رداً على رسالة أحدهم يبدي وجهة نظره معتبراً ان ما يجري في الجمهورية العربية السورية ثورة اسلامية عربية يمكنها ان تعيد بناء الخلافة الاسلامية العربية،وتجدد دولة الرسول محمد، وتكون الحل الأمثل لمشاكلنا الاجتماعية و الدينية، وتخلصنا من تسلط الحكَّام الكفرة،.
كاتب الرسالة غير الموقّعة المحترم
بعد التحية، اشكرك كثيراً على رسالتك وكلماتك اللطيفة وتقديرك لسعة معرفتي وقوة حجتي ، ولكنني لاأتفق معك على "ان ما يجري على ارض الجمهورية العربية السورية (التي نسميها في حزبنا الكيان الشامي) هو ثورة اسلامية عربية لاقامة خلافة اسلامية عربية في سورية تكون دولة عادلة وتجديداً لدولة الرسول الكريم محمد ،" كما لا أتفق معك على "ان اقامة مثل تلك الدولة الدينية تحفظ حقوق الأقليات ، وخاصة حقوق أهل الذمة النصارى" كما تقول في رسالتك.ولا أوافقك أيضاً "أن اقامة دولة دينية في بلادنا هي الحل لمشاكلنا الاجتماعية والدينية ويمكن أن تخلّص السوريين من هيمنة الحاكم الكافرعلى العرب المسلمين ،" وتسهّل الطريق الى رحاب النعيم لأسباب لا تخفى على الانسان العاقل الفهيم ، بل ان ما ورد في رسالتك لايدغدغ الا مشاعر وعواطف البلهاء الذين ما زالوا يعيشون في قرون ظلمات الجاهلية الصحراوية وهدر حقوق الضعفاء واستعبادهم ، والاستجبان والانبطاح أمام طغيان البغاة المتوحشين الكواسر .
رسالة النبيّ محمَّد رسالة تعاليم دينية
ان رسالة النبي محمد لم يكن غرضها بناء دولة عربية تتحكم برقاب الناس والشعوب ، وتستعبدها وتهيمن عليها ، وتستغل مواردها وتفرض عليها مفاهيمها بالقوة والاجبار،وتستحل دماء ابنائها وتسلبها أرزاقها ، وتخرّب بنيانها وتستبيح كل ما هو محرّم طبيعياً كان أو انسانياً أو الهياً ، بل كان غرض رسالة النبي الكريم نشر التعاليم الروحية الراقية التي تبعث الطمانينة والأمان في نفوس الناس مظلومين وظالمين، فيكف الظالم عن ظلمه اقتناعاً، ويرتاح المظلوم الى واقعه فلا يخاف أن يهدر حقوقه ظالم بعد ترسيخ فعل تلك التعاليم الراقية التي تخرج الجاهليين من جاهليتهم فتستقر حياة الناس على المعروف من القيّم النبيلة ، وتزول جرائم المعتدي عن المعتدى عليه ، ويطمئن المعتدى عليه الى ان القويّ المعتدي انتزع من داخله نزعة الاعتداء عن قناعة واصبح وازعه ضميره عن كل فعلٍ مشينٍ وقبيحٍ وشرير .
نظرة على دعوة النبيّ
ويكفي أن نلقي نظرة ملية واقعية سليمة على دعوة النبي الكريم منذ بداية الدعوة حتى هجرته أو تهجيره وتهجير أصحابه الى المدينة لنكتشف بالبرهان والدليل ، ولنستوعب روح الرسالة وتعاليمها التي ما تطرقت الى شيء سياسي شخصي او جماعي، قبائلي او عشائري طيلة فترة الدعوة في مكة يهدف الى انشاء قوة قهرية لفرض الدين جبراً على أي كان من الناس حتى ولا على الكافرين والملحدين وعبدة الاصنام والاوثان ، بل كانت الرسالة روحية دينيةً مناقبيةً أخلاقية الى أبعد حدود الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر .
معروفُها تآلف قلوب الناس وتحاببهم وتآزرهم فيما بينهم على البر والتقوى تماماً كالرسالة المسيحة التي جاءت هي بدورها لتنشر المحبة والسلام في القلوب ونزع الأحقاد والكراهيات منها .
