياسة الارتهان للأجنبي الراغب في نهب موارد الأمة وثرواتها والتحكم بحياة أبنائها. إضافة إلى استغلال موقعها الاستراتيجي لمصالحه الحيوية. فأضحى مصيرها معلقاً على مصالح الدول المتنازعة على المصالح والمنافع. وكُتب جبران خليل جبران وأمثاله زاخرة بالعديد من الأمثلة عن العوامل الداخلية التي أبقت الأمة في وضع متأخر وأبرزها تحالف رجال الإقطاع مع رجال الدين لإبقاء الشعب السوري في حالة غيبوبة عن مصالحه الحيوية، وفريسة سهلة المنال للطامعين بخيرات أرضنا واستغلال شعبنا لمصالحهم.
وكما لم يجد سعادة أية مؤسسة اجتماعية - مقالة سابقة - يصح الاعتماد عليها لنهضة شعبه، كذلك لم يجد أية مؤسسة سياسية يمكن الاعتماد عليها لقيام الدولة السورية المستقلة. وفي هذا المجال يقول: "إن دساتير البلاد السورية كلها ليست ذات أساس حقوقي دستوري صحيح فكيف بالمجالس المتألفة لتطبيقها؟".(تعديل الدستور في الشام 24 نوفمبر 1947)
وبخلاف كل الدول، لاسيما الأوروبية منها، التي قامت نهضتها على أساس مؤسسات اجتماعية واقتصادية وسياسية، لم يجد سعاده في بداية ثلاثينات القرن الماضي، أية مؤسسة صالحة لقيام النهضة القومية. كما لم يجد ساسة سوريين يهتمون بمصالح وطنهم.
كانت بلادنا تعاني من مفاعيل اتفاقية سايكس – بيكو اجتماعية وجغرافية وسياسية، في ظل غياب تام لمؤسسات اقتصادية وتربوية قومية، إضافة إلى الاحتلالات الاستيطانية التي أرخت بثقلها على بعض أجزاء الوطن: فلسطين، الأحواز، كيليكيا، الاسكندرون، سيناء، وقبرص.
المؤسسات الجديدة
احتاج سعاده، لإشادة بنيان جديد كل الجدة لإعادة إحياء سورية القومية. صرف النظر عن كل ما هو موجود. وباشر عمله القومي الكبير. بدأ العمل لحفر الأساس، وهو يقول: مهما استغرقت مدة الحفر للوصول إلى الصخور الصلبة، فعملنا ليس ذاهباً عبثاً. وهكذا كان...
من هنا كان اهتمام سعاده بالشأن السياسي، والسياسة – كما هو معلوم – تُعنى بالوجود القومي، والمصير القومي واتجاه الحياة القومية وسط تنازع الأمم على المصالح والمنافع. كما تُعنى برخاء المجتمع وبإكسابه كل عناصر القوة والمناعة.
كان سعاده، خلال إقامته في المغترب البرازيلي، قد نهل معارفه الأولى من المكتبات الكبرى فيها. فاطلع على العديد من أنظمة الدول. وكان شاهداً بأم العين على مسرح أحداث الدول الأوروبية المتحاربة في الحرب العالمية الأولى، متابعاً لمواقعها القتالية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة على متابعته لأحوال بلاده وما عانته إبان الحرب.
وكان سعاده يدرس تاريخ بلاده الثقافي – السياسي – القومي. واستمد من تاريخها السياسي وثائق الحقوق الأولى التي كانت سورية صانعة فجرها من أورنمو – إلى حمورابي... وهكذا اطلع على مجمل أنظمة الحكم في البلاد التي شهدت البدايات الأولى للقوانين وأنظمة الحكم، فاستمد من تاريخ أمته السياسي روح المبادئ الدستورية التي ضمّنها دستور حزبه والتي كفلت توحيد عمله في الاتجاه القومي.
أنشأ سعاده دستور الحزب – الدولة، كأعظم أعماله بعد وضعه العقيدة القومية الاجتماعية. هذا الدستور أعاد سورية إلى الوجود الحي الفاعل والمغيّر لكل أوضاعنا – السالفة الذكر – الفاسدة التي غيّبت بلادنا عن الفضائل والقيم والشرائع التي عُرفت بها. مطلقاً عليه "النظام الجديد" الذي وضعه في صلب غاية الحزب (المادة الأولى من الدستور)، وقد صاغ فيه صورة جديدة لشعبه الناهض بهدي العقيدة القومية الاجتماعية، الموحدة إياه في جملة مؤسسات جديدة سياسية واجتماعية لإطلاق قواه الحيَّة وبعث الأمة من جديد.
