أن العوامل المؤثرة في تاريخ الأمم الكبيرة ليست العوامل السياسة الآنية أو الوقتية الشكل ، بل هي أوسع مدى في زمانها ومكانها الذي يتعدى الحدود القومية . والولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها دولة عظمى ومصالحها على مستوى الكرة الأرضية ، وسلطتها تقوم على القوة العسكرية ، فإنها تضع المفاهيم الحقيقية لسياستها نتيجة التطورات التي تحدث في العالم وما يرافقها من معادلات وتوازنات مختلفة جديدة تؤدي إلى الانتقال من الحركة إلى الثبات في هذا الجزء أو ذاك من أجزاء العالم . وتمر تلك الصياغة بمراحل أو حقب ثلاث هي الحقبة التشاؤمية ، والحسية ، والموضوعية لتفسح طريقها نحو نظام وإدارة ذات اعتماد ومفاهيم مختلفة تتناسب والمرحلة الجديدة لتكون قادرة على التحوّل وتقليل التبدلات ومواصلة دورها في التأثير على تنوّع الأزمات واختلاف الظروف وتشابك الملابسات والوقائع والقرائن التي اختزنتها بطون الحقبة السابقة وغياهب الحاضر وغوامض المستقبل . ولم يكن من المصادفة أن يلتئم مؤتمر آنا بوليس الذي انعقد وانتهى وعاد المؤتمرون كل إلى بلاده ، لكن القضايا التي طرحت في هذا المؤتمر ما تزال ألغازاً تتكهّن بها عقول المحللين . فهل كان الهدف هو إطلاق المفوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية من جهة ، وبين إسرائيل وسوريا ولبنان من جهة أخرى ، أم كان الهدف هو عقد لقاء بين العرب وإسرائيل على طاولة واحدة وبما يخدم الولايات المتحدة ويخدم مشروعها في المنطقة العربية والإسلامية ؟. لا شك أن المفاوضات لم تكن هي القضية الأولى والأخيرة للمؤتمر الذي بقيت أجواء البحث عن حلّ للصراع فيه بعيدة جداً عن تلك التي سادت في قمة مدريد . كما أنه استبدل مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي قامت عليه مفاوضات مدريد بمبدأ "السلام مقابل اعتراف العرب بيهودية دولة إسرائيل" الذي ينقل الصراع من أرضيته القانونية الطبيعية إلى أرضية دينية محفوفة بالتأويلات المغرضة وبالمخاطر المتعددة الأوجه بالنسبة للقضية الفلسطينية ولبعض دول المنطقة . ثم أن هذه المفاوضات لم تكن بحاجة إلى مثل هذا المؤتمر الدولي الواسع ، فهي كانت قد بدأت منذ مؤتمر مدريد الذي انعقد عام 1991 . وقد وصلت المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين بعد اتفاق أوسلو عام 1993 إلى مراحل متقدمة . ولكنها توقفت بعد تعنّت إسرائيل في رفض تقسيم القدس ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم . كما أن المفاوضات بين إسرائيل وسوريا كادت أن تؤدي إلى عقد اتفاقية سلام بينهما لولا رفض إسرائيل الرجوع إلى خط الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967 ، أي أن تسمح لسوريا بأن تشاطىء بحيرة طبريا . وقد توقفت المفاوضات بين إسرائيل والجانبين السوري والفلسطيني عام 2000 ، ولو كانت إسرائيل تريد إتمام المفاوضات والوصول إلى تسوية ، لكانت تمكّنت من ذلك من خلال إعلان نيتها الصادقة للأطراف العربية المعنية عبر أصدقائها في المنطقة مثل مصر والأردن وتركيا ، ولكان حدث سلام وانتهت