يقول الأمين الياس جرجي مستذكراً الأيام واللحظات التي سبقت تسليم الزعيم الى المتآمرين عليه في لبنان وخيانته…
«كنت ممّن استبدّ بهم القلق وكبر تصوّرهم الى حدّ دفعني إلى القيام بما ظننته لأول وهلة صالحاً لإنقاذ الوضع المشوب بالشكوك والهواجس إلى جانب انطلاق القوميين الاجتماعيين في ممارسة أروع الواجبات وأشدّها صعوبة وخطورة. فأقدمت على تجاوز صلاحياتي كمدير لمكتب الزعيم وناموسه الأول وأرسلت إلى الأمينة الأولى التي كانت قد غادرت بيروت إلى اللاذقية أطلب منها موافاتي سريعاً بأوراق الزعيم الخاصة مثل جواز السفر وما يتبعه من المعاملات الضرورية في حال السفر، وقد وصلتني جميعها خلال أربع وعشرين ساعة إلى دمشق حيث كان الزعيم ومركز الحزب ابان الفترة الأولى من بدء الثورة، اتخذت هذا التدبير من دون علم الزعيم أو إطلاع أيّ أحد حتى أصبحت جميع الأوراق بحوزتي. ما ان تسلّمت الأوراق المتعلقة بالسفر إذا رغب الزعيم بذلك حتى سارعت وطلبت خلوة مع الزعيم لمشاورته بأمر هامّ، ولما انفردت به في غرفة مكتبه وكنت شديد القلق فبادرته بقولي إنني يا حضرة الزعيم أشكّ بحسن نوايا حسني الزعيم ويتزايد الشك في نفسي. حتى إني أرى، يا حضرة الزعيم، أنّ الشك بحسن نوايا حسني الزعيم يتزايد في نفسي حتى غدوت أخشى أوخم العواقب من جراء بعض المؤشرات المريعة التي تبدر من قبل حسني الزعيم، وها أني وقد رفعت الأوراق بيدي أمام الزعيم قد أحضرت جميع الأوراق التي تسهل لكم مغادرة البلاد قبل أن تفاجئنا الأحداث بمكروه. وأرجو من حضرة الزعيم قبول اقتراحي بضرورة اتخاذ التدابير لمغادرة الشام قبل فوات الأوان لأني أعتقد أنّ حياة الزعيم وسلامته هما الضمان لحياة النهضة وسلامتها واستمرارها. ما كدت أصل بحديثي إلى هذا الحدّ حتى لاحظت في وجه الزعيم ما أوقفني عن متابعي الكلام. راح الزعيم يحدجني بنظرات حادّة تعبّر عن عميق ما كان يعانيه من ألم ومرارة، وقد بدت على ملامحه علامات التجهّم والتأثر المنفعل، كان يصعب النظر إليها كما يتعذّر عليّ انتزاعها من مخيّلتي وقد مرّ عليها ما يقارب الثلاثين سنة، كأنّ هذا المشهد لم يمض عليه سوى لحظات قصيرة. ثم أخذ الزعيم يتكلّم بتأنّ ظاهر وتمهّل واضح كمن يُملي على الحضور كلمات مأثورة أو عظّة نادرة البلاغة يودّ من السامعين حفظها واستيعاب جميع دقائقها لتغرس في أعماق الفكر والنفس.
المسألة يا حضرة الأمين، ليست مسألة شك أو توقعات لأسوأ الاحتمالات تأتينا ممن يؤدون صداقتهم للنهضة ويعدون للوقوف إلى جانبها ومؤازراًً في كلّ شأن: إنما المسألة الحقيقية هي أعمق بعداً في وجودنا مما خطر لك فقد فاجأني تكفيره المستغرب بقولك إنّ حياة الزعيم ضمان لحياة النهضة واستمرارها بينما الحقيقة هي أنّ النهضة وحدها الضمانة لحياة الزعيم وحياة الأمة وكرامتها.
هل بلغك مرة أنّ قائداً وهو في قيادة قواته إلى ميادين القتال وساحات الدم يجعل همّه الأول المحافظة على سلامته واتخاذ الحيطة لتأمين هربه من المعركة ومن تحمّله لمسؤولياته؟ هل يصح أن يكون هاجس الزعيم التخلي عن أقدس واجباته من أجل سلامته الشخصية كأنها هي المطلب الأخير فوق كرامة الأمة وكيان النهضة في حين يضرب القوميون المناضلون أمام العالم والتاريخ الرقم القياسي بالصمود والبطولة. فمنذ ساعات سقط الصدر عساف كرم شهيد الحرية والواجب في موقف جبار متحدّياً قوى الجيش اللبناني التي تآلبت عليه وأحكمت من حوله الطوق فلم يستسلم ولم يتراجع مغلوباً على أمره وهو مصمّم على خوض المعركة حتى النهاية المشرفة.
وأني مع تفهّمي للدوافع العاطفية التي حدت بك إلى مثل هذا التفكير الانفعالي وحملتك إلى سلوك هذا النمط من التصرف فإني أرفض اقتراحك بإعداد العدة للهزيمة وأحسبه موقفاً خلواً من متانة الرؤية إلى الحقيقة ومن بعد النظر وعمق التوازن بين معطيات العقل وجموح العاطفة التي من شأنها أن تحدّ أفق التفكير للإنسان وتثبط عزيمته أمام الملمات.
ويقول الأمين قنيزح في كتابه: هكذا بين مرارة ما أصابنا من جسيم الخسارة وعظيم النكبة بفقدان الزعيم على يد الغدر والخيانة وبين الاعتزاز بقدوة الزعيم أمام الموت في سبيل ما أوقف نفسه له، بين المرارة والاعتزاز نقف مجدّدين العهد لتصبح النهضة بالفعل أمل الأمة الوحيد وضمانة لحق سورية وخيرها وازدهارها. ونحقق النصر الذي وعدنا به سعاده».
واليوم أقول لكم يا رفقاءنا جدّدوا العهد وحافظوا عليه وحققوا ما قاله سعاده: «إنّ أبسط القوميين الاجتماعيين هو أمتن عقيدة وأعرف بنجاح القضية القومية الاجتماعية من أمهر السياسيين وأخبثهم».
|