ومنكرُها هو بث الفتن بين الناس عامة ، وارتكاب الفواحش والمساويء والشرور من أجل أن يعيش الناس فقيرهم وغنيهم، ضعيفهم وقويهم ومعسرهم وموسرهم بإلفة وتعاون وسلام وطمأنينة.
هذا هو العهد المكي الديني الروحي من الرسالة الاسلامية التي أعلن بكل وضوح أن الرسول جاء مبشّراً وليس مسيطراً بل قال للكافرين من الأعراب : " لكم دينكم وليَ دين " .
الطغاة الفاسدون حاربوا كل فكرٍ راقي
ولكن على الرغم من هذه الروحية العالية التي تعطرت بها وتألقت رسالة النبي محمد التي تقول"لا اكراه في الدين...قد تبين الرشد من الغي ، فمن شاء شكر ومن شاء كفر ... وما جاء الرسول الا رحمة للعالمين ... ومن قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً... ولكم دينكم وليَ دين... ولكل أجلٍ كتاب ... ولكل أمةٍ رسول .... ويا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم قبائل وشعوباً لتعارفوا ، ان أكرمكم عند الله أتقاكم..ولا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها... " ، فان المتجبرين المتغطرسين ظلموا كل من تقرب من هذه الافكار والتعاليم العظيمة وشددوا اضطهاد الضعفاء والمساكين ،وأهانوهم وعذّبوهم وأساؤوا اليهم وهددوهم مراراً بالقتل مما اجبر النبيّ محمد على ارسالهم ان لم نقل تهريبهم الى بلاد الحبشة قائلاً لهم :"هناك ملك نصراني عادل لايُظلمُ عنده أحد". وبهذا التدبير أنقذ تلك الشلة من المؤمنين القلائل من القتل الذين يقال أن عددهم كان 16 امرأة ورجلاً.
لم يستسلم النبي للطغيان والطغاة
وعلى الرغم من كل تصرفات الطغاة المستبدين الظالمين السيئة والشريرة استمر الرسول في دعوته بكل وسائل وأساليب اللطافة والاقناع والمحبة والكلمة الطيبة والمجادلة الحسنة من اجل خير الناس وتخليصهم من روحية الأحقاد والحميّة الجاهلية التي مزقتهم فرقاء وافخاذا وعصابات تنهب بعضها بعضاً، وتقتلا بعضها بعضا، وتدمر بعضها بعضاً .
هذا ما حصل طوال الفترة المكية الروحيه ولم يتمكن النبي من جمع أكثر من ثلاثة وثمانين شخصا نساء ورجالا اقتنعو وآمنو برسالته وكانوا في كل لحظة عرضة للقتل والابادة، وقد كاد طغاة قريش أن يفتكوا بهم ويبيدوهم عن بكرة أبيهم بما فيهم النبي الكريم محمد.
هاجر النبيّ مضطراً وليس حباً بالهجرة
ولولا اكتشاف النبي ومعرفته بخطتهم التي تقضي بأن تضيع دماءه بين قبائل العرب ، واحساسه بخطر القضاء على الدعوة الرحيمة لما هاجر الى المدينة وبقي حتى آخر عمره يبشر بتعاليم الرحمة والمودة والأخوة والانسانية الحضارية الراقية في مكة .
ولأن هجرته الى المدينة لم تكن هجرة الى بلد طغاة وظالمين بل الى بلد محبة ورحمة حيث يوجد الانصار الذين هم نصارى مؤمنون بتعاليم السيد المسيح الذي لم تكن رسالة النبي الا من نفس المصدر الذي كانت منه رسالة السيد المسيح .
الأنصار هم نصارى
والانصار ليست سوى الكلمة العربية لكلمة النصارى السريانية الآرامية السورية. ألم يرد في القرآن الجليل على لسان السيد السيح : " قال المسيح بن مريم من هم أنصار الله اليَّ ؟ قالوا نحن أنصار الله اليك "فالانصارالذين آخاهم النبي مع المهاجرين هم انفسهم النصارى. والنصارى هم الأنصار الذين آخوا وشاركوا المهاجرين القادمين مع النبي لقمة العيش والمسكن والرزق والأموال والفرح والحزن وكل احتياجات ومستلزمات الحياة الانسانية الكريمة .