وضع سعادة إذن دستوراً للدولة السورية القومية الاجتماعية. والدولة، كما هو معلوم، هي السلطة المُنظمة للجماعة القومية.
الديمقراطية الجديدة
سبق أن وُضعت في الفكر الدستوري عند سعاده، عدة أطروحات، نذكر منها أطروحة الدكتورة فوزية فريحات في الثمانينات من القرن العشرين، والتي وجه الدكتور المشرف في السوربون عند مناقشة الأطروحة، شكراً للطالبة لأنها عرفته بمفكر "مجهول" و"مغبون" في العالم، قائلاً لها: "هذا ما نحتاجه نحن اليوم في أوروبا". هذا بالإضافة إلى ما كتبه المفكر القومي هنري حاماتي، وتعتبر كتاباته في هذا المجال مرجعاً أساسياً لفهم دستور سعاده وفكره الاجتماعي – السياسي.
ويتمثل هذا الفكر بنظام الحزب ومؤسساته (السياسية والاجتماعية)، الذي اعتبره سعاده "أعظم" أعماله بعد وضعه المبادئ (العقيدة). وهو يحتاج إلى دراسات معمَّقة للكشف عن كل مكنوناته. وهو أكثر تطوراً من الديمقراطيات التمثيلية الأوروبية التي تولي أهمية للعدد لا للنوع.
لذلك يمكننا القول، إن رسالة سورية الجديدة قد أتت على يد سعاده، في ما أسماه هو "الديمقراطية الجديدة" لإنقاذ سورية من براثن الديمقراطية التمثيلية الفاسدة التي سبق أن خَبِرَتها الشعوب المتمدنة في أوروبا، وتقديمها كنموذج جديد للعالم لحل مشاكل الإنسانية جمعاء.
لقد كان هذا "النظام الجديد" الذي صاغه سعاده لمجمل الحياة السورية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما لكل المؤسسات السياسية التي يجب أن تسود في بلاده، للحفاظ على السيادة القومية بعد تحرير كل الأراضي المغتصبة، الضرورية لحياة سورية ورخاء وهناء عيش أهلها وتقدمها.
والواقع أن سعاده قد حرص على استيلاد هذه المؤسسات السياسية الجديدة من تاريخ بلاده وتراثها الغني و"احترام" مسارها التاريخي، بعكس كل العاملين بسياسات سورية التي كانت السبب في كوارث متلاحقة...
هذا يعني أن المؤسسات السياسية الجديدة التي وضعها سعاده هي وحدها الكفيلة بترقية الشعب السوري، والصالحة في آن لحمل أعباء النهوض القومي، وحفظ حقوق الشعب على كامل أرضه القومية، والسهر على الدفاع عن مصالحه.
لقد صاغ سعاده – إذن – مؤسسات الدولة القومية العتيدة، وضمّنها في دستوره ليعيد إحياء سورية على خريطة العالم المتمدن. فنصّت غاية الحزب على إقامة "النظام الجديد" الذي ستمشي سورية القومية الاجتماعية عليه. وفي صُلبه نظام الدولة السورية القومية الاجتماعية، وهيكليتها كمظهر سياسي بامتياز، وكمظهر قانوني للمجتمع تعبّر عن شخصيته ووحدته أرضاً وشعباً، وتعبّر تعبيراً جلياً عن الآفاق التي يجب أن تصل إليه من مجد وعزة وكرامة.
هذه النظرة الجديدة للدولة، كان سعاده قد أفرد لها فصلاً خاصاً في كتابه العلمي "نشوء الأمم"، يمكن الرجوع إليه كمستند أساسي لنظامها القانوني الوارد في دستوره.
لذلك صوّب سعاده اهتمامه على الفئة المتنورة، أي أصحاب المؤهلات والقدرات الفكرية والعلمية من الشعب، في خطبه ومقالاته قبل التأسيس وخلال فترة العمل السري، لتقوم هذه الفئة بواجبها القومي، عبر التحقيق العملي للمرامي العليا للشعب السوري. كما عمل سعاده على تصويب نظر شعبه باتجاه المصالح العامة التي تساهم في ترقيته ورفاهيته، وترعى أحواله وتسهر على تنظيم أمور حياته من خلال مؤسسات تعبّر عن حقيقته وتعمل على إطراد تقدمه وسط سخونة الأوضاع الداخلية التي يعانيها شعبه، وهول المؤامرات الخارجية على وجوده وحياته ومصيره.
