البراعة السياسيّة صفةٌ عامّة يجدر إطلاقها على وقفة الرئيس الأسد أوّل من أمس على منبر جامعة دمشق، مشرّحاً جذور الأزمة ومعرّياً أصل المؤامرة المعدّة وأهدافها وطارحاً الحلول المهيّأة بتفاصيلها ومواقيتها ومؤكداً على ثبات الموقف وعلى النهوض الكامل بالمسؤولية ومتوعّداً المتآمرين والمتواطئين بعدم المهادنة أو التهاون في ما يخصّ أمن الوطن والشعب والمؤسسات.
لم يدع الرئيس السوري، الخطيب القدير والمنهجيّ، المفعم بالثقة والإيمان، جانباً لم يطرقه في خطابه، ولا سؤالاً معلّقاً بلا إجابة، ولا غموضاً أو لبساً في الرؤيا والموقف والقرار. تناول كل جوانب الأزمة، من الأصول والمنابع إلى الراهن والمتوقّع، بجدلية فكريّة فذّة تفترض سائر الأسئلة الممكنة وتجيب عنها دونما حاجة إلى طرحها، في كل الاتجاهات وإلى سائر الفئات والأطراف المعنية، داخل الوطن وخارجه في المحيطين العربيّ والعالمي. لا ديماغوجية، لا إنشائية، لا دوران حول القضايا ولا تدوير زوايا، بل مضيّ نحو الجوهر والعمق بأسلوب جليّ، مباشر، صادق، يسمّي الأمور بأسمائها ولا يخشى ولا يساير ولا يمالق.
في المقابل، لفتني الهزال الفاقع في ردود المتضرّرين من وقفة الرئيس الأسد التاريخية هذه، إذ لم يستطع هؤلاء القفز فوق الحقائق الثابتة والمثبتة التي أطلقها، ولا مقارعة الحجّة الدامغة بحجّة تضاهيها، ولا تفنيد نقاط الردّ بالدقّة ذاتها والتفصيل عينه لما ورد في الخطاب، بل سمعنا "الغليون" يتلعثم ويفأفئ الكلمات و"الأفكار" التي تؤلّف "ردّاً" شاملاً مختصراً ينضح بالحقد والتبعية والعمالة ويهدف إلى التقليل من أهمية ما قاله الرئيس السوري وشرّحه وأضاء عليه ووعد به في حزم وعزم وتماسك وقوة إقناع فاستمر "الغليون" (الذي ما عاد يجدي النفخ في شعلته المنطفئة) بنهجه الهزيل العميل الحاقد، مؤلّباً ومحرّضاً، قائلاً بسذاجة وبلاهة "لا تصدّقوا الكلام والوعود" كأنّما الصدق عنده هو والوطنية و"الوعد بالجنّة"! وكأنما المنشقّ الخائن المدفوع الأجر هو المنقذ الآتي من باريس واسطنبول على صهوة حصان دمشقيّ، وكأنما هو بحجم رئيس بلاده وليس قزماً أمام تلك القامة السياسية والوطنية في الحقيقة والواقع! فضلاً عن "كتّاب" مرتزقة، مأجورين أيضاً وحاقدين، يُخرجون أقلامهم المرتهنة ليكتبوا في صحف التمويل النفطي، القطري والسعوديّ (بعضها ويا للأسف لبنانية)، ذمّاً وهزءاً وشكّاً وتبخيساً، ضمن "جوقة" مستكتبين وإعلاميين مأجورين تتحرّك صوتاً واحداً عند الضرورة بعصا المايسترو الأميركي، وبينهم "يساريّون" قدامى من صنف "كنّا شيوعيين" و"صرنا ليبراليين متأمركين" وهم في حقيقة الأمر أقزام بلا فعل أو تأثير، سوى التشويش وإثارة مناخات الشك وغبار صرف الأنظار عن كلام الحقّ ورؤيا المصير.
