إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أميركا أصوليّة لا علمانيّة المُلهم جورج دبليو بوش منفّذاً «إرادة الله»!

جورج كعدي - البناء

نسخة للطباعة 2014-07-03

إقرأ ايضاً


عزّزت «القوميّة الدينيّة» التي تبنّاها جورج دبليو بوش إرث الرؤساء الجمهوريين الثلاثة الذين سبقوه، وأكّدت «كهنوتيّة» النظام الأميركيّ، على الأقلّ تحت الحكم الجمهوريّ. وعلى نهج اليمين المتطرّف في الخمسينات من القرن الفائت، مزجت حملة بوش الانتخابيّة ـ وإدارته لاحقاً ـ المسيحيّة المحافظة بالوطنيّة ودعم رأسماليّة الأسواق الحرّة. وعلى خطى أسلافه، دعا بوش الدولة إلى «استعادة جذورها البروتستانتيّة»!

لكن في الجانب الآخر من التعارض الإيديولوجيّ الذي يدلّ على عمق أزمة المجتمع الأميركي وارتباكه وتناقض قيمه وتهافتها، كان هناك الليبراليّون المنزعجون من التوجّهات المعاصرة وعدم صفاء الحياة الأميركيّة العامة، والأقلّ اهتماماً بالسلوكيات الجنسيّة، مثلاً، مقارنة بسياسات الحكومة التي تعمل ضدّ العدالة ومصالح الفقراء، معبّرين عن قلقهم الشديد من التفاوت الواسع في الدَخْل الفرديّ، والافتقار إلى الرعاية الصحية، وتعصّب اليمين المسيحيّ. ويعتبر هؤلاء الليبراليّون الرأسماليّة المعاصرة مصدر معظم العلل الاجتماعيّة التي استنكرها المحافظون، كما يرون أن أزمة المجتمع الأميركيّ تأصّلت بسبب التفاوت الاجتماعيّ والاقتصاديّ لا بسبب غياب العقيدة الدينيّة. ونظر الليبراليّون في شكّ إلى محاولات غرس العقيدة المسيحيّة المحافظة داخل المؤسّسات العامة، واعتبروا المبادرة «المبنيّة على العقيدة» التي تبنّاها جورج دبليو بوش أقلّ من مجرّد محرّك لخدمة الفقراء بل تصبّ أكثر في مصلحة نشر الدين البروتستانتيّ. وتمحورت مخاوف الليبراليّين حول التعارض بين التصريحات الصريحة عن القيم المسيحيّة التي ميّزت حملة بوش الانتخابيّة والترويج لسياسات وُضعت لخدمة الغنيّ والقويّ على حساب الفقير.

عَكَسَ ردّ فعل إدارة ج.د. بوش على هجمات 11 أيلول 2001 البيئة الثقافيّة التي وصل بوش إلى السلطة من خلالها، إذ وُصفت الهجمات وردّ الفعل بتعابير دينيّة مستوحاة من الرواية المسيحيّة للتاريخ الأميركيّ. كما عَكَس نظرة المحافظين إلى «الأمّة الأميركيّة». وخلال مراسم التأبين في الكاتدرائيّة الوطنيّة في واشنطن تحدّث بوش عن «قضيّة وطنيّة مقدّسة» ينبغي للجيل الجديد من الأميركيّين الاستجابة لها، قائلاً إنها «مسؤوليّة الدولة حيال التاريخ أن تردّ على تلك الهجمات وتخلي العالم من الشرّ»، موجّهاً نداءه هذا من أعلى منبر وعظ داخل الكنيسة. استخدم بوش ذاك الخليط الفاعل من الدين والقوميّة والعسكر، لتبرير عدد من المبادرات التي ستشكّل تحوّلاً ملحوظاً في السياسة الخارجيّة الأميركيّة، وتساعد في منح شرعيّة لرئاسة كانت موقع نزاع حتى ذلك الحين. كان جليّاً في تصريحات بوش، وفي بيانات أخرى مماثلة، أن الاعتداء وقع ضدّ أميركا بسبب «قيمها» المقصود الدينيّة البروتستانتيّة وليس نتيجة لسياساتها. وفضلاً عن ذلك وُصف الذين شنّوا هجمات 11 أيلول بأنّهم مسلمون متعصّبون ومناهضون للحداثة، معتبراً أن ما واجهته أميركا ليس أدنى من «حرب لإنقاذ الحضارة»! وعلى نهج الحرب الباردة ومواجهة الفاشيّة في منتصف القرن العشرين تحدّد النزاع الجديد من منظار إيديولوجيّ ودينيّ، وكان الأمر عامذاك صراعاً بين رؤيتين مختلفتين للنظام الاجتماعيّ. فالغرب، في تعريف بوش وجماعته، يرمز إلى فكرة المجتمع «المنفتح»! الذي شكّلته «مبادئ التنوير»! و«حرّية الفرد»! و«التسامح في التنوّع»!