ومن هو النبي محمّد؟ ألم يكن اسم والده عبد الله ، وجدّه عبد المطلب واسمه محمّد بن عبد الله ؟
ومن أين أتت أسماء عبد الله، وعبد الرحيم، وعبد الكريم، وعبد الحليم، وعبد اللطيف، وعبد الواحد، وعبد الأحد الى آخر هذه السلسة من الأسماء ... ؟
ومن هم الذين كانوا أوائل الذين اعتمدوا هذه الأسماء واطلقوها على أبنائهم ؟ أليسوا النصارى أنصار السيد المسيح ؟
عبادة الله تمجيد حر وليس استعباد
وكلمة العبد هنا ليست بمعنى عبودية الاكراه والظلم والاستعباد بل بمعنى ومحتوى عبودية العبادة التي تعني الامتنان والشكر والحمد والتمجيد . وأهم من وضَّح هذه العبادة أو التمجيد هو الامام علي بن أبي طالب في قوله مخاطبا إله العالمين :"ما عبدتكَ أي ما مجدّتكَ طمعاً بجنتكَ،ولا خوفاً من ناركَ،ولكني وجدتكَ أهلاً للعبادة فعبدتك". وهذا هو أعظم معنى للعبادة والتمجيد لأنه نابع من الذات الواعية المقتنعة عن وعيّ وفهم ، والمؤمنة عن عقل ومعرفة ، والمتخذة قرارها بعبادة الله عن ارادة حرة غير مُكرهة ومقهورة. وهذا غير العبودة الناتجة عن الاكراه والجبر والقهر . وشتان ما بين عبد عابد عن وعيّ واقتناع ويقين وايمان وبين عبدٍ ذليلٍ مقهورٍ مستعبدٍ مُكره على الخنوع والمهانة والذل .وحاشا أن يُذلَّ اللهُ خلقه الذين خلقهم في أحسن تقويم،ووهبهم أعظم امانة هي العقل المميِّز بين الحق والباطل، وحمَّلهم أمانة عمارة الأرض والصعود بها الى السماء .
وهذا التوضيح الفصيح البليغ الراقي يكشف لنا السر الحقيقي الذي جعل النبي الكريم محمّد يقول في حديثه الشريف : " أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها" وفي حديث آخر " أنا مدينة الحكمة وعليٌّ بابها " وفي اعتقادي أن " مدينة الحكمة " أصح من " مدينة العلم " لأن الحكمة تشمل العلم والخُلُق السامي ، أما العلم فيقتصر على المعرفة فقط . ألم تكن هذه الأسماء هي أسماء نصارى وانصار ؟ وأن النبي محمّد من أصول هذه الأنصار ؟ أليس أجداد محمد هم من النصارى الذين هاجروا من بلاد الشام أثناء السيطرة الرومانية على البلاد السورية في منطقة الشام والرافدين الى مكة هرباً من مظالم الرومان ؟
أصل النبيّ محمَّد
واذا عدنا الى الماضي البعيد والأبعد أليس النبي يعود في أصوله الى العدنانيين، والعدنانيون من الكنعانيين ، والكنعانيون هم سوريون من سورية بلاد الشام والرافدين بلاد العبقرية والحضارة ؟
فهجرة النبي الى المدينة لم تكن الا عودة الى الأصل والإصالة الحضارية الراقية . عودة الى أهله نسباً وثقافة روحية ومعرفية وفضائلية وايمانية بإلـهٍ واحدٍ أحدٍ فردٍ صمدٍ عليمٍ قديرعلى كل شيء تكشف في الماضي البعيد للعقل الحضاري السوري الذي أطلق عليه اسم " ألله " منذ آلاف السنين بحيث أن كلمة " الله" تعني الخالق الواحد الأحد الذي هو على كل شيءٍ قدير،والتي هي كلمة سورية قديمة . كلمة مفردة مستحيل جمعها ولا تجمع فيقال " اللَّهات " ، بل دائما يقال " الله ". واحد أحد ولا الـه الا هو رب العالمين .
