الخطة السورية القومية الاجتماعية هي الحل لإنهاض العالم العربي ومفهوم العروبة القومية الاجتماعية هو المفهوم الأصح
في مقال للدكتورة بثينة شعبان نشرته الميادين بتاريخ 09/05/2016 جاء فيه : " إن أحداً في عالمنا العربي هذا لم يتوصل بعد الى فكرة استراتيجية وخطة عمل تعمد الى الغاء الواقع الذي أوصل العرب كلهم الى هذا الحضيض، وتضع الرؤى والتصورات التي يمكن أن تنقذهم منه، وتضع خريطة مستقبل مختلف وناجع لهم جميعاً . كي يحدث ذلك لا بد من الايمان بفكرة أساسية بسيطة وسليمة وهي أن العروبة هي الحل . "
وشبّهت وضع العالم العربي اليوم بوضع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي فقالت :" علّ وضع عالمنا العربي يشبه وضع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينات حين انهار كل شيء ، وعلّنا نحتاج اليوم الى ذات التفكير الاستراتيجي الذي وجّه خطوات الرئيس فلاديمير بوتين ...."
وفي المقال اقترحت الدكتورة بثينة شعباً حلاً لانقاذ العالم العربي و"الوطن العربي" فقالت: "كي ننقذ "الوطن العربي" لا بد لنا من أن نعلن رسمياً وفاة سايكس بيكو وأن نتحرر تماماً من قيود فرضها الطامعون المحتلون والمعتدون وأن نبدأ المبادرات المستقبلية "الهيئة التأسيسية لجاليات الاغتراب في بلاد الشام مع اني أتمنى أن تكون في " الوطن العربي" .
وقرأت رداً جاء من كندا على مقال الدكتورة بثينة شعبان للباحث في شؤون المشرق والخبير في الادارة الاسترتيجية الدكتور أسامة عجاج المهتار نُشر على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية بتاريخ 26/05/2016 تحت عنوان :" صانع الأزمة ..صانع الحل". وفي رد الدكتور أسامة عجاج المهتار وافق الدكتورة بثينة شعبان في جزء ولم يوافقها في جزء آخر. وافقها في قولها :"ومن المعروف أن صانعي الأزمة لا يمكن أن يكونوا هم أنفسهم من يجد حلاً لها مهما كانت مواصفاتهم... ". ولم يوافقها في قولها :" إنّ أحداً في عالمنا العربي هذا لم يتوصل بعد إلى فكرة استراتيجية وخطة عمل تعمد إلى إلغاء الواقع الذي أوصل العرب كلهم إلى هذا الحضيض" ولم يوافق على قولها: " كي يحدث ذلك لا بدّ من الإيمان أولاً بفكرة أساسية بسيطة وسليمة وهي أن العروبة هي الحلّ."بل ناقش فكرتها وقسمها الى شقين : الشق الأول انتفاء أية خطة استراتيجية وخطة عمل الى الغاء الواقع الحالي ، والشق الثاني هو أن " العروبة هي الحل ". فبما يتعلق بالشق الأول اعتبر انه غير صحيح القول بعدم وجود خطة قائلاً:"إن الشق الأول من عبارة الدكتورة شعبان غير صحيح ولا ينطبق على الواقع إطلاقاً. فحزب البعث العربي الاشتراكي كان لديه خطة استراتيجية لا بد وأن الدكتورة شعبان على دراية بها تقوم على نظرة أساسية قوامها أن العالم العربي أمة واحدة من المحيط إلى الخليج، وأن هذه الأمة عليها واجب الوحدة انطلاقاً من شعار حزب البعث"وحدة حرية اشتراكية"، أو رؤيته العامة "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ". وبالنسبة الى نفيها بالمطلق لأية خطة قال ان هناك نظرة وخطة وضعهما مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي العالم الاجتماعي انطون سعاده تقوم على اساس"طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود، في عالم أجمل، وقيم أعلى" كما ورد في كتابه ( الصراع الفكري في الأدب السوري)، واستغرب الدكتور المهتار نفي الخطة بالمطلق موضحاً خطة انطون سعاده الواقعية العلمية الاجتماعية لسورية والعالم العربي والعروبة.
اما بالنسبة لموضوع " العروبة هي الحل"، فقد اعتبر انه لا يوجد تعريف موّحد للعروبة في العالم العربي .
وانطلاقا من هذه النقطة أود أن تكون دراستي هذه عن مفهوم العروبة في أساسها والعروبة السورية القومية الاجتماعية على وجه التخصيص التي انبثقت واستندت الى نظرة العالم الاجتماعي أنطون سعاده فأقول لم تتعرض قضية من القضايا في بلادنا ولا تزال تتعرض للمجادلات والمماحكات والمناقشات والاشكالات والاجتهادات كما تعرضت وتتعرض له " مسألة العروبة والقضية العربية" .
تعدد مفاهيم العروبة
ولذلك تعددت وجهات النظر بتعدد الناظرين والمتناظرين، وكثرت الاجتهادات بكثرة المجتهدين ،وتضاربت مفاهيم العروبة وتناقضت بحسب تعدد دعاتها ومعارضيها ، وأعدائها والمدافعين عنها وكذلك المتاجرين بها، وتنوعت الشروح والتفاسير والتأويلات والتعليقات بحسب المستويات الثقافية ودرجاتها ووفقاً للمذاهب العلمية والدينية والأدبية، وبحسب المتصدين لموضوع العروبة ، ودرجات علومهم، ومستويات وعيهم،وتنوع اتجاهاتهم،ومضمرات نواياهم،والأغراض التي يرمون اليها ، والرغبات التي يسعون الى تحقيقها.
فمنهم من هو مخلص في نواياه ، ومنهم من هو انتهازي أناني ينادي بالعروبة لأهداف شخصية أنانية ، ومنهم من نادى بها لتنفيذ ارادات اجنبية استعمارية ، ومنهم من صبغها بألوان هي في الحقيقة نزعات دينية فئوية مذهبية أو عنصرية أو عرقية أو اتنية أو وهمية ، ومنهم من نظر اليها بشكل واقعي أو شبه واقعي أو نصف واقعي أو على شي كثير أو قليل من الواقعية .
لكل ما تقدم لا نرى من حقنا الادعاء في هذه الدراسة أننا وحدنا نملك الحقيقة المطلقة ، ومفهومنا هو المفهوم الذي لا يقبل نقاشاً ولا جدالاً ، وهو وحده القول الفصل الذي بلغ درجة التقديس ولا يحتمل ان يكون بعده قول . لكننا نعتقد واثقين أن مفهومنا الواقعي العلمي للعروبة هو حتى الآن المفهوم الواقعي العقلي المنطقي الأصلح والأصوب والأنفع لنهوض العالم العربي وانقاذ المجتمعات العربية من الويل الذي أصابهم ، واستمراره سيؤدي الى المزيد من الشقاء عليهم .