ساهم ذاك الوصف الذي أطلقته الإدارة على الحرب على الإرهاب، والذي سيُشار إليه في ما بعد بالصراع ضدّ الفاشية الإسلاميّة، في تعزيز طبيعة الصراع الدينيّ بين الطوائف. قيل إنّ أميركا كانت تحارب لمصلحة «حرّية الإنسان»! وقيل أيضاً إنّ في الصراع لأجل نَيْل الحرية «ليس الله محايداً»! ويمكن تلمّس الدلالات المسيحيّة في عبارة بوش «أنّ الحرية هبة من العليّ القدير لكل رجل وامرأة». وعَكَسَ هذا الخليط من المثاليّة المسيحيّة و«الديمقراطيّة» و«الحرّية» الصفة الأخلاقيّة المطلقة للحركة المسيحيّة المناهضة للشيوعيّة، وهو الخليط الذي أسّس لغزو كلّ من أفغانستان والعراق، وتأصّل كذلك في أحد الافتراضات القائلة بأنّ إدارة بوش كانت في صدد «تنفيذ ما أراده الله»!

حدث 11 أيلول ساهم في «تغيير شكل» رئاسة بوش وسط النار والرماد الناتجين من برجي التجارة العالميّة: «ظهر نوع من الوحي، متوهّجاً بأنواع مختلفة من النيران، أضاء خبايا عقل بوش وقلبه وروحه… أصبح جورج دبليو بوش الآن على يقين من أن الله، الذي عاهده وألزم نفسه أمامه قبلاً كمسيحيّ مؤمن، قد وضعه في المكتب البيضويّ لهدف ما. وضعه هناك لكي يقود حرباً ضدّ شرّ الإرهاب»! لا أدري هنا ما الفرق بين الوحي الهابط على أسامة بن لادن لمحاربة الشيوعيّة الكافرة الملحدة ولاحقاً «الصليبيّة» التي تحارب المسلمين… والوحي الهابط على بوش البروتستانتيّ المصاب بعته وجنون يصوّران له أن الله انتدبه لمهمّة إنسانيّة كونيّة ويخاطبه مباشرة! أليس كلا الأصوليّين المعتوهين والمجرمين وجهين لعملة أصوليّة واحدة؟! .

عزّزت نبرة بوش الدينيّة وتوسيع نطاق النزاع ليشمل «محور الشرّ» العراق وإيران وكوريا الشماليّة الرؤية المسيحيّة للدور الذي تؤدّيه الولايات المتحدة للعالم. عندما تحدّث بوش عن «إخلاء العالم من الشرّ» قال أحد المعلّقين «إنّه يتجه نحو عقلية صليبيّة، عقليّة الحرب المقدّسة». كما ساهم توجّه إدارة بوش إلى شنّ حرب على الإرهاب في تعزيز الرأي القائل إنّ أميركا كانت في صدد الترويج لصدام الحضارات هنتنغتون . ورغم المحاولات السابقة للتمييز بين الإسلام المتطرّف والإسلام المعتدل، ظلّت صورة الصدام بين الخير والشرّ، وبين المسيحيّة والإسلام، قائمة. كانت هذه نظرة سائدة في جميع أنحاء منطقتي الشرق الأوسط وجنوب آسيا. مثلاً، نُظر إلى الحرب في العراق بكونها نتيجة هجمات 11 أيلول ويحرّكها النفط والسلطة. وأدّت عمليّات الاعتقال غير المحدودة في خليج «غوانتنامو» في كوبا والانتهاكات التي مورست داخل سجن أبو غريب في العراق إلى تعزيز الرأي القائل إنّ الولايات المتحدة الأميركيّة تعمل خارج نطاق الأعراف الدوليّة. فيما منح جيري فالويل تبريراً إنجيليّاً لغزو العراق، بحجّة أن الحرب كانت تعني «الدفاع عن الأبرياء… وإذا لم ننجح في وقف انتشار الشرّ، فسوف نفقد العديد من الأرواح البريئة وسيتأثّر ملكوت الله»! كما أدلى بعض القساوسة البروتستانت في جميع أنحاء الدولة بتصريحات مماثلة من أعلى منابر الكنائس خلال الفترة التي سبقت غزو العراق. وصدرت أكثر التعليقات إثارة للجدال من القائد العسكري وليم بويكن ومفادها أن الحرب ضدّ الجهاد الإسلاميّ وبالتالي العمل الوشيك في العراق هي «معركة مقدّسة» ضدّ قوى الشرّ. ألقى بويكن خطابه «المقدّس» هذا مرتدياً الزيّ العسكريّ، وفحوى كلامه أنّها حرب دينية إذ قال أيضاً: «بصفتنا أمّة مسيحيّة يسود فيها حكم الله، فإن النصر يعتمد على اتحاد الأمّة بأسرها تحت إسم المسيح»!

رغم أن الخطاب الوطنيّ لإدارة بوش كان مشبعاً بالمثل المتعلقة بـ«حرّية الإنسان» و«المهمّة الإنسانيّة»، إلاّ أنّه انحرف صوب الطائفيّة والأصوليّة التي تسم المجتمعات المنغلقة مثل السعودية. وبخلط «الغاية المسيحيّة» بالمصالح الأميركيّة، كانت إدارة بوش تستخدم الدين «لتوفير تبرير أخلاقيّ فاعل لاستراتيجيّة الإمبراطوريّة»، بحسب تعبير الكاتبين أندرو بيكافيتش وإليزابيت برودرومو في صحيفة «أوربيس» في مقال لهما تحت عنوان «الله ليس محايداً: الدين والسياسة الخارجية الأميركية عقب حوادث 11 أيلول».


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024