فما هو العهد الذي كتبه النبي الكريم على نفسه عندما وصل الى المدينة ؟ وماذا نجد فيه ؟ أليس من الحسن التذكير به لكي لا تبقى الأمور غير واضحة للكثيرين وخصوصا هذه الفقرات المهمة من العهد الذي كتبه الرسول للنصارى ؟ :
" عهد رسول الله للنصارى"
بسم الله الرحمن الرحيم
"هذا كتاب، كتبه محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، رسول الله الى الناس كافة، بشيرا ونذيرا ومؤتمناً على وديعة الله في خلقه ولئلا يكون للناس حجة بعد الرسل والبيان، وكان عزيزا حكيما. للسيد ابن الحارث بن كعب، ولاهل ملته ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الارض وغربها قريبها وبعيدها فصيحها وأعجمها، معروفها ومجهولها، كتاباً لهم عهدا مرعيا، وسجلا منشورا، سنةً منه وعدلاً وذمة محفوظة، من رعاها كان بالاسلام متمسكا ولما فيه من الخير مستأهلا، ومن ضيّعها ونكث العهد الذي فيها وخالفها الى غيره وتعدى فيه ما أمرت، كان لعهد الله ناكثاُ ولميثاقه ناقضا وبذمته مستهينا وللعنته مستوجبا، سلطانا كان أو غيره، باعطاء العهد على نفسي بما أعطيهم عهد الله وميثاقه وذمة انبيائه وأصفيائه وأوليائه من المؤمنين والمسلمين في الاولين والاخرين، ذمتي وميثاقي وأشد ما أخذ الله على بنى اسرائيل من حق الطاعة وايثار الفريضة، والوفاء بعهد الله، ان احفظ أقاصيهم في ثغوري، بخيلي ورجلي وسلاحي وقوتي وأتباعي من المسلمين
وثيقة العهد
الوثيقة مستخرجة من دير كنيسة جبل سيناء وهي عبارة عن رسالة من رسول الله محمد "ص" بتاريخ ٦٢٠ م إلى الكنيسة حمّلها رسوله علي ابن أبي طالب " ع " ويتعهد فيها بحماية المسلمين للمسيحيين ورعايتهم وضمان حرية العبادة والدعوة الى دينهم.في كل ناحية من نواحي العدوً، بعيدا كان أو قريبا، سلما كان أو حربا، وأن أحمي جانبهم وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السيُاح حيث كانوا من جبل أو واد أو مغار أو عمران أو سهل أو رمل، وأن احرس دينهم وملتهم أين كانوا من بر أوبحر، شرقا وغربا بما أحفظ نفسي وخاصتي، وأهل الاسلام من ملتي...
ولايجبر أحد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الاسلام، ولاتجادلوا (أهل الكتاب) الا بالتي هي أحسن ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين كانوا من البلاد."
وقال ايضاً في العهد نفسه : " لآني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام، والذب عن الحرمة، واستوجبوا أن يذب عنهم كل مكروه، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم، وفيما عليهم. ولايحملوا من النكاح شططاً، ولا يكره أهل البنت على تزويج المسلمين، ولايضاروا في ذلك ان منعوا خاطبا وأبوا تزويجا، لأن ذلك لايكون الا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، ان أحبوه ورضوا به. اذا صارت النصرانية عند المسلم، فعليه أن يرضى بنصرانيتها، ويتبع هواها في الاقتداء برؤسائها، والاخذ بمعالم دينها ولايمنعها ذلك، فمن خالف ذلك وأكرهها على شئ من أمر دينها، فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسوله وهو عند الله من الكاذبين."
