أنطون سعاده… ولد في الأول من آذار عام 1904 جسداً وروحاً… وولد في 16 تشرين الثاني من عام 1933… وعياً وفكراً وإيماناً… فكانت ولادة العقل والفكر والروح هي طريق معرفتنا بأنطون سعاده الزعيم والمؤسّس والقائد للحزب السوري القومي الاجتماعي.
لم يعرف التاريخ رجالاً ينذرون حياتهم بكلّ تفاصيلها من أجل قضية آمنوا بها كأنطون سعاده. هذا الرجل الذي لم يؤسّس فقط فكرة وحركة تتناولان حياة الأمة السورية بأسرها وحسب، بل تعدّى ذلك إلى تأسيس نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن تمثلت ببناء اللإنسان الجديد، الإنسان المجتمع، وليس غريباً أن يغتالوا أنطون سعاده وهو أول من حذّر من الخطر الصهيوني، ولم يكن سوى في بدايات شبابه. ليس غريباً على أنطون سعاده أن يكون مشعّاً بالحضور على الرغم من غيابه، هذا الحضور المتمثل بالأجيال الجديدة التي آمن بها وآمنت به. ما أشدّ اعتزازي بكم وما أروع النصر الذي نسير إليه .
ولد أنطون سعاده فكراً في اليوم واللحظة التي طرح فيها على نفسه هذا السؤال:
«ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟»
عرفت أنطون سعاده… عندما أشعرني بإنسانيتي.
عرفت أنطون سعاده… عندما أشعرني بمواطنيتي.
عرفت أنطون سعاده… عندما أشعرني بانتمائي.
عرفت أنطون سعاده… عندما جعلني أعرف من أنا.
عرفت أنطون سعاده… عندما نقلني من الـ «أنا» إلى الـ «نحن».
عرفت أنطون سعاده الذي جعل ديني وطني وإيماني وهويتي وأمتي ومضة الحياة في وجداني.
12 يوماً مع الزعيم…
رأيت الزعيم في فترة لم تتجاوز 17 عشر يوماً على انتمائي عندما تبلغنا انّ الزعيم سعاده سوف يأتي إلى الشام ويزور المنفذيات ويتفقد القوميين… في اليوم المحدّد 3 تشرين ثاني 1948، اجتمعنا في المنفذية صباحاً ومن هناك انطلقنا إلى منطقة دمّر مدخل دمشق للقادمين من بيروت، وعند سكة القطار توقفنا صفوفاً نظامية نرفع بأيدينا أعلاما ًحزبية صغيرة وما أن أطلّ الزعيم بسيارته حتى دوّى صوت ناظر التدريب بالتأهّب والاستعداد ورفعت الأيدي بالتحية وعلت الهتافات تحيا سورية، يحيا سعاده، ترجّل الزعيم ومرّ وسط جموعنا محيياً، واستعرض صفوفنا… وبعد انتهاء الاستعراض ركب سيارته وتوجه نحو دمشق إلى مركز المنفذية أمامه بضع دراجات يقودها قوميون يرتدون قمصاناً بيضاء تزيّنها زوبعة حمراء وخلفه أرتال سيارات تحمل القوميين ترفرف من نوافذها أعلام الحزب ،وبدا الناس مدهوشين لهذا المنظر الجديد يشاهدونه لأول مرة، وكثرت الأسئلة من جمهرة الناس: مَن هذا؟ فكنا نجيب بصوت أشبه بالصراخ لبعد المسافة بين الموكب وسط الطريق والناس على الأرصفة: الزعيم سعاده، وبعفوية فورية يجيب السامعون يعيش الزعيم ويصفقون… وصل الموكب إلى مركز المنفذية فجلس الزعيم لبعض الوقت ثم انتقل إلى منزل المنفذ العام عصام المحايري، وتبعاً لبرنامج الزيارة الحافل حلّ ضيفا ًفي بيتنا… وقد مكث الزعيم ضيفاً طيلة زيارته لدمشق التي استمرت 12 يوماً. البيت كنا نسكن فيه أنا وأخي فقط ووالدي في الجزيرة وبقية الأهل في بيروت.