العرب لفظاً كما ورد في قاموس اللغة
ورد في المنجد معاني عديدة لكلمة عرب منها :
عَرَبَ : يعني فرز . صنَّفَ . حلَّلَ .
عَرَب وعُرْب : سكان بلاد شبه الجزيرة العربية .
عرب عرباء : عربي صافي العرق .
عرب متعربة ومستعربة : يعني تجنّس عربياً وعاش في بلاد العرب. يوجد اذن نوعان من العرب : عرب عرباء وعرب مستعربة .
عربي : بمعنى إعرابي وبدوي .
عرَّب النص : نقله الى العربية . صيّر النص لفظاً عربياً .
عرَّب عن حاجة : عبَّر عن حاجة . أفصح عنها .
عرَّب الجملة : حلَّل الجملة وفصَّلها نحوياً.
إعراب : تعريب . تعبير . تحليل . إعراب الكلام في علم الصرف والنحو. علم تركيب الكلام وتحليله .
العرب : سكان شبه الجزيرة شرقي البحر الأحمر وهم خلاف العجم والمراد بالعجم هنا كل من ليس من العرب كالفرس والترك والافرنج أو الفرنجة وكل من لا يُفهم كلامه عند العرب.
تعرَّب : أقام في البادية. تخلَّق بأخلاق العرب . تشبَّه بهم .
العربية : مؤنث العربي . وهي أيضاً اللسان العربي أو اللغة العربية وما نطق به وفهمه سكان شبه جزيرة العرب .
الأعرابي : البدوي الجاهل الذي لا يحسن القراءة والكتابة .
الأعرابية : حالة البداوة والعيش في حالة عدم استقرار بدون عمران.
الأعراب : الأفظاظ الغشماء الغشّاشون " الأعراب أشد كفراً ونفاقاً" كما ورد في القرآن الكريم
العربية : لسان. نطق . كلام واضح مفهوم . واستناداً الى حديث الرسول :" العربية لسانٌ وليست جنس" وقد جاءت الآية القرآنية لتؤكد على معنى الوضوح والفصاحة " إنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " أي أظهرناه بوسيلة سهلة على الفهم والتفقه واضحة . تعريب : ترجمة الى العربية . معرَّب : مترجم .
عرَّب المنطق : هذَبه من اللحن .
عربة : مركبة . عربة : نهر شديد الجريّ .
عرّاب : كفيل المعتمد أو المعمّد في المعمودية .
عَرِبَ او عربأ : فسدت معدته .تورَّم وتقيَّح .
عرَّب عليه قوله : ردَّه عليه ، وقبَّحه عليه .
العروبيّة والعِراب : الكرائم من الخيل والإبل
عرَّب مقدماً : أعطى عربونا أي عربن أعطى العربون.
العرب كما وصفهم ابن خلدون
ننتقل الآن من قاموس اللغة الى علم الاجتماع لمعرفة مرتبة العرب في سلّم التطور الاجتماعي كما شرح العالم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة حيث قسّم مراتب التطور الاجتماعي الى مرتبتين : الأولى مرتبة البدو، والثانية مرتبة الحضر.ويُعرِّف البدو بأنهم :"المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الانعام ، وانهم مقصِّرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأموال والعوائد، والمقصِّرون عما فوق ذلك من حاجيّ أو كماليّ ".
ثم قسّمهم الى أقسام كما ورد في مقدمته فقال:" فمن كان معاشه منهم من الزراعة،والقيام بالفلح هم سكان المدائن والقرى والجبال.ومن كان معاشه في السائمة مثل الغنم والبقر يسمونه شاوية ، وأما من كان معاشهم من الإبل فهم أكثر ظعناً ، وأبعد في القفر مجالاً فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم وهؤلاء هم العرب ".
ويقول ابن خلدون أيضاً في الفصل السابع والعشرين من مقدمته : " إن العرب لخلق التوحّش فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمّة والمنافسة في الرئاسة ، ولا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة ". وفي الفصل الواحد والعشرين من مقدمة ابن خلدون من الكتاب الأول نجد هذا المقطع : " إن العرب أبعد الناس عن الصنائع لأنهم أعرق في البدو ، وأبعد عن العمران الحضري " .
العرب كما وصفهم ابن أبي الحديد
وقال ابن أبي الحديد ما خلاصته :" ذكر العلماء ان النبيّ عليه السلام بُعث والناس أصناف شتى في أديانهم يهود ونصارى ومجوس وصائبون (صابئة) وعبدة أصنام وفلاسفة وزنادقة . فأما الأمة التي بُعِث فيها محمد فهم العرب وكانوا أصنافاً شتى، فمنهم معطلة ومنهم غير معطلة . فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق والبعث والإعادة وقالوا ما قال القرآن عنهم"ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر" فجعلوا الجامع لهم الطبع والدهر.وهم الذين أخبر عنهم القرآن بقوله:" قال من يُحيّ العظام وهي رميم ؟". ومنهم من أقر بالخالق ونوع من الإعادة ، وأنكر الرسل وعبدوا الأصنام وزعموا أنها شفعاء عند الله وحجّوا لها ونحروا لها الهدي ، وقرّبوا لها القرابين، وحلّلوا وحرّموا وهم جمهور العرب. وكان من العرب من يعتقد التناسخ وانتقال الأرواح في الأجسام وهؤلاء أصحاب الهامة ".
العرب كما وصفهم الامام علي بن أبي طالب
أما الامام علي بن ابي طالب فانه قال:" ان الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلـّم وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ً ولا يـدّعي نبوة، فساق الناس حتى بـوّأهم محلتهم، وبلغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم واطمأنت صفاتهم ... الى أن يقول:" مالي ولقريش . والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين ."
الحديث الشريف عن النبي محمد(ص)
يحسن بنا أن نُذكِّر بحديث النبي البليغ محمداً (ص) الذي هو باجماع الجميع أقدر وأفصح وأبلغ من نطق بالعربية قوله الشهير:"ان العربية لـيسـت بأب ٍ والـد ولكنها لسـانٌ نـاطـق . " وفي حديث آخر قال : " العـربـيـة لسـانٌ وليست جنس ."وحتى لا تختلط الأمور، وتلتبس المفاهيم فيفسّر الاسلام بالعروبة وتُفسَّر العروبة بالاسلام فقد قال رسول الرحمة قوله الحكيم"لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى. أنا جـدّ كل تقيّ ولو كان عبداً حبشيا ،وبريءٌ من كل شقيّ ولو كان حرا ً قرشيا ً."