رسالة الاسلام الروحية
هذه هي الرسالة التي أتى بها النبي ، وهذا هو الاسلام المحمدي الذي أوضحه النبي الكريم بكلمات قلائل عندما سئل عن حقيقة اسلام المسلم فأجاب : " المسلم من سلم الناس من يده ولسانه " لم يقل من سلم المسلمون من يده ولسانه بل قال من سلم جميع الناس في جميع المجتمعات والأمم في كل الأجيال والأزمنة شاملاً المؤمنين والكافرين وجميع بني البشر "
فلنقرأ ما قاله النبيّ محمَّد في الأنصار : " الأنصارُ كرشي وعيبتي ، لو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار شعباً، لسلكتُ شعب الأنصار"
فما هو السر الذي جعل النبيّ محمّد يترك الناس جميعاً ويميل الى الأنصار ويسلك طريقهم وهو الصادق الأمين العادل الذي ما انحاز الى باطلٍ أبداً طوال حياته ؟
أليس لأن الأنصار صدَّقوه في دعوته حين كذَّبه أهل قريش ؟ ونصروه حين خذله الآخرون ؟ وآووه عندما طرده الغير ؟ وأحاطوه بالأمان في الوقت الذي تآمر عليه الآخرون ؟ وآسوه يوم جاءهم عائلا ؟
ومن هم الأنصار في الحقيقة غير أنصار السيد المسيح الذين ورد ذكرهم في القرآن الجليل ؟ ومن هم أنصار السيد المسيح غير النصارى الذين كرَّمتهم الآية القرآنية التي تقول : " وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ " ؟
الهجرة الى المدينة
هجرة المؤمنين الأولى بتعاليم النبي محمَّد كانت الى بلاد الحبشة حيث يحكم فيها ملك نصراني عادل . أما النبيّ فقد بقيَ في مكة لعل وعسى ان يهتدي بتعاليمه أناس آخرون ليكونوا خميرةً صالحة لنشر الدعوة الجديدة ، ولكن بعد أن مرَّ الزمن الكافي وتأكد للنبيّ محمّد أن سادة قريش الأعراب الظالمين الطغاة المستبدين المستكبرين ليسوا فقط صم بكم عميّ وهم لايفقهون ، بل هم مجرمون متوحشون ولن يرتدعوا عن ابادة كل من اقتنع برسالة النبيّ وآمن بها وسيستمر عليها وينشرها في اسرته ومحيط أسرته ، وبعد أن تيقن أن لا فائدة بعد اليوم من البقاء في هذه البيئة الاجتماعية الفاسدة التي تئد الأنثي ، وتعيش على الغزو والسلب والنهب وقتل رجال القبائل الأخرى الضعيفة وامتلاك نسائها وأموالها ، وبعد أن أوحيَّ اليه ان طغاة قريش اتخذوا قراراً نهائياً للقضاء على الرسالة بقتله والقضاء عليه ليتفرفط بعد ذلك أتباعه ويعودوا الى طاعة الأسياد صاغرين او الى المقابر مقتولين ،فقد قرر النبيّ هذه المرة أن يكون واحداً من المهاجرين أو المهجَّرين الى بيئة اجتماعية أخرى أصلح توسم في بعض أبنائها الذين التقى بهم ومعهم سابقاً الوعيّ الذي يمكّنهم من الاستيعاب والفهم وكان هؤلاء من نصارى المدينة الذين سميّوا بالانصار ، فاتفق معهم وتأكد من صدقهم وكانوا بالفعل صادقين. وكيف لا يكونون صادقين وهم من الذين آمنوا برسالة السيد المسيح وتعاليمه الطافحة بالمحبة والمودة وعملوا بها عن رضى واقتناع ؟!
خرج النبي في تلك الليلة التي قرروا فيها قتله مع صاحبه أبو بكر الصدِّيق وترك الفتى عليّ بن أبي طالب مكانه ليؤدي بعض الامانات التي كان مؤتمناً عليها ، فصدق الوحيّ في تلك الليلة ودخل رجال القبائل وهم أربعون نفراً يمثلّلون القبائل العربية ليقتلوه وتضيع دماءه بين قبائل العرب وتنتهي رسالته واتباعه مرةً واحدة والى الأبد .
صرخوا في النائم بصوت واحد : قم يا محمد ، وأرنا ما يستطيعه ربّك في الدفاع عنك وعن دينك الذي أتيتنا به.
