الحديث عن الرفيق الشـهيد غسـان جديد : في الجيـش الشـامي ، في مقارعة العدو الاسـرائيلي ، في الصـراع القـومي الاجتمـاعي ، لا ينتهي بمقـالة ، أو في كتـاب . عنـه يجـدر ان يحكـى الكثيـر وأن تـؤرخ سـيرته الغنيـة بالبطولات والمآثر .
مقالـة اليـوم ، عن كتـاب الرفيق جـان دايـة " غسـان جديد المسـألة الفلسـطينية " كـان صدر عن دار سـوراقيا للنشـر عام 1990 ، وننشـرها لفائدة الاطلاع على جانب صغير من حضور كبير لقائد فـذ .
إن الأمم المتقدمة تكرّم قادتها الراحلين بتأمين حضور دائم لهم ، مهما طالت مدة غيابهم ، وذلك عبر الإستفادة من آرائهم المبدعة وسيرتهم القدوة ، فضلاً عن إقامة التماثيل لهم في الساحات العامة ، وعقد الدراسات والندوات حولهم .
ولكن أمتنا المتخلّفة ، لا تكتفي بأن تلقي ظلالاً كثيفة على قادتنا بعد موتهم أو أستشهادهم .. بل هي تصرّ على تشويه سيرتهم وتقزيم بطولاتهم وإلصاق تهمة الخيانة بهم ، خلال حياتهم وفي ذروة تضحياتهم وإنجازاتهم الفكرية والعملية .
وليس من المبالغة القول بأن تشويه سمعة قادتنا في البداية ، ثم إلقاء ظلال التعتيم عليهم بعد ذلك . . قد ساهما بصورة رئيسية في تقهقرنا ، وأخّرا من ولوجنا عالم الرقي والحضارة ، في الوقت الذي قطعت أمم عديدة أشواطاً بعيدة في مضمار العلم والرقي المجتمعي ، رغم أنها لا تتمتع بالمقدار نفسه من المؤهّلات والمواهب التي تزخر بها أمتنا .
من هؤلاء القادة الذين شوّهت سمعتهم وادخلوا عالم النسيان ، غسان جديد . لعل افجع ما تنطوي عليه مأساة هذا القائد الراحل ، أنه خاض حرب فلسطين عام 1948 وسجّل بطولات وإنتصارات كبيرة وعديدة . . ليغتاله شاب فلسطيني ، بعد أقل من عشر سنوات ، بحجة أنه " عميل اسرائيلي " !
* * *
كانت فلسـطين محوراً رئيسـياً لجهاد غسّـان جديد العسـكري والدبلوماسـي ، فضلاً عن نتاجه الفكري .
في مطلع العام 1948 ، ترك غسـان مهمة التدريب في الكلية العسـكرية السـورية ، ليلتحق في جيـش الانقاذ الذي كان يرأسه فوزي القاوقجي . لم ينصهر المتطوعون المدنيّون والعسـكريّون في بوتقة جبش الانقاذ ، كما تقتضي القوانين والأصول العسكرية ، بل ظل كل فريق مستقل في قيادته ومحافظاً على هويته التي ترتبط بالمنطقة التي ينتمي أعضاؤه اليها . ولعل ذلك ساهم في خسارة الحرب ، إلى جانب عوامل أخرى لا مجال لذكرها .
كان غسّان قائداً " للفوج العلوي " في جيش الانقاذ . ولكنه كضابط في الجيش السـوري ، قاد فوجه ضمن إطار جيش الانقاذ ، وبالتنسيق الكامل مع القائد الأعلى فوزي القاوقجي . .
ثمة مصادر عديدة تثبت بلاء غسّان في حرب فلسطين عام 1948 . لعل أهمها واكثرها دقة ما دوّنه فوزي القاوقجي نفسه في مذكراته وما نشره من برقيات تحمل توقيع " غسّان " .
يقول القاوقجي : " في صباح 07/09/1948 قام اليهود بهجوم شديد على جبهة الفوج العلوي في منطقة صفد . وتلقيت من آمر الفوج الرئيس غسان جديد البرقية التالية : " 07/09/1948 رقم 25 من غسان الى فوزي : المعركة تدور في مرتفعات العموقة . حاول اليهود الوصول الى جبل نطاح فرددناهم . لا تزال المعركة دائرة . الامضاء – غسان " .
ولكن أين تقع عموقة ؟ ولماذا تدور المعارك على مرتفعاتها ؟ يجيب القاوقجي : " تقع عموقة هذه ، على مسافة كيلو متر إلى الشمال الشرقي من صفد ، وتشرف مرتفعاتها على سهل الحولة ، وعلى الطريق الممتدة من طبريا إلى صفد إلى المنارة في الشمال . وكان الغرض من هذا الهجوم زحزحة جنودنا عن هذه المرتفعات ، ليؤمن لليهود تنقلاتهم على هذه الطريق من جهة ، ولستر حركات الوحدات اليهودية داخل هذه المنطقة من جهة أخرى " .
