إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

التسامح جوهراً وأساساً في بناء الدولة غير الدينيّة 1/2

جورج كعدي - البناء

نسخة للطباعة 2014-03-18

إقرأ ايضاً


التسامح قيمة إنسانيّة من أسمى القيم التي بذل لها أهل الفكر والفلسفة والدين الكثير من جهدهم التأمّلي والبحثيّ لإعلاء شأنها وتمييز أهميّتها، في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم على السواء. وهؤلاء المفكّرون هم من الغرب والشرق، قدامى ومحدثون، التقوا على جوهر التسامح أساساً للتعايش والتفاعل والحوار بين البشر، إلى أيّ دين أو عرف أو عقيدة أو ثقافة أو فئة انتموا، للارتقاء بالمجتمع الإنسانيّ، تمهيداً لإحلال السلام العالمي بين الشعوب والدول.

للغوص في مبدأ التسامح أجول مجدّداً في فكر فولتير، روسو، ديكارت، كانط، بيكون، لوك... وشرقا ًفي فكر الإمام علي بن أبي طالب، ابن رشد، ابن خلدون، ابن عربي، محمد عبده، الكواكبي، بلوغاً إلى نصر حامد أبو زيد ومحمد صادق الحسيني وعبد الحسين شعبان... فضلاً عن مساهمة مفكّري النهضة في مسألة تقريب الأديان، وفي مقدّمهم أنطون سعاده الذي أعلن مفهوم الأمّة وحقيقتها فوق أيّ انتماء دينيّ أو عرقيّ أو سواهما.

تطوّر مفهوم التسامح من الفرد إلى المجتمع إلى الدولة، فالمجموعة الدوليّة، ولم يبق مفهوماً اصطلاحيّاً مرتبطاً بالسخاء والجود والعفو والتساهل، بل أضحى اعترافاً بالحقّ واحتراماً له. وهو ليس وقفاً على مجتمع بعينه، وليس شرقيّاً أو غربيّاً، بل مطلب إنسانيّ عامّ وقيمة عليا.

غياب التسامح يعني انتشار ظاهرة التعصّب والعنف وسيادة ذهنيّة التحريم والتجريم في السلطة وخارجها، على أيدي جماعات التطرّف والتشدّد أو ما اصطلح عليه بالأصوليّة، وعلى الصعد كافة، الفكريّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الثقافيّة.

فكريّاً، يعني عدم التسامح منع حق التفكير والاعتقاد والتعبير وفرض قيود وضوابط تمنع ممارسة هذا الحقّ وتُنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يجرؤون على التفكير خارج السائد، إن بقوانين مقيّدة أو عبر ممارسات قمعيّة تحت ذرائع شتّى.

سياسيّاً، يعني عدم التسامح احتكار الحكم والسعي إلى السيطرة عليه وتبرير مصادرة الرأي الآخر، تحت أي مبرّر دينيّ أو إيديولوجيّ، لإسكات أيّ صوت، ولتسويغ فكرة الاستئثار وادعاء امتلاك الحقيقة.

دينيّاً، يعني عدم التسامح منع الاجتهاد، بل تحريم أيّ رأي حرّ وتكفيره بحجة المروق في ظلّ تبريرات ديماغوجية وضبابية، تمنع حقّ إبداء تفسيرات مختلفة. ويزداد المشهد قتامة في ظلّ التمترس الطائفيّ أو المذهبيّ مع إلغاء المذاهب الأخرى وفرض الهيمنة عليها بالقوّة.

في المجتمعات كلّها اختلافات وانقسامات في الرأي، والمجتمع الخالي من الاختلاف والخصوصيّة هو من صنع الخيال. فالاختلاف من طبيعة الوجود وفي صلب الحياة البشريّة، وهويّة المجتمع وكيانه ووحدته وتماسكه لا تنفي الصراع والاختلاف والتنوّع والتعدديّة. كما لا تستقيم هويّة «الأنا» من دون هويّة «الآخر». لكن الإفراط في الاختلاف يقود إلى الانغلاق والتعصّب والتمسّك بـ«الخصوصية» الضيّقة، فيمسي «الآخر» موضوع حقد ورفض وتجاهل، وقد يبلغ الأمر حدّ التصفية. تحلّ في هذه الحال الهويّة الجزئيّة للطائفة أو المذهب أو الحزب مكان الهويّة العامة، ويصير التاريخ «الخاص» تاريخاً شرعيّاً وحيداً، وما عداه من صنع «الأعداء».