وكانت المفاجأة أن النائم ليس محمَّد بل هو الفتى علي . جنَّ جنونهم وهاجوا وماجوا وتفرقوا في جميع الاتجاهات يبحثون عن محمّد لقتله وقتل من معه . أخيراً وصل النبيّ الى المدينة واستقبل استقبالاً يليق بالأنبياء من قبل الأنصار الذين نزل بينهم عزيزاً مرحباً به هادياً مؤكداً أن ما أتى به من التعاليم هو من المصدر نفسه الذي أتى به رسول المحبة يسوع الناصري ، فبنى مسجداً قبلته بيت المقدس في سورية بلاد الشام والرافدين . بلاد العبقرية والنبوغ التي خرج فيها الانسان الأول من حالة اللاوعيّ الى حالة الوعيّ والمعرفة .
الطغاة يستمرون في عدوانيتهم
لم يترك مجرمو قريش النبيّ محمد يعيش بسلام في البيئة الجديدة ، بل راحو يؤلبون عليه قبائل العرب في كل أنحاء شبه الجزيرة ، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يحرضون قيادات أكبر امبراطوريتين في ذلك الزمن : امبراطورية روما وامبراطورية فارس من أجل أن يقضوا على الرسالة الجديدة قبل أن يشتد عودها، وتصبح مواجهتها عقيمة. واشتدت المؤامرات في الخارج ، وبدأ الخونة والجواسيس يعملون في داخل المدينة ، وتلبدت غيوم الاجرام والعدوان في وجه النبي من جديد واسترجع ذكريات آبائه وأجداده وأجداد أجداده الذين هُجِّروا من ديارهم بلاد الشام والرافدين الى مكة وكانت هجَّرتهم بسبب مظالم الأمبراطورية الرومانية .
حماية الرسالة الروحية اقتضت بتأسيس الدولة
وكان لا بد للنبيّ محمَّد من اتخاذ موقف جديد ينقذ الرسالة الروحية والتعاليم الجديدة الراقية من الحصار الكبير الذي بدأ يُضرب عليه وعلى المقتنعين المؤمنين بدعوته. حصارعدوات الأعراب والرومان والفرس من الخارج والجواسيس والخونة من اليهود المتواجدين في داخل المدينة . فرأى النبيّ كما ورد في كتاب نشوء الأمم للعالم الاجتماعي أنطون سعاده في الصفحة 125 :" أنه لا بد من التوفيق بين رسالته الروحية العامة وامكانيات البيئة. فأخذت سور القرآن المدنية تقلل من التعليم الروحي الذي اتصفت به سوره المكية وتكثر من الاحكام الشرعية والحدود ، وأخذت جماعة المسلمين المحمديين تصير قوة غايتها اخضاع الكفّار لدين الله وأحكامه المنزلة علي النبي ، بعد أن كانت في بدئها جماعة روحية تجتمع لممارسة التفاهم الروحي بواسطة الإيمان الجديد . وهكذا نرى بداءة تكون الدولة الدينية التي أصبحت الدولة العامة للقبائل العربية ".
وكما حصل للسيد المسيح عندما دخل بيت العبادة ووجد فيه الصيارفة والمرابين والمرائين الغشاشين يحوّلونه الى بيت للصوص والنهابين، ووجد في ذلك خطراً قاتلاً على تعاليم المحبة والاخاء أخذ السوط وطردهم من هيكل العبادة ، حصل أيضاً للنبي محمد فرفع في وجه الأعداء سوط القوة المنظمة الذي هو جيش الدفاع عن الرسالة الروحية الاخلاقية فأنشأ الدولة التي تقوم على التعليم الروحي ليدفع الخطر عن الرسالة الروحية العامة وينقذها ويدفع الخطرعن الذين يتعاطفون مع الرسالة الروحية ،ويدفع الظلم عن كل ضعيف مظلوم سواء كان مؤمنا بالرسالة الروحية أو غير مؤمن، لأنه ما أعطيَ لأحدٍ أن يُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين أو غير مؤمنين فجاءت الآية القرآنية الحكيمة من سورة الحج لتؤكد " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)" لتحسم وجهة الدولة كوسيلة لحماية الناس وحفظ حقوقهم فكانت الدولة بالنسبة له وسيلة وليس أكثر لنصرة الرسالة وحمايتها من المجرمين واللصوص والقتلة والأعداء، ولم تكن رسالة محمّد الروحية أبداً لنصرة الدولة أوالخلافة أوالملك أوالسلطنة أو أي نظام اماراتي أو ماشابه ذلك من تنظيمات الهيمنة الظالمة .أما الحكم على قناعات الناس وايمانهم فهو متروك لرب العالمين ولا حق لأنسان بالحكم على الناس لا ايماناً ولا تكفيراً ولا جحودا وهو أدرى بقلوب الناس صادقة كانت او كاذبة . فرسالة محمّد الدينية هي رسالة أخلاق وتفاهم وتراحم وليست رسالة جبروت وسطوة على الآخرين .