ويضيف القاوقجي مستدركاً : " بعد ساعة تقريباً من تسلمي برقية الرئيس غسان ، تلقيت برقية أخرى هذا نصها : 07/09/1948 رقم 26 من غسان إلى فوزي . . اشتبكنا بمعركة في منطقة ماروس ربما تتسع . الامضاء – غسان ".
وعن ماروس يورد القاوقجي الايضاح الجغرافي الستراتيجي التالي : " ماروس هذه ، تقع على مسافة كيلومتر إلى شمالي العموقة ، ومدى الرؤية منها واسع جداً ، وهي تقابل خطوط الجيش السوري في منطقة مشمار هايردن ، ولا يفصلها عن هذه الخطوط سوى اربع كيلومترات تقريباً ، فإذا ما تيسر لنا القيام بحركة مشتركة مع الجيش السوري من هذه المنطقة ، نفصل منطقة الحولة بكاملها عن منطقة طبريا ".
وفي 09/09/1948 تلقى القاوقجي من المقدم شوكت شقير البرقية التالية : " 09/09/1948 رقم 416 من شقير الى فوزي المعلومات عن العدو تدعو للقلق . تحشدات امام ترشيحا من مصفحات ودبابات ومدفعية . يخشى ايضاً مهاجمة تربيخا . اشتبكت هذا الصباح قوات من فوج غسان مع اليهود في الوادي قرب عين التينة . الامضاء شقير ".
ازاء خطورة وأهمية معركة ماروس ، اتصل القاوقجي بقائد الجيش الشامي حسني الزعيم ودعاه الى زيارة الجبهة من اجل اقناعه ، ميدانياً ، بمساعدة فوج غسان جديد وجيش الانقاذ بالذخيرة حتى يكون النصر كاملاً ودائماً . ثم عاد القاوقجي مع حسني الزعيم الى دمشق حيث " اجتمعا بفخامة الرئيس بالقصر، وكان ذلك في 13 ايلول 1948 ، وحضر هذا الاجتماع السيد جميل مردم والزعيم حسني الزعيم ورئيس الحكومة اللبنانية السيد رياض الصلح ، فشرحت للمجتمعين الموقف شرحاً وافياً ، وبينت لهم أهمية ماروس مستشهداً بقائد الجيش السوري الزعيم حسني الزعيم ، ان يسلموني قنابل هاون . ولعب الطمع برأسي فطلبت مدافع هاون ايضاً . فالتفت الي جميل مردم مبتسماً وقال ، ولكن بشيء من السخرية : مدافع هاون ؟ هذا للجيش السوري فقط . . قلت لا بأس أكتفي بالقنابل . . فرفضوا . فاكتفيت بعشرين قنبلة فقط ، فاعتذروا . ثم التفت الي الرئيس – شكري القوتلي – وخاطبني بحدة : " يا أخي ليش تتحرش باليهود ، مانّك شايفهم ماسكينا بخوانيقنا روح انسحب من ماروس " . . وكان صدمة عنيفة جداً ، لم ألق مثلها في حياتي ولم أكن اتوقعها ابداً ، ليس من ناحية العتاد – لكن من ناحية العقلية . . هذه العقلية الغريبة العجيبة برؤوس " الرؤوس ". وقلت لفخامة الرئيس بهدوء : إن معركة ماروس يا فخامة الرئيس ، لم نتقبل أن نخوضها ، إلا على أساس مصلحة الجيش السوري كما بيّن لكم الزعيم حسني الزعيم قائد الجيش . فإذا كنتم ترون لا فائدة من ذلك ولا أهمية له ، فأنا أنسحب من ماروس . وإني في حاجة الى كل نقطة دم ، وكل طلقة نبذلها في ماروس ".
بعد عودة القاوقجي إلى ساح المعركة تلقى من الرئيس غسان البرقية التالية : " 18/09/1948 تمكن اليهود الساعة السادسة من احتلال جبل المخبي وماروس والمرتفعات . قمنا بهجوم معاكس فاسترجعنا التلال المجاورة وماروس . وانحصر اليهود في جبل المخبي . ثم هاجمناهم في الجبل ثلاث مرات ولم نتمكن من استرجاعه . هل ترسلون سرية لدعم حامية ماروس لنسحب الاحتياطي الى ميرون وصفصاف . فالتحشدات في صفد قائمة ، العتاد الألماني أوشك ينفذ . الامضاء غسان ".
