على الرغم من أن الدولة العثمانية كانت سداً منيعاً أمام الطوفان الغربي الذي راح يهدد الشرق منذ القرن الثامن عشر ، إلاّ أنها لعبت دوراً سلبياً تجاه أطماع اليهود في فلسطين ، لأن هذه الدولة الإمبراطورية لم يكن يهمها سوى جمع الضرائب من الرعايا من أجل صرف تلك الأموال المجموعة على ساكني الجنان السلطاني في استانبول . فمع نهاية القرن الثامن عشر ، بدأت الدول الغربية ولاسيما ، فرنسا وبريطانيا وأيضاً روسيا ، ترسل بعثات تبشيرية إلى الشرق من أجل نشر المسيحية بين السكان العرب المسلمين ، وبالتالي التهيئة لاستعمار هذه الدول للشرق . وقد وجدت تلك البعثات مجالات واسعة للعمل في جميع أرجاء سوريا وخاصة في لبنان وفلسطين . فقد أقامت هذه البعثات المدارس لتدريس النشء العربي المسيحي والمسلم مبادئ العلم الغربي الحديث ، كما أنشأت المستشفيات لتطبيب الناس بشكل مجاني . وقد كان اليهود في أوروبا وروسيا يسمعون عن نجاح البعثات التبشيرية في عملها في الشرق . فبدأ هؤلاء يفكرون في الهجرة إلى فلسطين لاستعمارها وإحياء الحلم اليهودي القديم بدولة لهم فيها . وفي عام 1858 أصدرت الدولة العثمانية ما يسمى "قانون الأراضي العثماني" الذي احتوى على مواد عديدة لتنظيم ملكية الأراضي والحقوق والواجبات المترتبة على ذلك . وقد فرضت إحدى مواد القانون على مالك الأرض تسجيل أرضه باسمه في دائرة تسجيل الأراضي "الطابو" لكي يضمن حقوقه في الملكية . ونصّت مادة أخرى منه على أن ملكية كل قطعة أرض من نوع الأراضي الأميرية "وهي الأراضي التي تكون ملكيتها للدولة ، ولكن يكون للمواطنين حق التصرف فيها" تنتقل إلى الدولة إذا امتنع صاحبها عن فلاحتها لمدة ثلاث سنوات متوالية . ولما كانت الدولة العثمانية تصرّ على جباية الضرائب المترتبة على المحاصيل الزراعية وفقاً لتقديرات مخالفة للواقع ومبالغ فيها ، وحيث أنه لم يكن لدى الفلاحين القدرة على تسديدها ، فإن هذا دفع الكثيرين منهم إلى التنازل عن فلاحة مساحات واسعة من أراضيهم . فقامت الدولة بالاستيلاء عليها وبيعها بالمزاد العلني وبأسعار بخسة ، عادة ، للأفندية والأثرياء من سكان المدن . وقد استطاعت عائلة سرسق المسيحية البيروتية أن تشتري بهذه الطريقة سبعة وتسعين قرية فلسطينية ، أي ما يشكّل ثلاثة في المئة من مساحة فلسطين . وبدأت تتاجر بها وتستثمرها ، وسمعت جمعية الاستعمار اليهودي وعلى رأسها البارون أدموند روتشلد بأمر هذه العائلة ، فتقربت منها ، وراحت تفاوضها على بيع أملاكها في فلسطين لها . وكان أفراد تلك العائلة يذهبون إلى باريس للعب القمار ، وقد خسروا كل أموالهم هناك ، فاضطروا إلى بيع أملاكهم في فلسطين إلى اليهود بقيمة سبعة ملايين فرنك . فقامت جمعية الاستيطان اليهودي بتشجيع هجرة اليهود من أوروبا وروسيا إلى الأراضي التي اشترتها في فلسطين للعمل على بناء الوطن اليهودي فيها . ومن ثم قامت هذه الجمعية بتقسيم فلسطين إلى أربع مناطق : حيفا ـ زمارين أو زيكرون جاقوب ، ويافا ـ الجودة ، والجليل الأسفل ـ طبريا ، والجليل الأعلى ـ صفد . وقسّمت كيفية الاستعمار وما يتعلق بذلك من الأشغال المالية والزراعية إلى ثلاث شعب ، فالشعبة الأولى مركزها حيفا ، والشعبة الثانية مركزها يافا ، والشعبة الثالثة قرية الجاعونة في قضاء صفد . وجاء يهود من بولونيا وبنوا عام 1879 مستعمرة "بتاح تكفا" أو الأمل اليهودي . وجاء مستعمرون من روسيا عام 1883 وأسسوا مستعمرة "ريشون لوزيون" أو الأولى في صهيون . وجاء مهاجرون من رومانيا وأسسوا مستعمرة "زمارين ـ زيكرون جاقوب" قرب حيفا ، ومن ثم قامت جمعية الاستيطان اليهودي ببناء مستعمرة المطلة عام 1886 . وتم تأسيس مستعمرة "روشبينا" على مقربة من قرية الجاعونة في قضاء صفد . ومن ثم أسست مستعمرتا "مجدل" و "دعانة" في منطقة طبريا . ومن ثم مستعمرات "الخضيرة" و "عتليت" و "أم العلق" و "بريكه" و "المراح" و "كركوربيدوس" وكلها في أقضية حيفا . كما بدأ اليهود يتغلغلون في صفد ، وطبريا ، والقدس وفي أماكن أخرى من فلسطين . وبشكل عام ، شكّل وجود الدولة العثمانية غطاء أساسياً لنمو سرطان الاستيطان الصهيوني في فلسطين حتى لما انهارت هذه الدولة وجاء المستعمر الإنجليزي والفرنسي إلى سوريا ، قام الإنجليز بفتح أبواب فلسطين على مصراعيها أمام تدفّق المهاجرين اليهود ، مما أدى في النهاية إلى حدوث أكبر نكبة في تاريخ الإنسانية كله ، وهي نكبة الشعب الفلسطيني الذي هُجِّرَ من أرضه لحظة قيام إسرائيل عام 1948 تحت ذريعة أن أرض فلسطين هي أرض لليهود .
|