الأزمة القائمة. وبالتالي ، فإن مؤتمر آنابوليس لم تكن غايته إطلاق المفاوضات ، بل لقد انطوى على خفايا أخرى غير معلومة . ولعل الإدارة الأمريكية أرادته لغاية في نفسها ، فهذه الإدارة تعيش الآن أسوأ أيام وبحاجة إلى عمل شيء ما للتكفير عن بعض خطاياها وإزالة بعض الاحتقان قبل الانتخابات الرئاسية القادمة أو الإقدام على مغامرة جديدة . فقد فشل غزوها للعراق ، وتحوّل هذا الغزو إلى كارثة على الولايات المتحدة كلها ، كما أنها عجزت عن كبح جموح إيران ولم تفلح في توقيع عقوبات دولية صارمة عليها بسبب معارضة روسيا والصين . وهذا الفشل لن يُحسب على هذه الإدارة فقط ، بل إنه ينسحب على المشروع الاستعماري الأمريكي في المنطقة العربية والإسلامية . ولذلك كان يتوجب على الإدارة الأمريكية أن توقف خطة الهجوم ، ولو لفترة بسيطة ، فجاء مؤتمر آنابوليس كمتنفس للمشروع الأمريكي لكي لا يغرق بالكامل في وحول المنطقة . وكان من آثار هذا المؤتمر تنازل حلفاء الولايات المتحدة في لبنان الواضح لصالح تسوية سياسية مقبولة من قبل المعارضة الحليفة لسوريا وإيران . وكان الفريق الموالي للولايات المتحدة يرفض حتى عشية انعقاد المؤتمر أية تسوية مع المعارضة للخروج من نفق الأزمة التي تعصف بلبنان . كما أن العزلة العربية ضد سوريا بدأت في الحلحلة . وكان مثل هذا اللقاء غير وارد قبل المؤتمر، وخاصة بين الملك السعودي والرئيس السوري . وأيضاً ، فإن حضور الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قمة دول مجلس التعاون التي انعقدت في العاصمة القطرية الدوحة ، كان حضوراً ملفتاً للنظر ، فلأول مرة يحضر رئيس إيراني قمة دول المجلس . ولعل هذا الحضور كان مؤشراً على رغبة الولايات المتحدة في تخفيف التوتر مع إيران في منطقة الخليج الحساسة والمهمة لكي لا تتأثر أسعار النفط فتستمر في الصعود . لكن لا شك ، أنه من الخطأ أن يُقال ، إن الولايات المتحدة تنازلت في القضايا الإستراتيجية موضع الخلاف بين هذه الدول ، لأن الصراع بين الدول لا ينتهي بين عشية وضحاها . فقد تحدث تسويات مؤقتة ، لكن السلام الحقيقي لا يحدث ، فإيران موضوعة على محور الشرّ الأمريكي ، وهناك ثمن كبير يتعيّن على إيران أن تدفعه للخروج من هذا المحور . وهذا الثمن هو إلغاء النظام الإسلامي فيها ، واتباع نهج الديمقراطية والليبرالية الغربية . وهذا الشيء لن تقبل به إيران ، لأن ذلك يعني إشاعة الفوضى فيها . وأيضاً ، فإن سوريا هي الأخرى موضوعة على لائحة الإرهاب الأمريكية ، ولكي تخرج منها ، يجب أن تدفع ثمناً كبيراً ، وهذا الثمن يتمثل في قبول النظام فيها بإلغاء حزب البعث الحاكم وإفساح المجال للتعددية السياسية والحزبية . وكذلك رفع اليد عن حزب الله وحركات المقاومة الفلسطينية، والقبول بالسلام كما تريده إسرائيل ، ولا يمكن أن تقبل سوريا بهذه الشروط . ومن هنا ، فإن الخلاف بين الولايات المتحدة وكل من سوريا وإيران سوف يستمر ، وإذا كانت لمؤتمر آنابوليس من فائدة ، فهي أنه كان محطة استراحة للصراع لا أكثر ، وأحد الركائز الأساسية السياسية للانتخابات الأمريكية المقبلة .
|