ألم يقل النبي محمّد:"وما بُعثتُ إلاّ لأتمم مكارم الأخلاق ؟ وهذا يعني أن رسالته كانت ولاتزال وستبقى رسالة أخلاق ومناقب وقيَم وتعاليم راقية تنقذ المؤمنين بها من المفاسد والرذائل والموبقات والفواحش وهمجيات القرون البائدة ، وتتعامل مع من لا يؤمن بها باللطافة التي تستوجبها الأخوة الانسانية . فاذا تخلت عن روحيتها الأخلاقية سقطت وذهبت أدراج الرياح وانتهى أمرها .
وهذه هي رسالة السيِّد المسيح بالذات التي تقول بنشرالمحبة والأخوة وتعميمها بين الناس الى أبد الآبدين ليعيشوا بتفاهمٍ وتحابب واخاء وتعاون وسلام وأمن وأمان .
هذه هي التعاليم الروحية الراقية السامية التي جاءت الآية القرآنية العظيمة لتؤكدها للناس كافة : " اليوم أكملتُ لكم دينكم ، وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الاسلام دينا- سورة المائدة 3" ولم تقل الآية رضيتُ لكم الاسلام دولة تقهرون بها الضعفاء والمساكين في داخل المجتمعات ، وتعتدون على الجماعات الصغيرة الضعيفة وتستعبدونها للمنافع الحقيرة والشهوات المتوحشة .
هذا هو الدين السامي الذي يقوم على تعميم الفضيلة في الداخل بين أبناء المجتمع ، والمحبة الصادقة ، ومكارم الأخلاق ، ويقوم ايضاً بنشر مباديء الاحترام المتبال وارساء عوامل التفاهم والتعاون بين الشعوب فيكون الدين بهذا المعنى الراقي فضلاً عن كونه وسيلة لتشريف الحياة بين الناس يكون وسيلةً ايضاً لتمجيد الخالق العظيم الذي خلق كل شيء وأحسن خلقه، ووهب الانسان عقلاً ليعقل به ويتفكر، ويفقه ويتعظ ويتذكر، ويخطط ويطمح ويتصوّر، ويكتشف ويخترع ويتطور، ويعرف ويفهم ويُبدع ويكافح كل ما يعرقل سير الحياة ويتحرر، ويحيا ويرتقي ويسمو فيمجّد الخالق العظيم لا طمعاً ولاخوفاً، ولا رياءً ولا نفاقاً بل اجلالاً وحباً وشكراً، ويبرهن للله رب العالمين بقيَمه ومناقبه وسموّ اخلاقه وخير أفعاله وحسن تصرفاته وكل مواهبه أن خلق الله مخلوقاته كان عظيما فلا يندم الله على خلقه الانسان ولا يخجل به أمام ذاته.