القرآن الكريم
وحين ورد في القرآن الكريم الآية " كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" فالمعنى الحقيقي لهذه الآية أن الخيرية والأفضلية في الأمة تكون بعمل المعروف، وبالنهيّ عن المنكر والبغي ،وفي استمرار ممارسة الفضائل واستمرار محاربة المفاسد. فاذا انقلبت الآية من آية حكمة ورحمة الى آية غواية ونقمة ، فأمرت الأمة بالمنكر ومارسته،ونهت عن عمل بالمعروف وحاربته، وتمسكت بعادات وتقاليد الجاهلية ، وكرَّست مفاسد الخلال فانها بلا شك تصبح أفسد وأشر الأمم . والمقصود"بخيرأمة أخرجت للناس" ليس بالأمة التي تقوم على رابطة دم ولا عرق ولا اتنية ولا سلالة عنصرية ولا ثقافة تضليلية فتنوية ولا تعاليم تكفيرية استعلائية بل المقصود هو ما تعبِّر عنه الأمة من نفسية جميلة ، وعقلية راقية ، ومفاهيم سنن بديعة نافعة للناس، وممارسة اخلاقية كريمة ، وقيَم خيِّرة في العلاقات الداخلية بين أبنائها وفي علاقاتها الودية مع غيرها من الأمم .
استقامة العرب كانت آنية
نحن لا نشك أبداً بما قاله الامام علي بن أبي طالب الذي هو:" أن النبيّ محمد ساق العرب حتى بـوّأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم فاستقامت قناتهم واطمأنت صفاتهم "، لكننا نقول ان استقامة قناة العرب حصلت فقط في عهد الرسول عليه السلام،ولم تتعد ذلك العهد. لقد بلغ العرب قمة الاستقامة والصلاح بهداية النبيّ وقيادته الروحية الفكرية النفسية الأخلاقية البديعة التي قامت على أساس مخاطبة الناس على قدر عقولهم ، ورفع مستواهم الى انبل وأحسن درجات الأخلاق الكريمة. وأبلغ دليل على لطافة ورفعة رسالة النبيّ وسنته هذه الآية:"ادع الى سبيل ربك بالحكمة،والموعظة الحسنة،وجادلهم بالتي هي أحسن ". ولكن تلك القناة العربية المستقيمة عادت والتوت مباشرة بعد وفاة الرسول حين رفع المهاجرون سيوفهم في وجه الأنصار، ولا يزال التواؤها يكبر يوما بعد يوم حتى أيامنا هذه مما جعل الامام علي في ذلك الزمن يقول بصراحة ودون تردد:" مالي ولقريش. والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنهم مفتونين."
لقد بلغ العرب تحت قيادة النبيّ وهدايته درجة احتلال مكانة الأمة الخيِّرة التي وصفها القرآن بأنها " خير أمة أخرجت للناس"وهذه هي النهضة الحقيقية العظيمة التي استطاع الرسول ان يحققها في بيئة العرب فينقلهم من ظلمات الجاهلية والبداوة الى نور الحضارة والمدنية لتنشأ بهذا الخروج العروبة الثقافية الراقية التعبيرية التي تعبّرعن المستوى الرفيع الذي بلغه الرسول محمد في اتمام مكارم الأخلاق حتى استحق من ربه ان يقول له:" انك لعلى خُلُقٍ عظيم ". النبي كان قدوة وقيادة للعرب فقد رفع العروبة الى المكان الأرفع وأدى ذلك الى ولادة العروبة الحضارية الراقية فتلقفتها الأمة السورية وتبنتها بحبٍ وعشق لأنها تناغمت مع النفسية السورية الراقية التي ثبّت ووطد السيد المسيح دعائمها الحضارية بتعاليمه الروحية السامية في البيئة الممتازة التي ظهر فيها " الشعاع الأول للشرائع التي يسير عليها البشر ، وأخذ يمتد من هناك الى العالم حيث أخذه المفكرون مثالاً نسجوا عليه وأضافوا اليه ما قضت الحال به ، ولا يزال ذلك الى عصرنا هذا " كما قال العالم الاجتماعي أنطون سعاده ، وأتى بعده عالم الآثار الفرنسي أندره بارو مدير متحف اللوفر ليقول "ان لكل انسانٍ متحضرفي هذا العالم وطنان: وطنه الأم وسورية ". وكذلك تبناهها مجتمع وادي النيل الحضاري الذي اعطى العالم ارثاً حضاريا بارزاً وباعتناق مجتمع وادي النيل لعربية النبي اوعروبته وصلت الى مجتمع المغرب العربي الكبير .
ان رسالة الرسول المتحدر من الجذور الحضارية الكنعانية السورية لم تكن غريبة ومناقضة ومعادية لرسالات الرقيّ الفكري الحضاري العلمي الفلسفي الفني العملي التي ظهرت في بيئة الهلال السوري الخصيب الشامل لبلاد الشام والرافدين.فأبناء الحضارة يعشقون الحضارة ولا يرفضونها من أي جهة أتت بل هم يسعون اليها سعياً بكل امكاناتهم وجهودهم ومواهبهم حتى ولو كانت في أعماق الأرض أو فوق طبقات السماء أو في غياهب الغيوب. والرسول الذي استلهم رسالته التي أوحيَ بها اليه ممن لا يحده عقل بشر لم يمتنع مطلقاً عن قبول أي شيء جميل مما توصل اليه البشر، بل حثَّ وشجّع تلامذته والمؤمنين بدعوته أن يجاهدوا بكل امكانياتهم للوصول الى كل ما هو مفيد للناس حتى ولو كان في أقاصي الأرض أو كان في بلاد لا تؤمن بوحدانية الخالق ولا بالسنن التي دعا اليها النبي وحتى لو كان حكامها كافرون ، فأمرَ بالقراءة التي تعني قراءة ما كان مكتوباً ومدوناً من خواطر وأفكار وقصص وأمثال ومعارف وعلوم قبل ظهور دعوته. ألم يطلب من المقبلين والمؤمنين بدعوته أن يطلبوا"العلم من المهد الى اللحد. وان يسعوا الى العلم ولو في الصين " وهي البلاد البعيدة عن قومه ؟ أليس مفهوم هذه النهضة التي أرادها النبي لقومه وللعالمين هي نفسها التي أرادها السيد المسيح لأبناء أمته ولجميع بني البشر ؟ وهذا ما أشار اليه أديبنا الكبير جبران خليل جبران في قوله : " كان يسوع الناصري نهضة من ليس لهم نهضة ولا وطن ، ويسوع الناصري لم يزل ناهضاً. وكان محمد نهضة العرب، ومحمد لم يزل ناهضاً ".فأين هم أتباع يسوع اليوم من نهضة يسوع ؟ وأين أتباع محمد هذه الأيام من نهضة محمد وعروبة محمد؟ هكذا كانت عروبة محمد نهضة ولأنها كانت عروبة محمد نهضة فقد أخذتها أمتنا وصرنا بهذا المعنى عرباً.وكيف لا يقبل السوريون الحضاريون على دعوة محمد النهضوية اقبالهم على دعوة يسوع النهضوية ودعوته تدعو وتعمل لترسيخ قيم الحق والخير والجمال ؟
إن دعوة محمد الدينية أو العروبية النهضوية لم تُفرض على السوريين وغيرهم من الشعوب الحضارية فرضاً وجبراً واكراهاً ، ولو فرضت جبراً لما تبناها محمد ولكان أول الكافرين بكلام ربه العظيم الذي هو " لا إكراه في الدين . وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر "
أما الدعوة التي فرضت على الناس قسراً واكراهاً فهي التي جاءت بعد النبيّ . وشتان شتان ما بين فعل الاكراه وفعل الحرية والاختيار.