ولكن شيئاً مما طلبه غسان لم ينفذ . ولعل قراءة برقية القاوقجي الى رئيس الحكومة الشامية وزير الدفاع جميل مردم تعطي الجواب الشافي . وهذا نص البرقية : " 19/09/1948 رقم 418 من فوزي الى وزير الدفاع السوري . وجودنا في منطقة ماروس لمجرد فكرة معاونة الجيش السوري وللقيام بعمليات مشتركة اذا استؤنف القتال . ليس لهذه المنطقة أية فائدة بالنسبة لوضعنا . سيطرتنا على طريق الحولة الرئيسي مؤمنة في كل وقت اردنا . لا يمكن استرداد جبل المخبي الا اذا اشتركت القيادة السورية معنا ورأت في استرداده فائدة لها . الامضاء فوزي ".
ماذا كان جواب رئيس الوزراء ؟ يقول القاوقجي : " ولكن كان من الطبيعي أن لا أتلقى أي جواب . ورحنا نتخذ ترتيبات دفاعية صارفين النظر عن الهجوم . على كل حال فقد قررت تأكيد استقالتي " .
ويروي كراس " البطل غسـان جديد " الذي اعدّته منفذية الطلبة في الحزب السـوري القـومي الاجتماعي في ذكرى استشـهاده ، تفاصيل مجموعة من المعارك والأعمال العسكرية التي قادها غسان وكان قدوة خلال تنفيذها ، نقرأ منها الواقعة التالية : " قبل أن تدخل جيوش الوطن والجيوش العربية الى فلسطين ، انتدب غسان جديد للقيام بعمل عسكري بطولي سماه بعض الذين عرفوا بخطته انه عمل جنوني . كانت الخطة – والبريطانيون ما زالوا في فلسطين – أن تغزو قوة من المجاهدين أحد المعسكرات البريطانية في حيفا عن طريق يافا . واستأذن غسان جديد قائده فوزي القاوقجي ، فاذن له . تنكّر غسّان مع مئة وعشرين مجاهداً منهم زياد الاتاسي ، وابراهيم فرهود وعلي مجاهد ، بألبسة الجنود الأردنيين ، واخترقوا الطريق من جنين الى حيفا ، والمعسكرات البريطانية واليهودية على جانبي الطريق . وساروا في قلب حيفا واجتازوها الى ما تحت قرية ( الطيرة ) وقاموا بالمهمة العسكرية . وسقط المعسكر المليء بالذخائر في أيدي القوة التي لم تزد كثيراً على المئة فدائي بقيادة غسان جديد ".
* * *
انتهت معارك 1948 بانتصار العصابات اليهودية وهزيمة جيش الانقاذ وسائر جيوش العالم العربي . ولكن الهزيمة كانت سياسية لا عسكرية ، بدليل أن معظم المعارك التي قادها غسان جديد وسائر القادة المتطوعين ، لم تكن لصالح اليهود . ولكن حكومات العالم العربي التي اشتركت في الحرب ، كانت تحوّل النصر الى هزيمة ، سواء بحجب الذخيرة عن جيوشها ، أو بإصدار الأوامر بالانسحاب من المواقع الاستراتيجية والمتقدمة .
أما حرب 1948 فلم تنتهِ . كذلك لم ينتهِ دور غسان جديد في المسألة الفلسطينية .
كان غسان برتبة " رئيس " أثناء الحرب . ونتيجة للدور الذي قام به في فلسطين ، رُفّع الى رتبة مقدم . ثم أصبح رئيساً للجنة الهدنة المشتركة ، وقائداً للفوج المتمركز على الحدود قبالة الحولة .
حاول اليهود تجفيف مياه الحولة . ولكن الجيش الشامي المرابط هناك بقيادة غسان ، حال دون تنفيذ مشروعهم . عندئذ رفعت المسألة الى مجلس الأمن . فانتدبت القيادة غسان جديد للقيام بوظيفة مستشار للوفد الشامي في مجلس الأمن ، حتى يتوفر للجانب السوري الحجج الميدانية التي تثبت إعتداءات العدو . وهكذا أصدر وزير الدفاع الشامي في 02/07/1951 القرار التالي : ( الجمهورية السورية – وزارة الدفاع الوطني – 1655/ س .
الى مقام وزارة الخارجية :
يرجى ابلاغ المفوضية السورية في واشنطن ايفاد المقدم غسان جديد مستشاراً عسكرياً لدى الوفد السوري في هيئة الأمم المتحدة ".
وكان غسان ، في الوقت نفسه ، رئيساً للوفد الشامي في لجنة الهدنة المشتركة . وهو استمرّ في هذه المسؤولية اربع سنوات متتالية . ولنقرأ هذا الكتاب الصادر عن وزارة الخارجية السورية حول مهمة غسان في اللجنة . " الجمهورية السورية – وزارة الخارجية – الرقم س 163 / 811 التاريخ 18/06/1951 .
الى من يهمه الامر :
يرجى تسهيل مهمة المقدم غسان جديد رئيس الوفد السوري لدى لجنة الهدنة المشتركة ، والمسافر الى المملكة الاردنية الهاشمية بمهمة رسمية ". التوقيع : وزير الخارجية .
|