العصبيّة المذهبيّة المريضة والنزعات «الجهاديّة» والتكفيريّة الظلاميّة التي تسير عكس التاريخ، ضدّ التقدّم الفكريّ والحضاريّ والعلميّ والإنسانيّ عامة، نعثر على جذورها في بعض الأفكار والعقائد السلفيّة العتيقة التي تعود إلى عصور الإسلام الأولى ولم تلقَ أدنى إجماع في زمنها ولا هي تصلح في أيّ حال لأزمنتنا المعاصرة، من ابن حنبل إلى ابن تيمية موضوع كلامنا الخميس الفائت فمحمّد ابن عبد الوهاب الأقرب تاريخيّاً 1703 ـ 1792 والقائل بنظرية ابن حنبل المتقاطعة مع نظرية ابن تيمية. ففي مسقط رأسه، نجد، التحق ابن عبد الوهاب بآل سعود الذين عملوا على الإمساك بالسلطة عبر السيطرة على الصحراء العربيّة، لكنّ محاولتهم الأولى باءت بالفشل. وفيما كان عصر الأنوار يتألّق في أوروبا في خضمّ القرن الثامن عشر، انطلقت هذه الحركة «التطهيريّة» التي سوف تساهم بعد قرنين في ولادة المملكة السعوديّة الراهنة.
لو انصرفنا إلى دراسة ابن عبد الوهاب كصاحب «عقيدة»، عبر قراءة أشهر كتبه «التوحيد» مثلاً، لاكتشفنا أنه مجرّد ناسخ لا يملك أي ذرّة تجديد ولا يستحقّ أن يعتبر مجتهد عقيدة، فكتابه هذا محشوّ بالاستشهادات، ما يؤكّد أنّ كاتبه ناقل وليس مبدعاً. وفي الكثير من الكرّاسات التي ألّفها يتأكّد أنّ نَفَسه القصير لا يُكسب الإيجاز في التأليف صفات البلاغة، فالصفحات التي سوّدها تؤكد تبعيّته الحنبليّة المتزمّتة، حتى ليبدو أكثر تزمّتاً من معلّمه المؤسّس، إذ يبدو ابن حنبل أكثر تسامحاً في مسألة التكفير، ويعترف ابن تيمية نفسه بأن معلّمه كان متشدّداً في ما يخصّ «العبادات» ومتحرّراً تماماً في موضوع «العادات»، وتبعاً لهذه الملاحظة يمكن القول إن ابن حنبل تغاضى، مثلاً، عن التوسّل بالأولياء وزيارة القبور، وفي هذه المسألة، كما في غيرها، نشهد تدرّجاً في الحدّة بين الحلقات الثلاث التي تبلورت خلالها العقيدة الوهّابية، فهي انتقلت من التساهل النسبيّ مع ابن حنبل إلى الانتقاد الجذريّ النظريّ في جميع الأحوال من جانب ابن تيمية، وصولاً إلى استخدام العنف وهدم الأضرحة العريقة على يد أتباع ابن عبد الوهاب ومؤيّديه كم هو بليغ مشهد هدم مئات الأضرحة التاريخيّة في سورية اليوم، للتأكيد على الفكر الوهّابي الحاضر بقوّة هناك يعيث قتلاً وجهلاً وتدميراً . حتى أنّه لم يبق في يومنا الراهن في المملكة السعوديّة أي قبر من قبور الأولياء والصحابة، باستثناء قبر النبيّ. وما أن يُكشف في السعوديّة مَعْلم أثريّ من فجر الإسلام أو الحقب التي أعقبه، حتى يُطمر فوراً بطبقة من الإسمنت، فالوهّابي لا يتردّد، للحفاظ على عقيدته، في هدم الآثار التي صنعت الحضارة خشية الاضطرار إلى مقارنة الرواية الأسطوريّة بالوثائق التاريخيّة ثمّة تلاقٍ وتقاطع هنا بين ما فعلته «طالبان» بتمثال بودا في أفغانستان وما تفعله السعوديّة بآثارها .