السيد المسيح والنبيّ محمد لم ينخدعا بالاتباع
ولا يتوهمنَّ أحد أن السيد المسيح خُدِعَ بأتباعه الذين يتبارون رياءً بمحبته ، ولا النبيّ محمّد غُشَّ بمن يتسلحون باسمه ويتاجرون به، بل ان المسيح كشف أتباعه قبل رحيله وصنّفهم مخلصين ومرائين . ومحمد ميّز بينهم وأعلنهم صادقين ومنافقين. فكان غالبية أتباع المسيح مرائين ومعظم أتباع محمد منافقين. ولأنهم كانوا مرائين ومنافقين فقد خانوا المسيح ونكروه في حياته وتركوه ومن ثمّ ادعوا الايمان به بعد رحيله بسيوف امبراطور روما ، وحاربوا محمّد وعذّبوه وطاردوه وآذوا أتباعه في حياته واستثمروا تعاليمه بسيوف دولة الجاهلية المتوحشة بعد موته . وما زال المراؤون والمنافقون هم هم من يتاجرون تجارةً بنشراسم المسيح ويستغلونه لأنانياتهم الشخصية، وينشرون اسم محمَّد ويتاجرون به لمنافعهم الخصوصية ولا يعملون لا بتعاليم السيّد المسيح ولا بتعاليم النبيّ محمّد التي هي تعاليم الحق والعدل لأنهم اعتادوا المرآة والنفاق حتى أصبحوا مثالاً حياً لمن يمارس هذه الآفات اللعينة .
وما أصاب الرسالتين الاسلاميتين اليسوعية والمحمدية فقد أصاب الرسالة الموسوية أيضاً فانقلب المرابون مناتباع موسى عليه وعلى رسالته ولم يبق معه سوى أخيه الذي جَبُنَ أمام طغيان المجموع الذين تقنفذوا وتقوقعوا على وباء بغيهم واستكبارهم وتغطرسهم وأطماعهم وعدم انصهارهم مع الناس حتى هذه الأيام . ولاحل لمشكلتهم التاريخية المزمنة ومشكلة الانسانية معهم بنظرنا الا بحالتين : اما بامتزاجهم الحضاري في حياة المجتمعات التي يعيشون فيها، وإما بالانفصال عن حياة الحضارة وتقوقعهم في محجرٍ صحي مادي نفسي أو في مغارة انقطع الضوء عنها منذ آلاف السنين لا يدخل اليها أحد ، ومن خرج منها متشبثاً بجشعه وبغيه وحقده يصاب بعمى فوق العمى ، وبانعدام البصيرة فوق انعدام البصر .
صحيح أن رسالة الاسلام اخرجت بنورها العرب الجاهليين من الظللمات الى النور ، ومن حمية التوحش الى حضارة التمدن ولكن رسالة الاسلام التي تلقفتها النفسية السورية الراقية أغنت الرسالة بنفسيتها الراقية فارتقت التعاليم وتألقت بنور الحضارة السورية فانتشرت رسالة رحمة الى البشر أجمعين.ولا يخفى أن التعاليم العظيمة بحاجة الى عقول عظيمة تفهمها ونفوس جميلة تجمّلها لا الى عقول متحجّرة تحجّرها ولا الى نفسيات قبيحة تشوّهها وتمسخها، واليوم يعيد الجاهليون مشوهو رسالة الاسلام هجمتهم الهمجية على جمال رسالة الرحمة ليعيدوها ويئدوها ويطمروها بظلمات جاهلية حديثة عصرية متجددة : حداثتها التوحش والهمجية ، وعصرنتها الأحقاد والكراهيات ، وتجدّدها بث الفتن والعداوات. فبئس هذه الحداثة، وبئس هذه العصرنة، وبئس هذا التجديد !
وليعلم العالم كله في جميع أممه وأجيال أممه وكل أزمنته ان سورية الحضارية لن تكون الا حضارية ، ولن تنتج الا مزيداً من الابداع الحضاري فكراً وعلماً وفنوناً ومعارف ومفاهيم تسير بالانسانية من تفوّقٍ الى تفوّقٍ أكبر،ومن رقيٍّ الى أرقى ، ومن سموٍّ الى أسمى لتبقى حداثةُ النهضة السورية القومية الاجتماعية حداثة تألق المعرفة النافعة ، وتستمرُالعصرنة السورية عصرنة التفوّق المجدي ، ويدوم جديد سورية تجدد جودة الحياة الى الأجود لنفسها ولجميع الأمم . وهيهات أن يطرد الظلامَ الا النور،وأن يقضي على الباطلَ الا الحق، وأن ينشرَ الضياءَ الا الضياء ، وأن يفكَّ أسرَ رسالات السماء وتعاليمها من الجاهليين الا من يصعدُ برسالة الحضارة الانسانية من الأرض الى السماء.
|