إن هذا "النظام الجديد" هو رسالة سوريّة خالصة، ونتاج سوري بامتياز، وضعه سعاده بعدما عبّ من تاريخ سورية الثقافي والسياسي القومي، خلافاً لما زعمه القاضي الفرنسي(1936) زمان الانتداب الفرنسي أن هذا "النظام الجديد" قد استلهمه سعاده من بلاد أوروبية متقدمة!.
الابتكار السوري
من مطالعتنا لمجمل نتاج سعاده في هذا الخصوص، نرى أنه أعاب على أوروبا أنظمتها الديمقراطية التمثيلية، كما أعاب على الأنظمة الشيوعية والنازية والفاشية ما يشوبها من مآخذ ومفاسد أيضاً. وهو يشير إلى أن بعض الأحزاب في سورية وعالم العروبة قد عملت إلى تقليد الحزب ببعض الشكليات والمظاهر الخارجية. كما عمدت الأحزاب والدول الأوروبية إلى متابعة أخبار هذا "النظام الجديد" بعد اكتشاف أمر الحزب، واهتموا بدراسة أنظمته ووصلوا إلى نتائج تؤكد على حداثته وتقدمه، مما حدا بهم لربطه بأنظمة أوروبية حديثة نظراً لما يتضمنه من نظرة جديدة إلى الاجتماع والسياسة.
وقد كلف الانتداب الفرنسي خيرة رجال القانون والسياسة لديه دراسة هذا "النظام الجديد". وقد أشار إلى ذلك رئيس المحكمة الفرنسية عام 1936، التي حاكمت سعاده، بعد انكشاف أمر الحزب. فقد جاء في مقالته: المحاكمة السياسية التاريخية الأولى "المنشورة في الزوبعة" بتاريخ 15/3/1944: "وخصّ الرئيس (رئيس المحكمة) نظام الحزب وتشكيلاته بدراسة مستفيضة. فقال إن ترتيب التدرج من المديريات إلى المنفذيات إلى العمد إلى الزعيم هو ترتيب هرمي الشكل، وإنه مبني على رأي المفكر السياسي الفرنسي "سياس"، وبهذا التحليل أراد الرئيس أن يزيل عن الحزب كل فكرة ابتكار أصلي، وأن يرد أصول تفكيره إلى مصدر فرنسي. أما تشكيلاته وطريقة التنفيذ الحزبية فقال إنها من أدق وأكمل ما عرف حتى اليوم. ورجّح الرئيس أنها منقولة أو مستمدة من أنظمة نشأت حديثاً في أوروبة".
أمة ثقافية
ويشير سعاده باعتزاز كلي إلى تقدم حزبه على الأحزاب الأوروبية النشأة، فيقول في مقالته: "العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمكراتيين عن عقيدة" المنشورة في الزوبعة بتاريخ 15/6/1942: "إن أمماً كثيرة، قومية، كانت أمامنا أشواطاً ومراحل في التفكير الاجتماعي الاقتصادي، وكان ذلك في عهد مضى، أما الآن فإن نهضتنا القومية الاجتماعية قد جعلتنا في مقدمة الأمم الثقافية المتمدنة من هذا القبيل. فنحن لا نفتقر إلى قواعد اجتماعية – اقتصادية من الخارج، بل نحن نقدر أن نساعد غيرنا ونعطي من تفكيرنا. ولم تبق "الأمم الراقية" أمامنا إلاّ في المسائل الآلية من صناعية وغيرها... فإن ما يبحث عنه سياسيو بريطانية والولايات المتحدة، اليوم، (زمن الحرب العالمية الثانية) من أجل الوصول إلى حالة ترضى بها بعض أحزابها، قد وضع الحزب السوري القومي الاجتماعي قواعده منذ بدء نشأته، والحزب السوري القومي الاجتماعي هو الوحيد، من بين جميع الأحزاب السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية، التي نشأت في العقود الأخيرة في أوروبة وأميركة، الذي أوجد عقيدته الاجتماعية منذ أول تأسيسه، فامتاز بذلك على الحزب الفاشستي الإيطالي... وعلى الحزب الاشتراكي القومي الألماني...
إن الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأ بتفكير الإبداع السوري المستقل، ومؤسِسِه لم يكتفِ بالنظرة الأولية، التي لم يتجاوزها حزب من الأحزاب في سورية والشرق الأدنى، بل وفي أقسام وجماعات كثيرة في أوروبة عينها، القائلة بالحرية والاستقلال، ففضلاً عن تعيين الأمة وتحديد القومية وإيجاد عقيدة وحدة الأمة، قد نظر الزعيم في مستقبل الأمة وما يجب أن تصل إليه من الارتقاء والبحبوحة والعدل الاجتماعي – الاقتصادي...".مما يُكسب حزب سعادة القوة والمنعة والفرادة والمثال الذي يجب أن تقتدي به الأحزاب الأخرى في الدول المتمدنة.
