من المنتظر أن يشكل بحر قزوين قضية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فالأمريكان يفكرون في مستقبل هذا البحر. ومن الواضح أن اجتماع قادة بحر قزوين قد أثار مخاوف الغرب وجعله يستعيد المزيد من الذكريات وبالأخص الدول الحليفة والشريكة في المجموعة السياسية الأوروبية. فقد ذكرت وكالة أنباء نوفوستي الروسية أن بحر قزوين بؤرة مواجهة في اللعبة السياسية الجديدة بين روسيا وأمريكا وكذلك الدول المطلة على البحر. وتتجادل هذه الدول على مسألة السيطرة على موارد الطاقة الضخمة الموجودة في قاع هذا البحر. ويأتي هذا الإعلان بعد إجماع قادة دول بحر قزوين، وهي /روسيا، وإيران، وقزقستان، وتركمانستان، وأذربيجان/ في طهران الشهر الماضي، على عدم سماح بلدانهم باستخدام أراضيها لشن أي هجوم على أي من الدول الأعضاء. كما يأتي هذا الإعلان وسط تصاعد لهجة التهديد الأمريكي باستهداف إيران بعمل عسكري لمنعها من امتلاك التقنية النووية، كما انه يشكل انتصاراً للرؤية الجيواستراتيجية الروسية لمنطقة آسيا الوسطى والقوقاز. فهذه المنطقة مهمة جداً لمستقبل العالم بسبب ما تحويه من احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، وكانت الولايات المتحدة تسعى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991 إلى وضع يدها عليها للتحكم بمواردها النفطية والغازية ولاتخاذها قاعدة انطلاق لمحاصرة روسيا وتفتيتها. وقد نجحت في نسج علاقات قوية مع بعض دول المنطقة، وخاصة أذربيجان، التي ارتمت بالحضن الأمريكي منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي بعد انهياره. فقد خشيت حكومة هذه الدولة ذات الغالبية الشيعية من المد الثوري الإيراني في أراضيها وتخوفت من حدوث ثورة إسلامية في أذربيجان تكون مقدمة لضمها إلى إيران. ولذلك تشددت هذه الحكومة في التعامل مع إيران، واستطاع حيدر علييف أن ينزع قناعه الشيوعي بسرعة وأن يتخلى عن أفكار الصراع الطبقي والصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، وقرر التحالف مع عدو الأمس (الولايات المتحدة)، ففتح أبواب أذربيجان أمام القواعد العسكرية الجوية الأمريكية، وأقام علاقات قوية مع إسرائيل. وتجذّر الخلاف بين أذربيجان وإيران بعد وقوف هذه الأخيرة إلى جانب أرمينيا في حربها ضد أذربيجان حول إقليم ناغورني كارا باغ التي اندلعت عام 1992. وكانت روسيا في تلك الأثناء تعاني من نتائج انهيار الاتحاد السوفيتي عليها، إذ دخلت في أزمة اقتصادية حادة نتيجة انتقالها من الاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الرأسمالي، وكانت تعمل على تأهيل نفسها للتكيف مع الواقع الجديد، ولم تكن تهتم بما يحدث في محيطها سواء في أوروبا الشرقية أو في القوقاز وآسيا الوسطى. وفجأة استيقظت روسيا من سباتها لترى أن معظم دول أوروبا الشرقية قد انضمت إلى حلف شمال الأطلسي، وأن بعض دول القوقاز وآسيا الوسطى قد أصبحت تحت النفوذ الأمريكي، وأدركت أن موقفها الانهزامي في وجه الولايات المتحدة سيجّر عليها الويلات وقد ينتهي بها إلى الزوال كدولة اتحادية كبيرة. ورأت أنه لا بد من اتباع سياسة هجومية تقوم بالدرجة الأولى على إعادة نفوذها على محيطها بكل ما فيه من دول وتداخلات دولية، فعادت إلى التقرب من هذا المحيط بوسائل شتى أهمها إظهار نفسها كقوة عظمى شاءت الولايات المتحد أو أبت. وفي هذا المضمار، وجدت فرصتها لإثبات وجودها ومكانتها على خريطة العالم. فوقفت تدعم إيران بالسلاح، كما ناصرتها في المحافل الدولية، ولا سيما في مجلس الأمن، حتى عجزت الولايات المتحدة ودول الغرب الأخرى عن فرض عقوبات عليها رغم إلحاحهم الكبير على ذلك، وذهبت أحلامهم في تقويض النظام الإيراني أدراج الرياح، وأثبتت روسيا أنها قوة عظمى لا يمكن القفز فوقها أو تجاهل وجودها، وهي لم تكتف بذلك بل سعت إلى تقويض الهيمنة الأمريكية العالمية، وتجلى ذلك في المواقف التي اتخذتها مع الصين لمنع أمريكا من التفرد بحكم العالم. وكان إعلان قمة دول منظمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت في العاصمة القيرغيزية بشكك في يوليو الماضي تعبيراً عن هذا التوجه. فقد حذّر هذا الإعلان من أي محاولة لفرض نظام عالمي أحادي القطب. وتضم منظمة شنغهاي للتعاون، بالإضافة إلى روسيا والصين، كل من قزخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان. وهذا يعني أن دول آسيا الوسطى الأربع قد عادت إلى الحضن الروسي من جديد، وأنها تتبنى سياسة متوافقة مع السياسة الروسية. ولا شك أن قمة دول بحر قزوين المنعقدة أخيراً في طهران، تشكل دفعة قوية لخطط روسيا لصياغة مستقبل جديد لمنطقة آسيا الوسطى والقوقاز بما يتناسب مع أهدافها في منع النفوذ الأجنبي فيها، وفي جعلها حزاماً أمنياً واقتصادياً لها وحدها فقط.
|