الرفيق فيليب مسلم عرفه عالم القصة كثيراً في خمسينات وستينات القرن الماضي، كما عرفه حزبه مسؤولاً ناشطاً متفانياً، متولياً رئاسة مكتب عبر الحدود، الى مسؤوليات أخرى، اميناً في الحزب، مشاركاً في الثورة الانقلابية، مقيماً في الاردن بعد المحاولة الفاشلة، ناشطاً في الادارة العامة الموقتة التي تولت مقاليد العمل الحزبي، مهاجراً الى البرازيل، مستقراً في الريو دي جانيرو مستمراً في الكتابة قصةً وشعراً وأدباً والى ان وافته المنية.
من مؤلفاته: "هتاف الدرب" صدر بعد الهزيع الاخير (1956) وحفنة غيم (1952) الاهداء الى الهاتفين في الدرب، والهاتفات، والشرح.
هي ذي هتافات كثّفت في هتاف...
وهي ذي دروب لملمت في درب....
فإذا الهتاف، هتافنا، مدى الدرب....
واذا الدرب، دربنا، مدى الهتاف....
واذا المدى، مدانا-
نهضةٌ أبية...
وانتفاضة جبارة لا ترد...
وتحليقة رائعة هي القضاء والقدر-
نهضة ارض تنادي: لقد افقت...
وانتفاضة أمة تهتف: لقد عدت أخلق وابدع...
وتحليقة انسان تدوّي: أنا الافاقة، يا دنيا، وأنا الخلق والابداع...
نحن،
هذا الانسان النامي،
هذا المجتمع العظيم المتسامي،
هذا الذي همّ كل عضو فيه
أن يجسد نمو كل حق، وعظمة كل خير،
وتسامي كل جمال-
حقنا، نحن...
وخيرنا، نحن...
وجمالنا، نحن...
*
المقالة الأدبية في الكتاب "يوم ولدنا"، ومنه هذا المقطع.
هو ذا الفجر قد طلع... وهي ذي الدروب، قد ولّت عنها العتمة الكثيفة، وتلاشى منها النقيق المتراكم الرتيب...
وهأنذا اترك مخدعي الذي أرقت ليلتي فيه، وامضي الى الشرفة المطلّة على الشعاع الدافق- اذا راح احمراره يخضّب الارض التي بدت كأنها نائمة، وإلاّ ربوة شغلها التوق: توقها للوادي العميق- حيث يتفجّر نبع هادر، ما برح يحفر مجراه في المنحدر، حاملاً معه: ذوائب الثلج الهابطة من فوق، وحبّات التراب الزاحفة من المنحنيات والجوانب، وأعواد الاشجار المتساقطة من العطفات واللفتات والاغوار- وكأنّ، في هديره، أغنية الف ضفّة مخضرّة: فيها، نفح الف كرم طيّب خصيب، وبهاء الف ذروة شامخة تتحدّى لفلفة الغيم وعصفات الريح!...
ويا ما أشبهني، الآن، بهذه الذرى والكروم والضفاف- وقد غطست في المجرى، واندفعت، عبر السهل المديد، الى شاطيء البحر الازرق الذاهب في الافق الوسيع البعيد... هناك، حيث يتجدد التوق الى الربوة: هذه التي ولدت فيها، منذ اربعة وعشرين عاماً، وحييت- وأنا، على ذلك، لا أشعر بأنني ولدت إلاّ منذ أربعة أعوام: لأنني لا أشعر بالحياة إلا منذ ذلك الحين-حين أفقت من ذهولي العميق، ذهولي الذي خيّل اليّ انه سبات دهور بددته بتفتّح عينيّ وأذنيّ وشفتيّ وقلبي وكل ما فيّ: لأرى، بوضوح، ما لم أكن لأراه من قبل، وأسمع بجدّ، مالم أتعود سماعه إلا في هزل، واعي، بإيمان جبار وإرادة لا تردّ، ما لم يخطر لي بتجل بل في خطف أو على مهل- حين ادركت حقيقة إنسانيّتي العظيمة الكليّة، حقيقة مجتمعي النامي، حقيقة أمّتي التي طلع فجرها الجديد... وأنا أطلّ على الدرب... وقد وقفت وقفة عزّ، وارتفت ذراعي قائمة بيميني، واخذت أعماقي تقطع عهد المحبة التي ما برحت تغنيّها الأرض وترجّع صداها الاجيال:
- (... على كل هذا... أقسم، أنا: ....)