العرب بعد النبيّ
لقد كان العرب جاهليين كافرين قبل دعوة النبيّ ، وبعد وفاة النبيّ أصبحوا مفتونين أي انتقلوا من حالة ومرحلة الهدى والايمان التي عاشوها بهدى النبيّ وقيادته الى مرحلة وحالة أدهى وأفظع من حالة الكفر السابقة هي مرحلة وحالة الفتنة التي قال عنها النبيّ" الفتنة أشد من القتل ،لعن الله من أيقظها"وهذه هي المرة البارزة التي يلعن فيها النبيّ أحداً بعض أن رفض طلب بعض صحابته أن يلعن الكافرين ناعتاً نفسه أنه " لم يُبعث لعاناً بل بُعث رحمة للعالمين " تماماً كما حصل للسيد المسيح عندما دخل بيت الصلاة ووجد فيه المرابين والصيارفة والباعة يحوّلونه الى مغارة للصوص فلم يتحمل رؤية ذلك ونفذ صبره وكان ما كان من استعماله السوط وطرد المرابين والتجار المجرمين .
مما لا شك فيه ان النبيّ ظهر في بيئة العربة حيث يعيش العرب ، وبيئة العرب كانت ولا تزال قبائل وعشائر وافخاذ عشائر تتوزع بين المدر والحضر تغزو بعضها بعضا وتتقاتل فيما بينها ولا تزال ، وليست بيئة مجتمع حضاري واحد متماسك مهما توهم البعض أنها مجتمع واحد موّحد وذات قضية واحدة . واذا كان للعرب جامع نفسي مشترك قبل ظهور النبيّ في بيئة شبه الجزيرة فهو بلا شك جامع الكفر والغزو ،ومع النبي وتحت قيادته استقامت قناة العرب كما ورد عن الامام علي بن أبي طالب وبلغت عروبتهم أوجها الذي لا يزال سحرها حتى هذه الأيام لأنها كانت عروبة النبي .أما بعد رحيل النبيّ في ذبك الزمن فالجامع المشترك للغالبية هو أردأ من الكفر والغزو. هو جامع التكفير والكيدية المتوحشة والفتنة الي تتوالد وتتكاثر ذاتياً بدون توقف. وكما برع العرب قديما في الكفر والحمية الجاهلية فهم اليوم يبرهنون ويثبتون أنهم أكثر براعة في ممارسة الفتن والتكفير والاستزلام للغربيين المستعمرين العدوانيين. انهم يتبجحون بالعروبة وبنهضة الاقطارالعربية والتضامن العربي والأخوة العربية والكرامة العربية ويمارسون في الحقيقة اعظم عداء للعرب والعروبة وأقطار العروبة وقد عبرّ عن ذلك جبران خليل جبران بأفصح كلام وأبلغ منطق حين قال في كتاب فتاوي كبار الكتاب والادباء الذي نشرته ادارة الهلال بمصر سنة 1923 والذي قال فيه عن نهضة الشرق العربي وموقفه ازاء المدنية الغربية :"فليقل لي العقلاء والوجهاء وقادة الرأي العام هل يرغبون حقيقة في نهضة الأقطار العربية وفي تضامنها واستقلالها وجلّ ما يفعلونه في هذا السبيل إبداء آرائهم ، وأكثرها بليدة وعقيمة ، أما أعمالهم الخاصة ومآتيهم الذاتية وكل ما تتناوله حياتهم اليومية فتخالف مزاعمهم وتنكر عليه دعواهم . فهم ان أكلوا فبصحون غربية ، وإن شربوا فبكؤوس غربية ، وإن لبسوا فالأثواب غربية ، وإن ناموا فعلى أسرةٍ غربية ، وإن ماتوا كُفّنوا بقماش منسوج في معامل غربية ويضيف:ألا تعلمون أن الغربيين يسخرون بكم عندما تظهرون رغبتكم في التضامن السياسي والاقتصادي مع أنكم تطلبون اليهم أن يبدلوا المواد الخام التي تثمرها أرضكم بالإبرة التي تخيطون بها أثواب أطفالكم ، والمسمار الذي تدقونه في نعوش أمواتكم ؟. هذا ما أقوله لمن يسمع ، ويسمع بشيء من النزاهة . أما الصم ، أولئك الذين لا يسمعون حتى ولا همس نفوسهم ، فلهم الحصة الكبرى من عطفي وشفقتي.أما نصيبهم من صوتي فمثل نصيبي من آذانهم ".
جوهر دعوة النبي وكيف صار حالها بعده
ان الأمر المهم الذي جاء من أجله الرسول لاصلاح العرب الذي هو توعيتهم واصلاحهم ودعوته الى الاسلام لرب العالمين ، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ، وممارسة الأخلاق الكريمة، وتجنب الخلال اللئيمة ، ومنافسة الأمم في ترقية الحضارة والمدنية فلم يلق عندهم آذاناً صاغية ، ولا أنفساً مهتمة ، ولا عقولاً مدركة ، بل بقيت تعاليم روح الاسلام غريبة عنهم، وقشورها الميتة محبوبة له،واستمر على ألسنتهم كلاماً يجترونه ويرددونه ببغائيا ويتقيؤنه ثم يعودون يجترونه ويتقيؤونه من جديد.وصارت العروبة الحضارية التي أطلقها النبيّ أكره المكروهات عندهم يعلكونها ويبصقونها ثم يلحسونها ويعلكونها بعد ان تكون امتزجت بالقذارات الفكرية والنجاسات التعصبية والأوساخ الطائفية التكفيرية . لقد آمن السوريون وسائر العرب الآخرون في وادي النيل والمغرب الكبير برسالة محمد الاسلامية ، وعروبة محمد النهضوية وليس بدعوات عرب الأعراب واسلام الأعراب وعروبة الأعراب الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم أعراباً منافقين . وتبنت واحتضنت سورية عروبة محمد الحضارية ولغته العربية الثقافية الراقية المعبّرة عن مفاهيم رقي الحياة ولم تتبن عروبة الأعراب المنافقين ولغة الأعراب الفتنويين الكيديين .