كما يشير خلال محاضرته في الندوة الثقافية بتاريخ 4/4/1948، أنه عند قدومه إلى القاهرة في شباط 1947 سمع من القيمين على الجامعة العربية، محاولة محاكاة نظام الحزب فيقول: "... من حيث التنظيم الفكري والسياسي العملي، في مصر سمعت من أشخاص يعملون في الجامعة العربية أنهم يحتاجون إلى تنظيمنا وإلى خططنا التصميمية. ويريدون منا أن نعمل بدلاً من غاية نهضة سورية لوحدة عربية.
فإذا عملنا واتجهنا هذا الاتجاه، فإنهم يريدون كثيراً أن نشترك وأن يضعوا في أيدينا تنظيم أعمال كثيرة في الجامعة العربية والعالم العربي. أقول هذا بشيء من الاعتداد لأن التعبير كان "تنظيم كل شيء في داخل الجامعة العربية وخارجها".
هذا الكلام لسعاده، يؤكد على أهمية "نظام الفكر والنهج ونظام الأشكال (المؤسسات) التي تحقق الفكر والنهج". وإن فكرنا ونظامنا يحملان حلولاً جذرية لكل مشاكل مجتمعنا السوري والمجتمعات العربية والعالمية. وإنه فكر أصيل نابع من أمة أعطت رسالات خالدة في تاريخها التليد، وبإمكان العالم أن ينهل من هذا الفكر كما في سالف الأزمان.
الفصل بين السلطات
في رسالته إلى "محاميه" حميد فرنجية، يكتب سعاده بتاريخ 10/12/1935 من السجن بعد انكشاف أمر الحزب: "ويمكنني أن أُعين موقفي بالنسبة إلى موقف المتزعمين السياسيين من قومي بأن موقفي أخذ يتجه رويداً حتى ثبت على الأساس القومي، بينما موقفهم كان ولم يزل على الأساس السياسي. والسياسة من أجل السياسة لا يمكن أن تكون عملاً قومياً.
بناءً عليه، ولما كان العمل القومي الشامل المتناول مسألة السيادة القومية ومعنى الأمة لا يمكن أن يكون عملاً خالياً من السياسة، رأيت أن أسير إلى السياسة باختطاط طريق نهضة قومية اجتماعية جديدة... وجعلت نظامه فردياً في الدرجة الأولى مركزياً متسلسلاً منعاً للفوضى في داخله واتقاء نشوء المنافسات والخصومات والتحزبات والمماحكات وغير ذلك من الأمراض السياسية والاجتماعية، وتسهيلاً لتنمية فضائل النظام والواجب".
ويوضح في رسالة أخرى إلى وليم بحليس (28/8/1941) طبيعة النظام الجديد: "... إن امتياز الحكم الفردي في الحزب، هو فقط لصاحب الرسالة ومؤسس القضية وليس نظاماً أساسياً دائماً. والاتجاه الديمقراطي في نظامه صريح ولا يرفضه عقل صحيح. وهذه، في الأخير، مسألة داخلية بحتة".
يلمح سعاده في الفقرة الأخيرة إلى عهد ما بعد الزعامة، حيث تتوزع السلطات: سلطة تنفيذية لرئيس الحزب فقط، سلطة تشريعية للمجلس الأعلى، وسلطة قضائية للمحكمة العليا. مما يعني اعتناق سعاده لمبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها فيما بينها. وهذا أيضاً ما يلمح إليه في أكثر من مقالة ورسالة، هذا المبدأ الذي يضمن تنظيم عمل هذه السلطات بصورة مثمرة وفعالة مما يسهل القيام بوظائفها. ويجد هذا المبدأ أساسه في كتاب الفيلسوف الإنكليزي جان لوك "بحث في الحكومة المدنية" (عام 1690)، وفي كتاب "روح الشرائع" للمفكر الفرنسي مونتسكيو (عام 1748). والفكرة الأساسية من المبدأ، هي أن الإنسان قد يسيء استعمال السلطة التي يتمتع بها وحتى "لا يُساء استعمال السلطة يجب بطبيعة الحال أن تحدّ السلطة السلطة الأخرى". مما يدعو لإقامة توازن بين السلطات دون أن يكون باستطاعة إحداها شلّ أعمال الأخرى عندما تمارس عملاً له علاقة بأعمال الأخرى. فالتعاون بين السلطات الثلاث هو جوهر هذا المبدأ الديمقراطي. وهذا واضح في المادتين 12 - 13 الانتقالية لعهد ما بعد الزعامة في الدستور الأساسي.