من أسطع نماذج الدول الدينيّة الأصوليّة المتعصّبة واللامتسامحة، دولتا «إسرائيل» والسعودية. ففي الحالة الأولى تستميت الدولة المحتلّة المسخ لتكريس دولة يهوديّة خالصة تفرّق داخلها بين الجنسية والمواطنة، ويتجاوز التمييز العنصريّ والدينيّ فيها العداء للفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، إلى التمييز بين اليهود أنفسهم، بين يهود شرقيّين سفارديم ويهود غربيّين أشكيناز ويهود فلاشا وسواهم. أما في الحالة الثانية فيحكم الفكر الوهّابي الظلاميّ دولة القهر والتكفير والتحريم وأسواط «المطاوعية»، مانعاً غير المسلمين من إقامة معابدهم وممارسة شعائرهم، ومحرّماً الفكر الحرّ والإعلام الحرّ. والفنون العالميّة شبه محرّمة، مع اعتماد العقوبات الظلاميّة والوحشيّة كقطع اليد وقطع الرأس والجَلْد والرَجْم، إلخ. ويعادي حكّام مملكة الظلام والقهر السعودية معظم جيرانهم ويتآمرون ضدّهم، خاصة في بلاد الهلال الخصيب التي يضمرون لها الحسد والحقد ولهم في طبيعتها ومناخها وخصبها ومائها أطماع تاريخية، وسورية التي دمّرتها أحقادهم في السنوات الأخيرة هي خير برهان.

«إسرائيل» والسعودية توأما اللاتسامح والأصوليّة والتعصّب والظلاميّة والعداء والطمع والوحشية... وهما «الدولتان» العنصريّتان الوحيدتان الباقيتان في عالمنا المعاصر!

اقترنت فكرة التسامح بفيلسوف عصر الأنوار فولتير فبحث فيها ودافع عنها ودعا إليها، معتبراً أنّه حين لا يملك الإنسان أفكاراً سليمة عمّا هو إلهيّ فإنّ أوهاماً خاطئة تحلّ مكانها. الخرافات بالنسبة إلى الدين هي مثل التنجيم بالنسبة إلى علم الفلك. الخرافة والتنجيم أخضعا العالم لأمد طويل عاش فيه الإنسان حياة بربريّة. أشبعت عقول العامة بقصص السحر والشعوذة والقدرات الروحانية. وبحسب فولتير فإنّ هذه الخرافات ليست خاصّة بمجتمع بعينه بل هي موجودة في المجتمعات كلّها، خاصة حيثما يوجد التخلّف. ويمضي فولتير سائلاً: «... ولكن بين جميع تلك الخرافات، أليست أخطرها تلك التي تكره فيها جارك بسبب آرائه؟ ويرى أن الدين وجد ليجدنا سعداء في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، فماذا علينا أن نفعل لنكون سعداء في هذه الحياة وفي الحياة الآتية؟»، ويجيب: «أن نكون عادلين على قدر ما تتيحه لنا تعاسة طبيعتنا البشرية، أن نكون متسامحين متساهلين».

من ناحتيه، اعتبر كانط احترام النقد والاستقلال الفكري من مبادئ الوجود الأساسية، مشدّداً على أن الواجب الأول لكلّ دولة متنوّرة تربية الناس على مفهوم الحرّية، وتحرير الإنسان من وضعيّة دونيّة ذهنيّاً قيّد فيها نفسه طوعاً، بالاعتماد على ثلاثة مرتكزات هي العقل والطبيعة والتقدم.

قال الإمام علي بن أبي طالب: «ولا تكوننّ عليه أي على الناس سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّأ أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق...».

وقال الإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ... ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». وقال الإمام أبو حنيفة النعمان: «كلامنا هذا رأي، فمن كان عنده خير منه فليأتِ به».

في بلاغة هذه العقول الكبيرة النيّرة أعمق معاني التسامح والانفتاح على الآخر معتقداً ورأياً وفكراً، فأين «أئمة آخر زمان ومشايخه»، مثل القرضاوي وأقرانه العميان المتعصّبين، أعداء التسامح والفكر المنفتح والإنسانيّة الرؤوفة، دعاة التكفير بعقول ظلاميّة سلفيّة مرعبة؟! وما عساه تاريخ التسامح في الأديان، خاصة في المسيحيّة والإسلام؟ إنها تتمّة بحثنا في حلقة مقبلة.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024