اسلام السوريين اسلام النبيّ وعروبتهم عربيته
نعم لإسلام النبيّ وعروبة النبي ، ولا وألف لا لإسلام الأعراب وعروبة الأعراب المنافقين . اسلام السوريين المحمدي هو نفسه اسلام السوريين العيسوي . ولغة السوريين العربية المحمدية هي نفسها لغة السوريين الآرامية السورية العيسوية . ومصطلحات الحروف الهجائية الصوتية هي رموز ميتة اذا لم تكن تحمل روحاً حيّاً ، وفكراً راقياً ، ونفسية جميلة ، وعقلية سليمة مبدعة ، ومطامح سامية ، ومُـثُـل عليا عظيمة . فالأمر المهم الذي أتى به النبي لايصال رسالته الى العرب من أجل اخراجهم من ظلمات الانحطاط الى نور الرقيّ بأوضح طريق، وأسلم سبيل ، وأسهل لفظ ، وأفصح كلام كان اللغة الجديدة البليغة الفصيحة القريبة من العقول في شبه الجزيرة وفي مناطق الشعوب المجاورة في بلاد الشام والرافدين ووادي النيل والمغرب الكبير وبلاد فارس . هذه اللغة كانت تنمية وتطويراً للغة الآرامية التي كانت سائدة في تلك البلاد وشائعة بين تلك الشعوب في تلك الأزمنة حيث امتزجت ألسنة تلك الشعوب وتفاعلت فيما بينها وخرجت بحلةٍ جديدة مكتوبة بحروف بلاد الشام والرافدين الهجائية وليس بحروف الأعراب الذين لم يكن لهم حروف ولا كان بينهم من يقرأ ويكتب كما قال الامام علي .
اللغة العربية هي ابداع النبيّ
وهذه اللغة الجديدة التي نطق بها محمد وأمر أن يُكتب بها ما نزل عليه من الوحي هو نفسه قال: "أنا خير وافضل من تكلم العربية "، وهو في الحقيقة مبدع هذه اللغة في القرآن والحديث المتوافق مع القرآن، وهو مربي ومعلّم ومؤدب فصيحة العرب السيدة فاطمة الزهراء وصاحب كتاب نهج البلاغة علي بن أبي طالب.
فاذا كانت تعاليم الاسلام قد أتت الى النبيّ بفضل الوحيّ ، فان تبليغ تعاليم الوحيّ وانتشارها قد كان بفضل لغة النبي البديعة الفصيحة البليغة التي أيّدها الوحيّ بوضوح الأية " إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " . لقد أُنزل القرآ ودُوِّن بلغة النبي أيّ أننا أظهرناه قراءة واضحة لنسهّل للناس فهمه واستيعابه ومعرفة معانيه ومقاصده وليس للعرب وحدهم ، ولو كان للعرب وحدهم لما كان الدين رسالة للناس أجمعين ورحمة للعالمين . ان كلمة "عربياً" هنا تعني اشتقاقها من التعبير أي أنه معبّر بوضوح وفصاحة وبلاغة وبيان، وقد جاء في مكان آخر " لقوم يعقلون " أي أن كلمة عربي هنا بمعنى منطقي عقلاني عقلي يتبناه العقلاء.وفي مكان آخر " غير ذي عوج " وكلمة عربي هنا جاءت من فعل عرَّب المنطق بمعنى هذَبه من اللحن اي بلسان مهذّب فصيح . وجاء في مكان آخر " بلسان عربي مبين ".ان كلمة عربية القرآن في هذا المكان جاءت كلها للتعقل والتعلّم والتفقّه والتذكّر والتقوى والتهذيب والتفهّم كنهج ابانة وتوضيح لتعاليمه ومعانيه ومغازيه ومقاصده . وبناء عليه كان العرب عندما يسمعون كلاماً يفهمونه يقولون ان قائله عربي أي مفهوم واضح ، وعندما يسمعون كلاماً غير مفهوم لديهم يقولون ان قائله أعجمي حتى ولو كان قائله صينياً أو هندياً أو رومانياً ...أي أن الكلام غير واضح وليس بالضروري أن يكون فارسياً عجمياً .فكلمة عربي أو عربية كانت تعني الوضوح وتعني التعبير وتعني اللغة المفهومة المعقولة . وتعني أيضاً التعاليم الراقية الصريحة الفصيحة التي تعبّر عن ثقافة أخلاقية جديدة رحيمة تنقذ الناس من ثقافة الضلال الى ثقافة الهُدى . وبهذا المعنى نفهم معنى الآية القرآنية التي تقول:"وخاطبوا الناس على قدرعقولهم " والنبي محمد خاطب الناس بلسان عربي بمعنى معبِّر فصيح متطور وواضح وومفهوم وراقي على نسبة أهليتهم وقدرتهم على الفهم والاستيعاب والتعقّل فكانت كلمة عربي تعني نهج ابانة وبيان تسهيل استيعاب التعاليم التي جاء بها النبيّ.
لقد كان هدف رسالة النبي تخليص الناس من الكفر بالواقع والحقيقة الى وعيّ الواقع والحقيقة وقبولهما والايمان بهما والعمل بمقتضاهما وهي أن الله وحده هو اله العالمين لكل أديانهم ومذاهبهم واتجهاتهم وميولهم ، والايمان " أن الخلق جميعهم عيال الله وأحبهم الى الله أنفعهم لعياله " ، وان المسلم الحقيقي " لا يُؤمن حتى يُحب لغيره ما يُحب لنفسه " ، وان الله هو خالق كل شيء والقدير على كل شيء واليه ترجع الأمور وأنّا لله واليه راجعون كما جاء في القرآن وأننا من الله أتينا والى الله نعود كما جاء في الانجيل ، وينبغي نشر هذه الحقيقة وتعميمها بلغة واضحة فصيحة بليغة الى الأجيال الآتية جيلاً بعد جيل ، وعصراً إثر عصر.
العودة الى الجاهلية وتنميتها بعد النبيّ
أما الذي حصل بعد وفاة النبيّ فلم يكن خروجاً من ظلمات الكفر الى نور الايمان ، ومعاملة الناس بالتي هي أحسن ، ومخاطبتهم بألطف الكلام ، بل كان التظاهر بالايمان نفاقاً ، والتبجح بالعروبة خداعاً ، وايقاظ الفتنة بالاحتيال والغش ، وممارسة الموبقات باسم الدين والمتاجرة به تمويهاً وعلناً ، وترويج الدعاية التي تغش وتخدع وتُضلّ وتفتن وتغوي .