هذا بالإضافة إلى ما يورده سعاده عن جوهر نظامنا الديمقراطي لاسيما في كتابه "نشوء الأمم" حيث يقول: "الدولة القومية هي دولة ديمقراطية حتماً".
المثالب السياسية
لقد ابتدع سعاده الديمقراطية الجديدة التي يفتقر إليها العالم وهي من جملة الإبداع السوري، الذي يُقدمه لتخليص العالم من مثالب سياسية عديدة وعلى رأسها الديمقراطية التمثيلية. ومثالها النظام البرلماني "الذي لا سلطة له في التكييف" أي لا يمكنه إحداث تطوير في أحوال الاجتماع البشري.
ويعرض سعاده في أكثر من مقالة للديمقراطية الجديدة شارحاً فيها ما أتى في دستوره، لاسيما في المادة الرابعة منه: "نظام الحزب مركزي تسلسلي حسب الرتب والوظائف.." وفي المرسوم السابع (رتبة الأمانة) المرتكز على الدستور الأساسي. تلك الرتبة العليا "اليتيمة" منذ العام 1937، لأننا لم نعمل لإنشاء رتب أخرى أدنى منها لنبرز عبقرية "تلامذة" المعلم السائرين على نور هدايته وبقدوته!...وقد جات التعديلات الواردة في الدستور الصادر عام 2010 مخالفة " للنظام الجديد" الوارد في نص غاية الحزب.
وسنعرض لاحقاً في مقالات متتابعة، وضع السلطات الثلاث ونشاطاتها ومهامها وكيفية تعاونها فيما بينها لنجاح أعمال مؤسسات الحزب، ونهج العمل لاطراد تقدم الشعب السوري وفقاً لما اجترحه سعاده في دستوره المصنَّف عام 1937، والذي لم يُطبق لتاريخه على الإطلاق. استعملنا الظاهر دون الجوهر، كما لم تطبق أيضاً المراسيم التي رسمها سعاده ولا القانون الذي وضعه بعيد عودته من مغتربه القسري، ولم تُضم بالتالي لدستور سعاده في كتاب واحد لتاريخه!
إن هذا الأمر، يعكس الصورة المشوهة التي كان عليها الحزب خلال فترة غياب سعاده القسرية (1938-1947)، حيث كاد بعيد عودته يعمد إلى حلّ الحزب مجدداً وإعادة تأسيسه من جديد كما أسّر سعاده إلى الأمين مسعد حجل الذي أعلن ذلك في كلمة له في ضهور الشوير في احتفال لمؤسسة سعاده في شهر آب المنصرم من العام 2011. وكما هو واضح من إعادة شرح سعاده للمبادئ الأساسية والإصلاحية في الندوة الثقافية في الأشهر الأولى من العام 1948. والتي أكد من خلالها أن خطته ما زالت هي هي كما كانت منذ التأسيس عام 1932.
كما أعاد أيضاً شرح خطابه المنهاجي الذي أعلنه عام 1935 الذي يحدد فيه منهاج العمل السياسي القومي للحزب، مخالفاً كل ما كانت قد قامت به قيادة الحزب خلال اغترابه القسري وبالتالي رفضه التام لكل الانحرافات السياسية وإحداها لبننة الحزب.
إضافة إلى "اغتراب" قيادات الحزب عن دستور سعاده بعد استشهاده في التخلي عن المركزية، وفي إساءة عملية منح رتبة الأمانة، وفي الجرح الذي لم يندمل بانقسام الحزب منذ العام 1957 حتى اليوم. وهذا ذنب كبير لا يُغتفر، وعدم إنشاء المؤسسات القومية على الصعيدين السياسي والاجتماعي و...إضافة الى افتقار الحزب الى اعضاء مؤهلين ومخلصين ومتنوعي المواهب ويتمتعون بأخلاق النهضة في المراكز القيادية العليا.
إجهاض الثورات
في ظل هذا الوضع الشاذ للحزب السوري القومي الاجتماعي، قامت في بعض الدول العربية والكيانات السورية أحداث سياسية وأمنية، اصطلح على تسميتها "ثورات" لإصلاح الأنظمة القائمة. ويجهد "المثقفون" و"المفكرون" في إسدال هالة الأعمال التغييرية على مجريات هذه الأحداث وفي إلباس حالة "التدخل" الأجنبي عباءة "حقوق الإنسان" لإعادة بناء الدولة على أسس المعاصرة والحداثة!
