انتهت أعمال مؤتمر جدة للدول المنتجة والمستهلكة للنفط بتاريخ 22/6/2008 بإصدار بيان ختامي شدد على ضرورة تحسين الشفافية والتشريعات عبر العديد من الإجراءات التي تهدف إلى إتاحة المعلومات والبيانات الخاصة بأنشطة مؤشرات الصناديق المالية ، واعتبر أن أسعار النفط الحالية وتقلباتها تضرّ بالاقتصاد العالمي . ولعل أهم ما يلفت في البيان هو التركيز على الشفافية ما يعني أن المجتمعين ألقوا باللوم في ارتفاع أسعار النفط على المضاربات التي تقوم بها الشركات النفطية ، وتعزيز الشفافية من قبل جميع البلدان المصدّرة والمستهلكة للنفط سوف يحدّ من عمليات المضاربة ، وبالتالي ستعود أسعار النفط إلى الانخفاض . لكن وعلى الرغم من أن السوق النفطية العالمية تحكمها قوانين السوق كالعرض والطلب وتتحكّم فيها المضاربات التي تلجأ إليها الشركات ، وخاصة الوسيطة بهدف رفع الأسعار . فإن تحميل المضاربات وحدها وزر ارتفاع أسعار النفط هو أمر غير مقبول ، لأن المضاربات تحدث بالدرجة الأولى عندما تكون السوق تعاني من شحّ في مادة معينة حيث يستغل التجّار هذا الأمر ليرفعوا الأسعار . بيد أن السوق النفطية الدولية لا تعاني من نقص النفط المعروض ، بل هناك إنتاج نفطي يغطي الطلب العالمي ويزيد عليه . وحتى إذا قامت الشركات التي تنتج النفط أو التي تسوّقه برفع الأسعار ، فإنها لن تتمكن من الدفع بها إلى هذا المستوى الخطير الذي وصلت إليه الآن وهو (140) دولار للبرميل الواحد ، بعد أن كان في العام الماضي أقل من 100 دولار . وهنا يمكن التساؤل عن الأسباب الخفية الكامنة وراء ارتفاع الأسعار ؟. الواقع أن بعض المحللين يرون أن الولايات المتحدة هي التي ترفع أسعار النفط من خلال "البورصة" العالمية التي تتحكّم فيها . وبالتالي فهي التي تفرض على العالم أسعاراً عالية للنفط والهدف ـ كما يقول هؤلاء ـ خنق الصين ومنعها من التحوّل إلى قوة اقتصادية عظمى لأن الصين هي المنافس المرشح للوقوف أمام الولايات المتحدة في العالم ، ورفع أسعار النفط سيكون له نتائج مدمرة على الإنتاج الصناعي الصين . فعند ذلك لن تستطيع الصين تسويق إنتاجها بسعر زهيد مقارنة بالإنتاج الأمريكي ، كما لن تتمكن من اللحاق بالولايات المتحدة . ويستدلّ هؤلاء المحللون ليؤكدوا صحة كلامهم في أن الولايات المتحدة هي التي صنعت الطفرة النفطية عام 1973 ، وكان بإمكانها ـ كما يقولون ـ أن تضغط على دول الخليج المنتجة للنفط لدفعها إلى إعادة ضخّ النفط . ولكنها لم تفعل وتركت الأسعار ترتفع حتى تضرب ، آنذاك ، الاقتصاديات التي كانت ناشئة في أوروبا الغربية واليابان . وعلى الرغم من وجاهة هذا التحليل ، إلاّ أن المنطق يقول ، إن الخاسر الأكبر من جراء ارتفاع أسعار النفط هي الولايات المتحدة لأنها تستهلك وحدها كل يوم 25 مليون برميل نفطي ، وهي تنتج جزءاً بسيطاً منها والباقي تستورده من مختلف مناطق العالم . ولا شك أن ارتفاع الأسعار يؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد الأمريكي ويدفع به إلى مزيد من الركود . وهذا ما لا يريده صنّاع القرار في الولايات المتحدة . ولعل السبب الأساسي لارتفاع أسعار النفط، من وجهة نظرنا ، هو انهيار الدولار وتراجعه أمام العملات الرئيسية الأخرى في العالم . ولما كان الدولار هو أساس الاقتصاد العالمي ، فإن تخلخله يؤثر على جميع مفاصل هذا الاقتصاد ، وخاصة النفط الذي يعدّ أهم سلعة عالمية ، وهو يُباع بالدولار لا بعملة أخرى . ولما كان مستهلكو الطاقة من دول مختلفة تعتمد في اقتصادها المحلي عملات محلية ، فإن هذه العملات ، ولاسيما الرئيسية منها ، قد ارتفعت أمام الدولار ما لزم ارتفاع سعر النفط المرتبط بالدولار . فاليورو الأوروبي مثلاً أصبح يساوي دولاراً وستين سنتاً ، وبالتالي ، فإن سعر النفط في أوروبا يختلف عنه في السوق العالمية التي تحت رحمة الدولار . فإذا كان سعر البرميل لامس الآن مستوى (140) دولاراً ، فإن هذا السعر إذا ما قيس إلى العملة الأوروبية ، فإنه لن يلامس حدود (80) يورو ، ولعل هذا هو سعر النفط الحقيقي . والواقع أنه لا سبيل إلى العودة إلى النفط الرخيص إلاّ إذا اقتنعت الولايات المتحدة بأن عملتها لم تعد عملة عالمية . لكن الولايات المتحدة لا يمكن أن تفعل ذلك ، خوفاً من خسارة مكتسباتها العالمية التي جنتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية . وهكذا ، فإن تمسّك الولايات المتحدة بعملتها لن يؤدي فقط إلى استمرار ارتفاع أسعار النفط ، بل إنه سيؤدي إلى حدوث فوضى عالمية واسعة النطاق .
|