فلا اللغة التي أرادها النبيّ عربية معبِّرة موضّحة بقيت معبّرة ووسيلة توضيح وبيان لما هو جميل ، ولا الرسالة التي أرادها رحمة للعالمين ومتممة لمكارم الأخلاق ظلت رحمة ومحبة بل تحوّلت الى فتنة ونقمة.وكل ما تمسكت به غالبية المسلمين وراثة العصبية الدموية ووراثة التعصب التكفيري ، ووراثة الحمية الجاهلية ، ووراثة الثقافة الزائفة التي تبيح لنفسها كل ظلم وتبرر لنفسها كل فساد وتنكر على الآخرين حتى الحق بالعيش . وهذا ما جعل الهوّة هائلة بين الاسلام الصحيح والمنافقين . الاسلام الذي يعني الرحمة الالهية للانسانية ، ويعني انتشار الفضائل بين الناس مؤمنين وكافرين، دينيين وعلمانيين حتى يتخلص الكافرون من كفرهم ويرتقي المؤمنون بايمانهم ، وينتفع الدينيون وينفعون بمحاسن أخلاقهم ، ويستفيد العلميون ويفيدون بأبحاثهم وعلومهم واكتشافاتهم واختراعاتهم . وجعل أيضاً الهاوية أفظع بين اللغة العربية المعبّرة التي ارادها النبيّ لغة فكرٍ سليم ، ووسيلة توضيح ، ووعاء ثقافة حكيمة فصيحة واضحة ، وبين لغة عربية أصبحت بعده وسيلة بلبلة وأداة تشويش وأدت الى ثقافة فارغة زائفة ممسوخة مشوّهة فاسدة تفور منها الفتن ، وتهوج الشائعات والأضاليل والأباطيل . وأدت الى أن يصير التعبير أي الكلام العربي المفهوم الذي يحمل تعاليم راقية طلاسم مدمّرة وعلى البسطاء المساكين أن يقبلوه مهما كانت النتائج وخيمة ومدمّرة . وهكذا اختلط بين ما يريد الله في القرآن وما يريده ويبغي تأويله الجاهليون التكفيريون ليناسب أهواءهم وأغراضهم وتمنياتهم . وأدى ذلك أيضاً الى احداث هوّة هائلة بين تعاليم القرآن وتأويلات المتاجرين بالاسلام الشخصية الخصوصية ، والجاهلية التكفيرية ، وفتاوي الممسوخين الخاوين الا من وسائل اثارة النعرات المدمّرة والفتن القاتلة محوّلة الاسلام الى عقيدة نقمة بدل حقيقته التي هي رحمة وحكمة . وأدى أيضاً وأيضاً الى تشويه ومسخ صورة العربية والعروبة لتتحول الى رومنسبة وهوس ووهم بدل ان تكون سليمة صحيحة واقعية لايصال المعاني الجميلة ، والعِبَر الصالحة والأفكار الراقية باسهل وأسلس وألطف الكلام والتعبير .
ظهور المفاهيم الرجعية الاسلامية -العروبية بعد النبي
كان أول مفهوم رجعي جاهلي للاسلام العروبي هو الذي ظهر بعد موت النبي مباشرة حين رفعت قريش سيوفها في وجه الأنصار لتحويل الرسالة الروحية الانسانية الى عصبية قبائلية، وبداية تقزيم للنهضة التي لو بقيت نهضة لما تفتت مفهوم نهضة العروبة الصحيحة الواقعية ولما فرّخت المفاهيم العروبية القبلية الطائفية الزائفة التي كان أبرزها في عهد خلفاء النبيّ بروز عروبة اسلام الخوارج الخوارجية التي أدت فيما بعد الى العروبة الأموية العشائرية ومن ثم العروبة العباسية القبلية التي أوصلتنا الى العروبة الاسلامية العثمانية التركية التي تعج مجتمعات العرب اليوم بجماهير كثيرة تريد عودة العثمانية الى بلادنا على الرغم من كل المآسي والكوارث والويلات التي سببها العثمانيون لنا والتي كان من نتائجها ظهور مفاهيم العروبيات الانكليزية والفرنسية والأميركية واليهودية الصهيونية حتى صار العالم العربي يعج بأعراب القبائلية والطائفية والكيانية والأسروية وألأنانية الى جانب أعراب الترك والانكليز والفرنسيين والأميركان واليهود الصهاينة . ونشأ ايضا في العالم العربي الرومنسيات الوهمية التي تقول " بالأمة العربية الواحدة وبالوطن العربي الواحد وبالقومية العربية الواحدة من المحيط الى الخليج " ثم تستخدم بعد ذلك مصطلح العالم العربي الذين يعني في الحقيقة أكثر من أمة وأكثر من وطن وأكثر من قومية.
أليس مصطلح كلمة " عالم" يعني أكثر من امة ؟ اذاً ، كيف يناقضون أنفسهم ويسمحون لها وهم مثقفون ومتعلمون وأصحاب شهادات عليا أن تطلق كلمة عالم عربي على أمة يعتقدون انها أمة عربية واحدة ؟
ما هو مفهومهم للأمة ونشوؤها وتعريفها ومحلها في سياق التطور الانساني وعلاقتها بمظاهر الاجتماع وبالأمم الأخرى وبالاتجاه الانساني العام ؟
وكيف فهموا الوطن ، وأهمية الأرض للحياة ، وأهمية البيئة الطبيعية للانسان، وعلاقة الانسان بها، والتفاعل بين الانسان والبيئة ، ونشوء التاريخ والثقافة والحضارة ؟
وكيف فهموا معنى القومية التي هي صفة الأمة التامة التي لا تظهر في مجتمع الأمة الا بعد نضوج أعضائه ووصولهم الى حالة الرشد والوجدان الاجتماعي واستيقاظ الذات العامة في المجتمع التي تتشابه مع حالة الرشد في الأفراد ، متجاهلين ان مصطلح لفظة القومية يعني "تنبه الأمة لوحدة حياتها ولشخصيتها ومميزاتها ولوحدة مصيرها.. وانها الوجدان العميق الحي الفاهم الخير العام " ؟