ويتخذ الساسة نتيجة الأحداث في هذه الدول والكيانات، جرعات انتعاش لاستعادة التموضع الجديد وجني المكتسبات المرغوبة لكل من القوى السابقة والمستمرة والناشئة، في خضم فوضى الحركة الشعبية، وعدم انتظام الصفوف وانعدام الوعي القومي العام لديها وهو الشرط الجوهري الضروري لأي حراك تغييري مطلوب. وهذا ما سبق وأشار إليه المفكر القانوني الدكتور طارق البشري رئيس لجنة تعديل الدستور المصري بعد "ثورة 25 يناير 2011". الذي أكد أن التغيير في الدول لا يتم بين ليلة وضحاها، وأن تعديل الدستور المصري جرى تحت سيف التسرع لإجراء انتخابات قريبة لم تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الداخلية برمتها، ولا الظروف الدولية المحيطة التي اقتضت تنحية الرئيس المصري حسني مبارك. كل ذلك لم يُلحظ لإجراء تغيير أساسي في بنية المجتمع، وبالتالي في بُنى الحكم والسلطة. مما استدعى عودة الحركة الشعبية إلى "الميدان" في القاهرة مطالبة بالتغيير ... وسيستمر المخاض...
وما جرى في هذا الخصوص، أن القائمين بهذه "الثورات" يعملون على "تجميل" زي السلطة ببعض الإصلاحات السطحية، دون دعوة لوحدة المجتمع، ولا لكيفية العمل المخلص لهذه الوحدة، ولا لإسقاط كل العوائق الاجتماعية والسياسية السالفة. كل ما حدث، هو مجرد عملية تطعيم "الجديد" بالقديم مما يُبهر نظر سطحيي التفكير.
باختصار أن الدول التي قامت فيها هذه "الثورات" خالية من وجود مؤسسات سياسية صالحة لنهضة الشعب وتأمين حقوقه في موارده وثرواته الوطنية. فما جرى ويجري، عبّر عنه صاحب "السفير" الصحافي طلال سلمان في افتتاحية العدد 5/9/2011 وعنوانها: "الخيار المأساوي بين حكم الطغيان أو التحرر بالاستعمار" وجاء في مقدمتها: "ليس أقسى من مأساة الخيار: بين التسليم باستمرار حكم الطغيان "الوطني" الذي يهدر كرامة الشعب وحقوقه في بلاده، وبين السكوت عن عودة الاحتلال الأجنبي، فكيف بدعوته إلى العودة في ثياب "المحرر"؟!" كما هو حاصل في ليبيا مثلاً.
إن ما يجري اليوم، بناء على ما أوردناه لسعاده، هو عبارة عن محاولة "ترميم" للأنظمة وفقاً للمشيئة الدافعة للأحداث سواء كانت مشيئة داخلية أم خارجية، أو إجراء عملية تقسيم لبعض المناطق لنهب الثروات والموارد الوطنية كما جرى في السودان، مما سهّل دخول الدولة العبرية على الخط، أو إجراء عملية اقتسام لهذه الثروات والموارد، وهذا ما يطمح حلف الناتو لتحقيقه في ليبيا.
أما الأنظمة "الثورية" و"التقدمية" فلم يحظّ شعبها خلال السنوات الطوال لحكمها بأبسط قواعد المواطنية، ولا بالعمل القومي الوحدوي وفقاً لشعارات الحزب الحاكم. بل بقي كل شيء على حاله كما في سالف الزمان أيام الحكم العثماني البغيض والانتداب الفرنسي – الإنكليزي الماكر. فقد كان شعبنا ولا يزال يعاني من ظاهرة التمزق الاجتماعي إلى أثنيات وطوائف ومذاهب... هذا هو شأن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حكم في أكبر كيانين في سورية الطبيعية: الشام والعراق، ودخل لبنان وأقام فيه لمدة تجاوزت الثلاثين عاماً دون أن يغيّر في حالة الشعب شيئاً مذكوراً. وما زالت حال شعبنا في هذه الكيانات ترسف تحت سيف المعاناة من الانقسام والشقاق. مما يعني أن هذا الفكر قاصر عن إيجاد الحلول الموضوعية لواقع شعبنا في الهلال السوري الخصيب.