ضعف «عقيدة» ابن عبد الوهّاب كان لمرّات عديدة عرضة للانتقاد من كبار مشايخ الإسلام وأئمّته، وذاك ما فعله داوود البغداديّ الذي دحض مذهب ابن عبد الوهاب في كتيّب ضم ردّين على الوهّابية أنجز عام 1875 ونشر في اسطنبول بعد اثني عشر عاماً. يورد البغدادي فتوى دبّجها عام 1870 أحد معاصري ابن عبد الوهاب، الشيخ الشافعي محمد بن سليمان المدني، وعرضت على هذا الأخير مسألة تتّهم ابن عبد الوهاب بأنّه شقّ طريق الجهل وبأنّه سمح للجهّال بأن يطفئوا نور الله، فكيف يمكنه ادّعاء «الاجتهاد» من دون أن يجمع في شخصه الشروط التي فرضها العلم الشرعيّ على المجتهدين؟ أليس عليه أن يخضع للعلماء بدلاً من الاستمرار في ادعاء الإمامة وحضّ الجماعة على سلوك الطريق الذي شقّه؟ ولماذا يتّهم بالزندقة ويهدر دم كلّ من يعارضه؟ وحتّى لو أرسى عقيدة جديدة بجهوده الخاصة، هل يفرضها على الجميع ومجال الاعتقاد واسع والسبل إليه متعدّدة كما نصّ عليه العلماء؟
باءت الحركة التي قامت للاستيلاء على السلطة في زمن ابن عبد الوهاب بالفشل، إذ تمكّنت قوّات والي مصر محمد علي 1769 ـ 1848 من طرد الوهّابيين من الحجاز بعدما شنّت عليهم حملة عنيفة 1812 ـ 1817 ، وتساءل جاك بيرك عن كيفية تمكّن القادة المصريّين من الوصول بمدافعهم إلى الدرعيّة، مهد الوهّابيين، حيث شاهد بأمّ عينيه في السبعينات من القرن العشرين قلعة آل سعود وهي مدمّرة. كما فشلت محاولة أخرى لإقامة دولة في منتصف القرن التاسع عشر. لكنّ بذور العقيدة كانت زُرعت، وفي مطلع القرن العشرين تضافرت الظروف لإعادة إحياء المشروع، فعملت قبيلة آل سعود الملتزمة دوماً بهذه العقيدة التطهيريّة على إنعاش المسار، وبعد ثلاثين عاماً فرضت هيمنتها على القسم الأكبر من الجزيرة العربية، فأخمدت الفتن بين جميع القبائل ووحّدتها لتنشئ الدولة السعودية عام 1932 تحت راية العقيدة الوهّابية، التي تعتبر عقيدة رسمية يوكل أمر تطبيقها بصرامة تامة إلى المطاوعية، القائمين على تطبيق الأحكام الشرعية في الحياة العامّة. وبحسب المفكّر التونسي المتنوّر عبد الوهّاب المؤدّب فإنّ الدولة السعوديّة كانت لتبقى مع العقيدة التي قامت عليها هامشيّة ومحدودة لولا الثروة التي تحقّقت إثر اكتشاف البترول، ولظلّ مجالها محصوراً في أرض قاحلة تغالب فيها طائفة ضئيلة حياة مهدّدة من تلقاء ذاتها بالانطفاء، أو الصمود في شظف من العيش، متكيّفة مع قسوة الصحراء وقحطها. لكنّ القوّة المكتسبة من البترودولار جعلت السعوديّين ينشرون عقيدتهم البدائيّة، المنقضّة على الحضارة التي شيّدتها الأمم الإسلاميّة على مدى ألف سنة من تاريخها، وبواسطة الوسائل التقنيّة في الصورة والصوت هي وسائلَ أمْرَكة العالم نفسها آذت السعودية الوهّابية الإسلام بإلغائها طاقاته وكبحها على اختلاف أبعاده الإبداعية.
تزدهر الأصوليّات على أنقاض التجارب الفاشلة مثل مشروع القومية العربيّة في صيغتها الناصريّة عقب نكسة حزيران 1967، فإثرها انفتحت أبواب الجزيرة العربيّة أمام أشباه المتعلّمين من خرّيجي الأزهر، الذين هاجروا إليها بكثافة سعياً وراء الكسب الماديّ. ففي هذه الرحلات المكّوكية بين ضفّتي البحر الأحمر انعقدت في السبعينات الصلة العمليّة بين الأصوليّة والوهابيّة، لكنّ الأمر استغرق حتى مطلع الثمانينات كي تتحقّق عملية الربط الثانية، الأكثر خطورة من جهة أخرى، لكونها تمّت على الأرض التي شهدت حرب أفغانستان، وفي باكستان. ومن هذا الربط المزدوج نشأ حكم «طالبان» في أفغانستان وتشكّل تنظيم «القاعدة» بزعامة الوهّابيّ أسامة بن لادن ومساعده الأصوليّ المصريّ أيمن الظواهري.
الخميس المقبل، إضاءة في جزء ثالث أخير، على سرّ الحلف الأميركيّ ـ السعوديّ الوهّابيّ... ويمكن إضافة «الإسرائيليّ» الصهيونيّ إليه. أليست هي الحقيقة؟ أليس هو الواقع؟
|