الجاهلية التكفيرية شوّهت الاسلام والعروبة
لقد أصبح واضحاً أن معظم الناس اليوم جاهليين تكفيريين ، والجاهل التكفيري لا يُرجى منه خيراً عندما عندما يدعو لأي عقيدة. فاذا حمل راية الاسلام ونادى بالاسلام أو حمل راية المسيحية ودعا لاعتناق المسيحة ، أوحمل راية العروبة وبوّق لها فان كل ما يقوم به لا يفيد ولا ينفع بل يضر ويشوّه.فاذا اعتنق الاسلام المحمدي زيَّف مفاهيمه واذا اعتنق الاسلام المسيحي شوّه تعاليمه، واذا نادى بالعروبة فالى عروبة عصبية جاهلية يدعو، وعلى العقلاء أن يكتشفوا الى أي نوع من العروبة يدعو . أعروبة الخوارج أم الأمويين أم العباسيين أم الطائفيين أم العثمانيين أم عروبة الانكليز والفرنسيين والاميركيين والصهيونيين والدواعش، أو عروبة استئصال الاتنيات والأقليات والبؤساء في المجتمع بقتل رجالها وامتلاك نسائها وأموالها المنقولة وغير المنقولة ؟
وكذلك فان الجاهلي التكفيري اذا اعتنق اي فكرة حطّ من شأنها . والمسلمون المزيفون التكفيريون الذين مزجوا الاسلام بالعروبة الوهمية زادوه زيفاً، والاسلام الزائف بدوره زاد العروبة تخلفاً وخرافة وانحطاطاً . ومن ينتظر من عروبة زائفة متخلفة خلاصاً وحلاً لن يفوز الا بالسراب والخيبة . ان الواقع الذي نحن فيه ليس اسلام نبي ولا عروبة عبقري بل اسلام متخلفين وعروبة وهميين. واصلاح الاسلام المتخلف والعروبة الوهمية معاً بحاجة الى معجزة وأصحاب المعجزات رحلوا ولن يعودوا ، فلا السيد المسيح مستعد لأن يُصلب مرة ثانية، ولا النبي محمد جاهز لأن يموت بالسمم من جديد الا اذا أمر الله القدير المسيح ومحمد بالعودة الى الأرض ومن المستحيل ان يخضع الله لأهواء الضالين المضللين . ولذلك لم يبق أمامنا الا حل واحد هو الاعتماد على أنفسنا ووعينا وقوتنا وعزيمتنا وبطولتنا والايمان بأن لا أحد في هذا الوجود يستطيع أن ينقذنا مما نحن فيه. وعلينا أن نغيّر ما بنفوسنا فنجتث سيآتها ونستأصل عوامل الخوف والجبن والذل تماماً كما فعل أبطال لبنان الذين جاهدوا وضحوا واستشهدوا وانتصروا في مواجهة اسرائيل وداعميها وما زالت مواكب الجهاد والتضحية والفداء والاستشهاد تتتابع لتضع حداً للعدواننين، فعندئذ يرضى الله العزيز عنا وعن أفعالنا لأننا نعمل بموهبة العقل التي وهبنا أياها وما ارادنا بها الا أعزاء.
الخروج من عروبة الوهم الى عروبة الواقع واجب
ولأن مفهوم الرومنسية والهوس والوهم لا يؤدي الا الى الضياع والترهل والسقوط والخيبة ، فان الخروج من هذه الحالة هو الحق ، والى جانب كونه حق فهو أولى الواجبات،وما يهمنا اليوم من العروبة هو وعيّ مفهوم العروبة الواقعية ووضوحها وأهميتها في انقاظ مجتمعات العالم العربي من الويلات التي داهمتهم وتداهمهم وسوف تداهمهم حتى تقضي عليهم قضاءً مبرماً وجوداً وثقافة وتاريخاً وحضارة اذا لم يتنبهوا الى المخاطر والنكبات التي تسببها البلبلة والتشوش وفوضى المفاهيم .
الكوارث تتكاثر والنكبات تشتد وأمتنا السورية تسير من ويل الى ويل وعالمنا العربي يزداد ارتهاناً للإرادات الاجنبية الاستعمارية العدوانية ومفكرونا وأدباؤنا وشعراؤنا وعلماؤنا وفنانونا وسياسيونا لا يزالون أسرى مفاهيم رجعية بائدة ، واجتهادات رجعية متجددة كأنه مكتوبٌ علينا ، أو حُكم علينا أن لا نعرف ولا نميّز الصواب من الخطأ ، ولا الواقع من الوهم،ولا الحق من الباطل ، ولا البراءة من الجريمة، ولا النافع من المضر. وأن لا نتعلم من التجارب والمصائب فنعرف من أين تبدأ طريق القوة، وكيف يكون الصلاح والاصلاح ،وكيف يتحقق التوفيق والنجاح .
نظرة على الرسالتين:المسيحية والمحمدية
جاء السيد المسيح برسالته الروحية الراقية لهداية أبناء المجتمع الذي ولد فيه ليقوم مجتمعه فيما بعد بحمل الرسالة الى مجتمعات العالم ، واستخدم اللغة الأصلح في عهده لايصال تعاليمه الى الناس وكانت اللغة الشائعة آنذاك اللغة الآرامية التي كانت منتشرة في بلاد الشام والرافدين وفي البيئات المجاورة لبيئة بلاد الشام السورية والتي أطلق عليها بعد احتضانها لتعاليم السيد المسيح باللغة السورية والبعض يحب أن يطلق عليها السريانيةأي لغة المجتمع السوري الراقي المنيرة الحاملة تعاليم الهداية الجديدة فضلاً عن حملها تراث حضارة أصيلة تعود الى ما قبل التاريخ الانساني الجلي فكانت الوسيلة الأفعل لنقل التعاليم الى غالبية أبناء المجتمع السوري والى المجتمعات القريبة والمجاورة،ومن ثم الى المجتمعات البعيدة جغرايا عن سوريا. وكانت الوسيلة الأصلح التي فهم بواسطتها الناس التعاليم بما احتوته من أفكار هادية،ومفاهيم مرشدة ، وحكم ومواعظ نافعة ، وقيم راقية.
