هي ليست ثورة ضدّ الأصنام بوحي من «شريعة»، بل هو في الجوهر خوف دفين من فكر نيّر ضدّ ـ ظلاميّ ترمز إليه، وجهل أكيد بأهمية هذا الفكر وعظمته، وحقد أعمى إزاء كل من لا يقرأ في كتاب واحد ويؤمن بما «يؤمنون» ويتقنّعونه «ديناً» و«عقيدة» و«جهاداً» بحدّ السيف! يرعبهم فكر أبي العلاء المعرّي شاعراً فيلسوفاً، تغضبهم نزعته الإنسانية الوجودية السابقة على الوجوديين الكبار أنفسهم، حتى أن تشاؤم الفيلسوف الألماني الكبير آرثر شوبنهاور قورن بتشاؤمه في دراسات غربية قيّمة. مثلما ترعبهم وتغضبهم أفكار الكبير طه حسين بثقافته الشاملة المنفتحة وعقله المشعّ وإنسانيته العميقة ومقاربته الجريئة والمنهجية لقضايا الدين والتراث وشعر العصر الجاهلي، متجاوزاً زمنه إلى أزمنة لاحقة أكثر وعياً وإنسانية.
تشاء المصادفة ذات الدلالات أن يكون الرمزان الفكريّان والأدبيّان المستهدفان، أبو العلاء المعري في سورية وطه حسين في مصر، فاقدي البصر نافذي البصيرة، في حين أنّ الظلاميين الجهلة ينعمون بالنظر ويفتقدون البصيرة، تسبح عقولهم وقلوبهم، إن كانوا يملكون مثلها، في الظلمة الدامسة ناعمين بجهلهم والعمى الفكريّ والروحيّ والإنسانيّ، متسلّحين بما يظنّونه «شرعاً» حرفيّاً لا اجتهاد فيه ولا تفسير ولا مناقشة، حاملين راية التعصّب الأصوليّة السلفيّة الوهابيّة التكفيريّة «الإخوانيّة»، إلى ما هنالك من تسميات وتيّارات لا يمكن أن تحيلنا شكلاً ومضموناً إلاّ على عصور الجهل والظلام، على ما قبل عصري النهضة والأنوار وسائر العصور التي طوّرت الفكر البشريّ وشرّعت له آفاق الرؤية والثقافة والمعرفة، بلوغاً إلى العصور الحديثة التي ليست كلّها شرّاً وليست كلّها خيراً، إنّما تكفي فيها مزايا تقدّم العلوم على اختلاف أنواعها، خاصة تلك التي تخدم الإنسان ولا تضرّ بإنسانيته، وتطوّر وسائط المعرفة والثقافة والحوار للارتقاء بالمجتمعات نحو الأفضل... ويأتينا الظلاميّون الجهلة ليقنعونا بحدّ السيف والإرهاب وتدمير تماثيل رموز الفكر والأدب الإنسانيين بأنّ الحكم الذي يبغونه للمجتمعات هو «الأصلح» و«الأوحد» و«الأفضل» و«الأعظم»، بحكم الشريعة (هم من جوهرها ورقيّها وتسامحها براء) وإرجاع «الخلافة» وتطبيق الذمّية والتكفير وقطع الأيدي والرؤوس والرجم والجلد، إلى آخر الأشكال «الحضارية» التي ترهب المجتمع وتسيّره بالسوط والسيف.
تحطيم تمثالي أبي العلاء وطه حسين محاولة يائسة، تافهة، جاهلة، حقيرة، لطمس إرثهما الفكريّ والأدبيّ والشعريّ والفلسفيّ المضيء، إذ غاب عن هؤلاء الظلاميين اليائسين أن النور يقوى دوماً على الظلام، وأن الغلبة هي أزلاً وأبداً له، وأن العتمة ما انتصرت يوماً على الضوء، وأن تمثالاً يُحطّم بأيدٍ جاهلة لا يعني في أيّ حال من الأحوال أنّ فكره تحطّم أو زال إرثه الإنسانيّ المنير أو قضي على ذكره أو محي من العقل والوجدان، الفرديّ والجماعيّ. إسقاط تمثال بفعل أحمق أرعن دنيء لا يقدّم ولا يؤخّر، إلاّ في حسابات الجهلة التافهين الذين يخالون أنّهم بتحطيمهم تمثالاً يحطّمون وجود من يرمز إليه هذا التمثال الجامد، فيما روحه كامنة في بطون الكتب الخالدة والنفوس المشبعة من فكره وأدبه، وفي الذاكرة الفردية والقومية التي تحفظه وتصونه.
أبو العلاء المعرّي وطه حسين، لو يعرف هؤلاء الوهّابيّون السلفيّون «الإخوانجيّون» المتخلّفون، المجرمون الإرهابيون، الحاقدون العميان، أنهما ليسا تمثالين في ذاكرة الحضارة ومكتبة العالم، بل هما شعرٌ وأدبٌ وفكرٌ وفلسفةٌ ونورٌ مستديم تسير الأجيال على هديه، وثمة تماثيل لا تحصى لهما ولآخرين من أئمّة الفكر والشعر والأدب في أمّتنا، داخل كل إنسان نيّر العقل، مثقّف، منفتح، فكيف يسع هؤلاء أن يحطّموا نصباً مرفوعاً داخل الروح بعدما تجرّأوا عليه في العراء، وسط فوضى القتل والإجرام التي أشاعوها في سورية ومصر وبقاع أخرى مرّ فيها «الربيع الإخوانيّ» المشؤوم.
ويلكم وبئس المصير أيها الظلاميّون، النصر في آخر النفق المظلم الذي تعبره الأمّة لن يكون من نصيبكم بالتأكيد. ستهزمون ويهزم مشروعكم الوهابيّ السعوديّ ـ القطريّ ـ التركيّ ـ «الإسرائيليّ» ـ الأميركيّ، وسيطلع الفجر على أمّتنا مجدداً، وسترتفع تماثيل ونصب أكبر لأبي العلاء، ابن معرّة النعمان العظيم الخالد، ومثله هناك في أرض الكنانة سيعود تمثال طه حسين إلى موقعه. أمّا ذكركم ومرحلتكم المظلمة السوداء فإلى مزبلة التاريخ.
|