*
وبعد... هذا القسم... بعد تلك الوقفة العزيزة... رحت أصعّد في الدرب: فإذا أنا حيّ، وإذا أنا أجاهد وأصارع، وإذا أنا أحب وأسعد وأفوز: فكان أن تخرجت في معهد الحقوق، منذ اسبوع، وكان أن قررت خطبتي ومنى، هذه اليلة، ليكون قراننا بعد عامين نصرفهما بالعمل لإعداد البيت!...
ولكني، قبل ذلك كله، لم اكن لافكر بالبيت.. لم أكن لافكر بمنى، وارتباطي بخطبة أو قران... لم أكن لافكر بالحقوق، وممارسة المحاماة التي يدعوني الواجب اليها... اقول، قبل ذلك، لم اكن احيا، بالمعنى الحياتي الذي افهم الآن، بل كنت اعيش عيشاً هو اشبه ما يكون بالتعطيل، واوجد وجوداً هو اشبه ما يكون بالفناء: فلا حياة، بل موت، ولا جهاد أو صراع، تخاذل وخنوع، ولا حب أو سعاده أو فوز، بل حقد وتعاسة وقهر... لولا أن ظهرت منى في الحي... ولولا ان استرعت الفكرة انتباهة البلدة... ولولا ان جسّدت الحركة انتفاضة كل البلاد!...
وفي بلادي الجميلة هذه... في بلدتي الخيّرة المئناف... ولدت، ذات يوم، كما قيل لي، فكتب اسمي في صحيفة مقدسة، وحفر تاريخي على خاتم ذهبي مرصّع بحجر كريم، فيما علّق رسمي، ارسخ من الكتابة، وأعمق من الحفر، في قلبي والديّ اللذين ظلا ست سنوات ينتظران ولادتي لم يكن بعدها ولادة صبي لهما أو بنت!...
وهكذا... نَموتُ في دار والديّ، بلا أخ ولا أخت، وترعرت- وأنا أحسبني أفضل الاولاد الذين كانوا ينتمون لو استطاعوا ان يفعلوا بعض ما افعل، في الحي والمدرسة والسوق: لو اكلوا على هواهم ، وشربوا ما يشاؤون، لو لبسوا الثياب الجديدة الغالية الثمن. ومشوا، في طريقهم، متبخترين، لو أحاط بهم الخدم ونفذوا كل ما يشار به اليهم، مخافة ان يخرجوا مطرودين، لو كان لهم ام رضيّة، مثل أمي- أمٌ تحبها جميع النساء- وأبٌ غضوب، مثل ابي- أبٌ تهابه جميع الرجال، ويتمشيخ على البلدة لأنه ورث هذه المشيخة، كما افهم الآن، عن ابيه وجده وآله... ورثها في الحي، طائفية عمياء: تبيح الجنة لمن تود، وتهب النار لمن تريد، متقاتلة على مفاتيح الجحيم وارتاج السموات... ورثها، في الحقل، اقطاعية هوجاء: تحصد مما لا تزرع، وتنسج مما لا تغزل، مستثمرة عرق المواطنين ودمائهم مقابل الشيء السير الذي يقارب اللاشيء...
ورثها، في البيت، فردية رعناء: تأخذون أن تعطي، وتتبحبح دون أن تضحي، مطوحة بكل مفاهيم المحبة لتجعل مصلحتها محوراً تسخر لدورته كل مصلحة!.
|