ولم يسلم الحزب الذي تنكب مسؤولية النهضة، النخبوية، العقائدية هو نفسه من افتقاد بوصلة العمل القومي السليم، فزاغ هو الآخر عن غايته المرجوة. وسجن نفسه في قمقم الجهل والفئوية والفساد "المؤسساتي" مقصّراً عن تدبير شؤون البلاد والعباد، ومتجاهلاً الهم القومي العام، حتى لكأنه التحق في ركب الأحزاب الطائفية والمذهبية في لبنان، وقد أهمل بالكلية هموم كافة أرجاء الوطن. وهذا ما يلمح إليه أيضاً الصحافي طلال سلمان في مقالته الآنفة الذكر: "... فضلاً عن اندثار الزعامات التاريخية والقيادات الخالدة والأحزاب ذات العقائد التي تنتمي لزمن آخر ولا تعني شيئاً للأجيال الجديدة خصوصاً وأن تجاربها قد خذلت أهلهم وخيّبت آمال من "ناضل في صفوفها" دهراً قبل أن ينتبه إلى أنها قد تهاوت فلم يتبق منها إلاّ الشعار المجفف والمجوّف..."
النهضة التغييرية
لقد أماطت أحداث العقود الماضية اللثام عن جمود حركة هذا الحزب، وتبعيته، فأضحى على هامش التاريخ منذ استشهاد صاحب الدعوة، وتحوّل إلى فائض عن الحاجة وخارج الدور الفاعل في مجريات الأحداث العاصفة بالبلاد، بعدما كانت "الجامعة العربية" نفسها تعلن حاجتها إلى تنظيمه وتصميمه للنهوض بكافة شؤونها. وقد قصّر عن تقديم أي عون في كل ميادين الحياة القومية إلى هذه "الثورات". كما قصّر في دراسة أوضاع كيانات الوطن التي تشهد شرذمة اجتماعية. وأخفق كل الإخفاق في طرح الحلول الملائمة لمشاكلها الداخلية. مما يدفعنا لطرح السؤال: هل وقعت هذه الحركة القومية الاجتماعية في محنة مصيرية أفقدتها زمام المبادرة وبالتالي صوابها، فتحولت إلى جمعية "لاهوتية" غريبة عن مجتمعها؟ فلبنان يفتقد اليوم كما بالأمس "للأخاء القومي" ولا مشروع حيوياً لإنقاذه من أوضاعه الطائفية والمذهبية الممزقة لوحدة كيانه. وماذا نقول في شام الأمة ونحن نقف مكتوفي الأيدي عاجزين عن تلبية النداء لإعادة ترتيب مصدر "القرار القومي"؟ وماذا نعمل في بلاد الرافدين الرازحة بالفئويات تحت وطأة الاحتلال؟، وما دورنا في جنوبنا السوري المغتصب من أعتى أعدائنا؟ وما دورنا في المناطق المغتصبة الأخرى؟؟
النهج القومي
إنه لمن المؤسف أن يقف القوميون الاجتماعيون عاجزين دون الدور الريادي الذين وجدوا لأجله وأقسموا على أدائه، حتى لكأنهم أسقطوا أنفسهم بداء الانفصام، وما عادوا يمثلون أعظم عقيدة وأفضل نظام وأغنى تجربة نضال عزّ مثالها في العالم أجمع.
هكذا أصبحوا في غربة عن النهج العريق المشرِّف، المنوط بهم أصلاً صونه وتعزيزه، كونه النهج الذي لا بد من أن تسلكه أمم العالم المتمدن.
ومن المؤسف أيضاً، ألاّ يلقى دستوره اهتماماً من قبل البحاثة والدارسين السوريين القوميين الاجتماعيين، كما من قبل الأجيال السورية الطالعة، ليقفوا على حقيقة هذا "النظام الجديد" وأهميته في حل مشاكل سورية والإنسانية جمعاء.
وكان سعاده قد أعاب على القوميين في محاضرته الأولى في الندوة الثقافية بتاريخ 15/1/1948، عدم اهتمامهم بدرس تاريخ الحزب، وبالتالي تاريخه هو شخصياً للاقتداء به. عدنا اليوم – أدراجنا إلى الماضي الكسيح – فترة غيابه القسري أعوام 1938-1947، وما أشبه حاضرنا بذلك الأمس! وصرنا نتساءل كل يوم: أمام أية محنة نحن؟ وما أسبابها الجوهرية؟ لماذا تنزلق كيانات بلادنا الواحد منها بعد الآخر؟ فما نكاد نخلص من دب حتى نقع في جب!