ولكن على الرغم من رقيّ ووضوح وصلاح اللغة الآرامية ، فانها لم تكن كافية لإيصال تعاليم السيد المسيح الى كل الجماعات التي لا تجيدها ولا تتقنها . واذا تقبلتها كان فهمها لها ناقصاً , والأهم ان عمر السيد المسيح الزمني كان قصيراً وحتى تلامذته لم يفهموه جيداً فخانه بعضهم، والبعض الآخر نكره ، وبعضهم خاف واستجبن . وعندما تنصرن الأمبراطور الروماني استبدل الآرامية السورية بلغة روما ، وروما فرضت المسيحية على الناس جبراً وغصباً بلغتها ، والذين حافظوا على اللغة الآرامية السورية كانوا مضطهدين ملاحقين لجأوا الى الصحراء والمغاور والكهوف والجبال الوعرة طفاراً هاربين بعد ان قتل منهم جيش روما عشرات الآلاف ، وبعد أن القاهم طعاماً للأسود وسائر الحيوانات المفترسة الكاسرة فسقطت لغة السيد المسيح الآرامية السورية بعد ان صارت تهمة ترتب على من ينطق ويكتب ويقرأ بها الحكم بالموت . فهل يستطيع أن يفهم الناس سبب ضعف وسقوط الآرامية بعد كل هذه المجازر التي تقشعر لذكرها القلوب؟
والنبي محمد بن عبد الله الذي شهد بعض هذه المجازر وكان يعرفها جيداً عن أبائه وأجداده باعتباره من الأسرة العدناية الكنعانية السورية وغيرها من الأسر السورية التي هُجّرت من بلاد الشام أدرك أن مصير رسالته سيكون مصير ما حصل للرسالة المسيحية اذا لم يتدبر الأمر ويحتاط له فكانت لغته التي سميت عربية بمعنى انها مشتقة من التعبير والمعبّرة عن التعاليم التي جاء بها ،وهي ليست لغة أخرى غير الآرامية السورية المتطورة التي كانت منتشرة في ذلك العهد في كل الجوار حتى في مصر وبلاد فارس . وعمر النبيّ محمد الزمني سمح له أن يقوي هذه اللغة رغم أن العرب لم يكن بينهم من يقرأ و يكتب فكان شرط القراءة واجب قبل الصلاة والصيام والحج حتى ولو كان تعليم القراءة أولياً بسيطاً، وكانت آية القرآن الأولى التي افتتحت بها رسالة الاسلام المحمدية الجديدة التي هي نفسها رسالة الاسلام المسيحية التي سبقتها فجاء في القرآن الكريم :" أقرأ باسم ربك الذي خلق.خلق الانسان من علق . اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الانسان ما لم يعلم "ثم جاءت آية التصديق التي هي : " وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق.لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم بما كنتم فيه تختلفون ". يعني مصدقاً لما جاء قبله ، وشاهداً على صحة ماجاء قبله، والحكم العادل هو الحكم بالحق . فقد جعل الله الناس أمماً ، ولكل أمة شرعتها ومنهاجها وسيحكم على كل واحدة بحسب شرعتها ومنهاجها . فاذا كان الله لم يجعل الناس أمةً واحدة وهو قادر على جعلهم أمةً واحدة ، أيعقل أن تتمكن فئة فئوية مهوسة واهمة بأهوائها وشهواتها وهي عاجزة أن وتعجن وتطبخها وتجعل منها أمةً واحدة ؟
وعندما شعر النبي بقوة الايمان التي يتمتع بها اتباعه ارسل علماء المسلمين للتبشير والوعظ فحملوا القرآن معهم يقرؤون ويشرحون فأقبل الناس على تعلم لغة القرآن المعبّرة عن مضامين الدعوة التي سميت اللغة العربية أي المعبّرة البيّنة الواضجة .
وكل رسالة تريد نقل أفكارها ومفاهيمها وتعميم تعاليمها بين جماعات غير جماعتها لا بد لها من ارسال سفراء أو أشخاص مخلصين صادقين مناقبيين يحسنون مخاطبة تلك الجماعات بلغاتها وينقلون لتلك الجماعات تعاليم رسالتهم بأحسن الألفاظ المعبّرة ، وألطف الأخلاق العالية . ألم يقل النبي" ان في البيان لسحرا "؟ فلغة النبي النبي العربية الراقية المعبّرة اللطيفة الساحرة حببت الناس برسالته ، ولطافتهم ومحاسن ألفاظهم ج=ذبت الجماعات للتعرف على ما في رسالتهم فانتشرت تعاليم الدين واكتسبت العربية مكانتها الساحرة في القلوب والمشاعر ولا تزال ، حتى اكتسبت العروبة قوة اذاعية كبيرة يلجأ اليها كل من له مطامع أنانية وأغراض شخصية . وبدلاً من أن تكون الدعوة صريحة الى الاسلام المحمدي ولا ضير في ذلك لأن من الطبيعي أن يبشر رجال اي دين بدينهم وأفكارهم ومعتقداتهم ، فقد صار الدينيون الطائفيون التكفيريون يسترون الدعوة الى طائفيتهم ومذهبيتهم الدينية باسم العروبة وكأن النبي جاء بدعوته واستخدم تعاليم الدين السماوية فقط من أجل العرب والعروبة وتحكيمهم برقاب الناس وليس من أجل رفع مستوى العرب والعروبة واستخدام العربية من أجل غاية النبي العليا اتي وصفها العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده بقوله : " غاية النبي محمد الرحمة في المجتمع، والعدل في الحكم . وانتصار الأمم بالقوة الروحية ، والمباديء المناقبية ". محولين بغبائهم الدين الى وسيلة ، واللغة الى غاية. مختصرين الدين بخمس كلمات ومرددين من العبارات اللغوية العربية ما مرره السلف الطالح الى عقولهم من أن لغة أهل الجنة هي العربية وكأن الله لا يريد أن يعترف بلغات الشعوب التي هو خالقها .متاجرين في الوقت نفسه بالدين وباللغة حتى فقد الدين قيمته الروحية ، وفقدت اللغة العربية وظيفتها في ايصال أرقى الأفكار واسمى التعاليم بلغة الحكمة والموعظة الحسنة وبأجمل اسلوب يحرر الناس من تقاليد وعادات ومفاهيم ووأفكار جاهلية الاستعباد مما جعل الامام الشهيد الحسين يخاطب الناس بهذه الكلمات الخالدة : " أيها الناس إن لم يكن لكم دين ، كونوا أحراراً في دنياكم " .
لقد انحطت المفاهيم الدينية بانحطاط رجال الدين الذين قال عنهم الفيلسوف ابن سينا:"بلينا بقومٍ يظنون أن الله لم يهد سواهم "فكان هؤلاء أشد أعداء الاسلام الذي قال عنهم الفيلسوف ابن رشد :"أشد أعداء الاسلام جاهل يكفـّر الآخرين". وتخلفت اللغة العربية بتسلط الجهّال وعدم احترام العلماء والأخذ بآرائهم وحكمهم وفتور دورهم وسيطرة الجاهلين المتعصين الكيديين التكفيريين حتى وجدنا الامام مالك يقول :" كان مَن قـَبْلنا يعمدون إلى كتاب الله وسُنّة نبيه فيتلقون الأحكام. أما اليوم فنعمد إلى رغائبنا ثم نبحث في كتاب الله وسنة نبيه عما يسندها ويشهد لها ".
لقد أصبحت الرغائب الشخصية ، والأهواء الخصوصية هي دليل سلوك وعمل ودعايات وفتاوي الجهّال الذين يتحكمون بالدين والعروبة حتى يومنا هذا، وقد تنبه النبي محمد لهذا الأمر عندما قال في الجهَّال الجاهليين :"إنهم يبقون بعد أن يأخذ الله العلماء بعلمهم، يُستفتون فيفتون برأيهم الجاهل فيضلون الناس، ويضلون هم أنفسهم أيضاً ".
فأي اسلام يُنتظر من الجاهلين الجاهليين غير الاسلام التكفيري البغيض ؟ وأي مفهوم للعروبة ينتظر من الرومانسيين غير العروبة الرومنسية الوهمية الزائفة حتى ولو كان دعاتها مخلصون ؟
***يتبع***
|