فنّد الرئيس الأسد عناصر المؤامرة الخارجية التي لم تبقَ، في تعبيره، خافية على أحد "لأن ما كان يخطّط في الغرف المظلمة بدأ يتكشّف أمام أعين الناس واضحاً جليّاً، ولم يعد الخداع ينطلي على أحد، إلاّ على من لا يريد أن يرى ويسمع". المؤامرة الكبرى ضدّ سورية حقيقة مثبتة بالأدلّة والبراهين وسقطت كل دعاوى نفيها أو تجاهلها وبات الطعن فيها أمراً مستحيلاً من فرط سطوع عناصرها ومكوّناتها، خاصة الإعلامية المركّبة بـ"الماتراكاج" الجماعي الذي حدّده الرئيس الأسد عدداً ووسائل (60 محطة تلفزيونية وعشرات مواقع الإنترنت وعشرات الصحف في العالم مكرّسة للعمل ضدّ سورية). التنسيق مكشوف وتصعب التعمية عليه أو إخفاؤه.
أمّا في الإصلاح فأفحم الرئيس السوريّ المشكّكين، معلناً إجراءات وتواريخ ومواعيد، مثل إجراء الاستفتاء على الدستور الجديد للبلاد في آذار المقبل، والانتخابات التشريعية في مطلع أيار أو مطلع حزيران حدّاً أقصى، وإشراك فعليّ للمعارضة (الداخلية البنّاءة) في الحكم عبر تمثيل وزاريّ... فضلاً عن قانوني الأحزاب والإعلام اللذين أقرّا فعلياً وأضحيا ساريي المفعول ويُعمل بهما نشوءاً لأحزاب جديدة وتأسيساً لمحطات تلفزيونية جديدة وصحف وغيرها.
إيجابية مطلقة، عقلانية، صريحة، متفهّمة، اعتمدها الرئيس الأسد في خطابه التاريخيّ المنهجيّ المتوازن، ليشفعها بنبرة حاسمة موجّهة إلى المسلّحين الإرهابيين، جنود المؤامرة، الذين ينشرون القتل والرعب والموت في بعض أنحاء سورية، متوعّداً هؤلاء بالمواجهة الحاسمة التي لا مهادنة فيها ولا تهاون.
للمشكّكين في أسلوب الدولة السورية والرئيس السوريّ حيال الأزمة الدامية والمأسوية، وللمتسائلين حول الرؤيا المستقبلية للصراع الدائر منذ أشهر، أتى خطاب الرئيس الأسد التاريخيّ ليقطع الشك باليقين وليردّ على المتسائلين بمنهج فكر وقول وعمل يتّسم بثلاث مزايا أظهرها الخطاب في جامعة دمشق وأكد عليها، هي: براعة إدارة الصراع منذ نشوئه واجتيازه مراحل الهجوم والضغط والتهويل والتهديد وإغراق سورية في بحر الفوضى والدم والإرهاب، فلم يبق السؤال مطروحاً حول: كيف يدير الرئيس عملية التصدّي للصراع القائم نتيجة المؤامرة المعدّة؟ إذ كشف عن براعة كانت موضع شك أو سؤال في أفضل تقدير. والميزة الثانية دقّة عرض الأزمة بكامل نواحيها وعناصرها وخفاياها. والميزة الثالثة ثبات الموقف والنهوض بالمسؤولية وتحمّلها كاملة حتى النهاية، مخيّباً آمال المراهنين على استسلام أو تسليم يُقْدِمْ الرئيس على أيٍّ منهما، نتيجة الضغوط والدم المراق، «مطمئناً» المراهنين الخائبين واليائسين بالعبارة الأبلغ: «خسئتم، لستُ أنا من يتخلّى عن مسؤولياته".
فلنطمئن إذن إلى كلام الرئيس. الشعب السوريّ مفخرة شعوب هذه الأمة، وسورية العظمة والحضارة والتاريخ ثابتة، صامدة، عنيدة، باقية إلى الأبد.
|