لقد كانت كل قيادات الحزب منذ استشهاد سعاده وحتى اليوم، غائبة عن صياغة مشروع سياسي بحجم الوطن السوري، يأخذ بالحسبان موقعه الجغرافي وتجزئته الاجتماعية والقومية، ونهب ثرواته وموارده الدفينة ومناطقه المحتلة الواسعة والغنية منه: فلسطين، الأحواز، كيليكيا والاسكندرون، الجولان، قبرص...
غابت عقلية العمل المؤسساتي، فوفقاً لدستور سعاده، يضع رئيس السلطة التنفيذية مشروعه لفترة رئاسته، ويقرّ هذا المشروع الأمناء الذين يختارونه رئيساً للحزب بعد مناقشته في مضمونه. وبما أن هذا الشرط قد أُسقط من حساب الرئيس و"المرؤوس" على حدٍ سواء، فهذا يعني أننا لم نراعِِ أسس دستور دولتنا، فكيف نكون أعضاء عاملين صادقين في هذه الدولة؟ وهناك أيضاً السلطة التشريعية الممثلة بالمجلس الأعلى، والسلطة القضائية الممثلة بالمحكمة العليا، اللذين يعملون متعاونين (السلطات الثلاث) لنجاح المشروع – الخطة، وبالتالي لإنقاذ البلاد من أوضاعها المزرية التي كُرست عقيدة سعاده و"نظامه الجديد" لخلاصها منها.
فأين المشاريع – الخطط؟ التي كان من المفترض أن تنقل الشعب السوري من حالة إلى حالة أفضل التي وضعها رؤساء الحزب منذ أول رئيس بعد استشهاد سعاده وحتى يومنا هذا؟
أين "البيئة المؤسساتية" التي اعتمدها كل الرؤساء وكافة المسؤولين على امتداد تاريخ الحزب؟
أين الرتب التي ابتُدعت للمؤسسات السياسية؟ وأين المركزية التامة (المادة الخامسة من الدستور الأساسي) والتي كانت قد انتهكت خلال فترة غياب سعاده القسري. ثم انتهكت بعد استشهاده؟ من تعيين مكاتب سياسية في الكيانات!! وتعيين نيابة للرئاسة في كل كيان! وإنشاء عمدات لكيانات: فلسطين؟ و...
الحزب - الدولة
أسس سعاده الحزب – الدولة، ووضع اللبنات الأولى للدولة السورية العتيدة في دستوره، الذي نلحظ فيه النظام السياسي الجديد المرتكز على فكر سياسي اجتماعي لتنظيم شؤون المجتمع السوري. والحقيقة أن دستور سعاده هو وليد فكره "الجديد" الاجتماعي السياسي، وبمقدار ما يكون هذا الفكر متطوراً يكون على نفس الدرجة من التطور الفكر الدستوري المنبثق عنه. والحقيقة المُرّة، أننا نحن تلامذته لم نتابع مسيرته بترسيخ أسس المؤسسات التي شرّع ليلج الشعب السوري أبواب الدولة السورية القومية الاجتماعية.
فالدولة التي يبتغيها سعاده هي غير كل ما هو موجود في سورية وعالم العروبة والدول "المتمدنة". ولم ينجح "حزبه" في أن يُقدم إلى العالم نموذجاً لعبقريته الفذّة في هذا المجال. وقد خذلته كل القيادات بعد استشهاده: غيّبت "النظام الجديد" لتعود أدراجها إلى الحزب الكسيح زمن اغترابه القسري. لقد كان أمام هذه القيادات "صورة نعمة ثابت" فنسخوها طبق الأصل. وتحول الحزب إلى أشلاء مبعثرة حتى تطاول عليه "البيك" الاشتراكي بأنه مجرد "بقايا"، مع العلم أن العائلات القومية الاجتماعية هي أكبر حزب في الوطن السوري.
لا مندوحة لنا، من العودة إلى نظام الفكر والنهج الذي يقتضي مؤسسات جديدة تكفل لنا وحدة العمل ووحدة الاتجاه، لإنقاذ أمتنا من كل البلايا التي تتخبط بها، لتعود وتقوم بدورها في عالم العروبة. وبالتالي نُبعد عن بلادنا نسائم "الربيع العربي" ليحل ربيع "الأول من آذار" على حزب سعاده ووطنه الذي افتداه بدمه. مقتدين بقوله في خطابه المنهاجي في حزيران 1935:
"الحقيقة، أيها الرفقاء، إننا قد ترابطنا في هذا الحزب لأجل عمل خطير جداً هو إنشاء دولتنا وليكون كل واحد منا عضو دولته المستقلة، والعمل ولا شك شاق فهل نعجز عنه؟".
في حلقتنا التالية نتناول: مؤسسة رئاسة الحزب.
|