لقد بدأت الإيدولوجيات ومجمل الفكر الفلسفي الذي ظهر في القرن التاسع عشر تتهاوى في مختلف الميادين الفكرية والسياسية والاقتصادية ، وهذا يعكس تحول في القوى الدافعة للفهم المادي للتاريخ نتيجة التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات البشرية ، وعجز هذه النظريات عن إيجاد حلول لمعضلات العالم والإنسان . ويترجم هذا التحوّل حكم المحكمة الروسية العليا يوم 1/10/2008 بردّ الاعتبار إلى آخر قياصرة روسيا نقولا الثاني وعائلته واعتبارهم ضحايا حملة القمع السياسي البلشفية. ويُعد هذا الحكم تطوراً كبيراً في أوضاع روسيا الداخلية لأنه يقطع الصلة بشكل كامل مع الماضي الشيوعي ، ويؤسس لمستقبل جديد تكون الأمة الروسية فيه هي الغاية . لكن الحكم ، في نفس الوقت ، لا يلغي الحقبة الشيوعية من تاريخ روسيا ، لأنها كانت تشكّل رمزاً لقوتها وارتفاعها في العالم . ذلك أن روسيا وإن كانت آنذاك ضمن الدولة السوفيتية ، لكنها كانت نواة هذه الدولة والقوة المحرّكة فيها ، بل هي التي صنعت الإمبراطورية الشيوعية التي كانت تمتدّ من بحر اليابان في الشرق حتى مشارف أوروبا الغربية في الغرب . وقد جمعت هذه الإمبراطورية عشرات الشعوب تحت لوائها ، لكن روسيا بعد أن فشلت في مشروعها الشيوعي في إقامة حكومة البروليتاريا العالمية ، عادت لتعيش منسجمة مع حركة التاريخ بدلاً من إلغائه . بيد أن فشل المشروع الشيوعي لا يعني مطلقاً انهزام روسيا وانحطاطها ، لأن الذي هزم هو ذلك الفكر الماركسي الفوقي الذي أراد أن يلغي الطبقات الاجتماعية وأن يجعل البشر أجمعين من طبقة واحدة ، وهي طبقة العمّال والفلاحين . وقد كانت روسيا هي حقل التجربة لذاك الفكر على الرغم من أن كارل ماركس ألماني من أصل يهودي ، وكان يعيش في دول غرب أوروبا ، ولاسيما في بريطانيا التي قضى فيها نحبه . وكان يبثّ دعايته الشيوعية في تلك الدول ، لكنه لم يستطع تثوير الشعوب الأوروبية لمصلحته ، فمات وترك لفلاديمير إيلتش لينين هذه المهمة . وكان هذا الأخير روسياً مفعماً بالحقد منذ طفولته ضد النظام القيصري الروسي . وقد اعتنق الفكر الماركسي عندما كان طالباً في كلية الحقوق في جامعة مدينة بتروغراد عام 1887 . وقد تعرّض للاضطهاد كغيره من المتطرفين الشيوعيين وحكم عليه بالنفي إلى سيبيريا لمدة ثلاث سنوات . وعندما انتهت مدة سجنه عام 1900 ، فضّل الرحيل إلى سويسرا حيث أسس هناك صحيفة سماها "الشرارة" لينشر فيها آراءه ويقوم بتهريبها إلى روسيا . وهكذا لمع اسمه وأصبح مشهوراً كمعارض للحكم القيصري لا في روسيا فقط ، بل في أوروبا والعالم أيضاً . وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، انضمت روسيا إلى الحلفاء "بريطانيا وفرنسا" ضد دول الوسط "ألمانيا والنمسا" بالإضافة إلى تركيا . وقد كان من مصلحة ألمانيا إخراج روسيا من تلك الحرب لتتفرّغ لقتال فرنسا وبريطانيا ، ولتؤمن خاصرتها الشرقية . وقد اتصلت حكومة القيصر الألماني بلينين ووعدته بالمساعدة لتغيير النظام في روسيا . وكان قد حدث نقص كبير في المواد الغذائية في روسيا خلال الحرب ، فحدثت ثورة جماهيرية عارمة عام 1917 ضعضعت أسس الحكم القيصري الروسي . واستغل لينين الفرصة وعاد إلى روسيا وقد ساعدته ألمانيا على اختراق حدودها وأمدّته بالأموال الطائلة ليكسب الأنصار . ولم يطل الوقت حتى كان لينين قد غيّر مسار الثورة لمصلحته ، فقلب نظام الحكم وأسس جمهورية البلشفيك الشيوعيين في 6/11/1917 . وعلى الفور أعلن انسحاب روسيا من الحرب وعقد هدنة مع ألمانيا وفتح باب مفاوضات الصلح في شهر ديسمبر عام 1917 . وقد أزعجت هذه التطورات في روسيا ، بريطانيا وفرنسا كثيراً ، فقد غاظهما ذلك التسليم للألمان في أحرج الأوقات ، وعزمتا على تقوية ساعد الأحزاب البورجوازية التي تؤيد مواصلة الحرب والعودة إلى الجبهة الشرقية . وقامتا بإرسال الرجال والمال والذخيرة إلى روسيا لاستعمالها ضد الروس "الحمر" . فبدأت الحرب الأهلية في روسيا بين مؤيدي القيصرية "البيض" ومؤيدي الشيوعية "الحمر" . ولما اشتد النضال بين الجانبين وجد البلشفيك أن وجود القيصر نقولا الثاني وأسرته في معتقلهم بالقرب من بتروغراد قد يشجع العناصر المعادية للثورة ويفتح لهم باب الأمل للرجوع إلى الحكم القيصري فأُعدم القيصر مع أسرته عام 1918 . لكن كان هذا التصرف مناسباً آنذاك للبلشفيك لقطع الصلة مع العهد القيصري السابق ، وبناء دكتاتورية البروليتاريا المناقضة للبورجوازية والرأسمالية . ويعتبر ماركس أن البروليتاريا هي الطبقة التي تتحمّل أعباء المجتمع بدون أن تتمتع بأية ميزة من ميزات هذا المجتمع فتجد نفسها مضطرة إلى حلّ التناقضات وتوحيد جميع القوميات ، ومن هنا دورها الثوري ورسالتها الأممية . أما الآن وقد انتهت أحلام البروليتاريين العالميين ، فإن إعادة الاعتبار إلى القيصر المقتول ليست أكثر من طي لصفحة من تاريخ روسيا . فهذا الإجراء لن يعيد الحكم القيصري إلى روسيا ، لكنه بكل تأكيد يدل على أن روسيا قد تصالحت مع نفسها إلى الأبد .
|