الحي الذي نسكنه هادئ سكانه طيّبون محافظون متضامنون، التواجد السياسي في المنطقة هو للحزب الوطني والتأييد لشكري القوتلي وصبري العسلي وفيصل عسلي وحزبه التعاوني الاشتراكي، لم يكن عدد القوميين في الحي يتجاوز أصابع اليد موزعين في المنطقة كلها… عندما وصل الزعيم ليلاً وبعد ان حل ّبغرفته لينام، ومن شدة المحبة والقلق غير المبرّر أتيت إلى قرب باب غرفته ووضعت كرسياً هزازاً يحول دون الدخول للغرفة ونمت على الكرسي ومسدسي بقربي، أحسست ليلاً بالكرسي يتحرك بفعل محاولة فتح الباب من الداخل ويبدو أنّ الزعيم أراد الخروج فوجد الباب شبه مقفل وقفت وأزحت الكرسي، خرج الزعيم فشاهدني والمسدس بيدي فسألني رفيق إياد ماذا تفعل هنا؟ كنت أقف أمامه بوضعية الاستعداد وقلت أحرس الزعيم فابتسم وربت على كتفي وقال اذهب إلى فراشك ونم، فالزعيم يحرس نفسه وكرّر الابتسأمة، أدّيت التحية وذهبت.
أياً منا تمرّ به لحظة مثل هذه يعالج بابا ًليفتحه فيتعذّر عليه ذلك وبعد جهد يفتح الباب ليجد شخصاً تابعاً له أقفله. أقلّ كلمة يقولها وبانفعال شديد: «ليش مسكّر الباب»؟ ولكن سعاده لم يكن كذلك، بل تعامل بود ّوحنان وابتسامة هادئة، قال: «رفيق إياد ماذا تفعل هنا وبنفس الحنان، اذهب إلى الفراش ونم، الزعيم يحرس نفسه»…
صباح اليوم الثاني جلس الزعيم لتناول إفطاره الصباحي وجلست إلى جانبه، سألني عن مدرستي ودراستي ونشاطي الحزبي وعن المديرية التي أنتظم فيها، وهل فيها طلاب من مدرستي… وذلك الحين لم يكن هنالك مديريات للطلبة بل خليط، فقلت له مديريتي لا يوجد فيها غير خمسة او ستة طلاب، بينما باقي أعضاء المديرية فهم عمال وموظفون… كرّر السؤال: أليس معك طلاب من مدرستك او غيرها؟ فقلت لا… اليوم الثاني استدعاني المنفذ العام عصام المحايري وسألني: «شو قلت للزعيم»؟ رويت له ما جرى… وكان غاضباً عليّ… وعلمت في ما بعد أنّ الزعيم استغرب عدم الفصل بين الطلاب وأصحاب المهن والأعمال… لأنّ الفارق الثقافي كبير وشرح الفكر وتثقيف الأعضاء بشكل متساو غير متاح… ومنذ ذلك التاريخ تمّ وضع الطلاب في مديريات طلبة وأقيمت منفذية طلبة في الشام.
ومرة ثانية كنا في مكتب الحزب وقفت سيارة يقودها الرفيق زكي نظام الدين أمام المكتب ونزل منها الزعيم، زيارة مفاجئة بعد زيارته الرسمية بمدة شهرين تقريباً، ببشاشته المعهودة سلّم على الموجودين ودخل المكتب، كنا نلعب كرة طاولة «بينغ بون» وبدأ يلاعبنا واحداً واحداً ثم وقف أمام باب المكتب وأخذنا صوراً معه…
نتذكّر سعاده الآن وبعد هذا الزمن فتجده رجلاً، دمث الأخلاق لطيفاً تحيطه مهابة لا تخفيها ابتسامة الحنان التي تعلو شفتيه وهذه الابتسامة لا تحجب الوقار، هادئأً رصيناً تحبه فور أن تراه ولا تعرف تفسيراً لهذا الحب، ما نوع هذا الحب الذي نشعر به تجاه الزعيم الوقور المهيب الجليل الذي لا تطمعك به ابتسامته ولا حنو صوته، ولا ترعبك نبرة الآمر، تحبه تحترمه تقدّسه تطيعه من أعماق إيمانك وتخلص له بكلّ جوارحك وحناياك، انه قائد طري لا يعصر ويابس لا يكسر كالأسد ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم…
تموز 1949… إلى لبنان
ورأيت الزعيم لآخر مرة في الثالث من تموز 1949. وكان يوم أحد تلقينا تعليمات تقضي بوجوب الحضور إلى جسر فكتوريا وكان موعد التجمع في الساعة السادسة مساء في نقطة محدّدة حيث يكون هنالك مسؤولون حزبيون لديهم تعليمات سوف يبلغوننا إياها وهناك أبلغنا أننا سنذهب إلى لبنان…
دخلنا لبنان عن طريق دير العشائر والدنيا ليل حالك، أثناء سيرنا دوّى انفجار قوي لم نعرف سببه ولا مصدره، توقفنا مستطلعين وتوقف كامل الموكب، وبدأنا ننظر من النوافذ وكم كانت دهشتنا عجيبة عندما شاهدنا الزعيم ومعه عدد من المسؤولين يتجه نحو مصدر الصوت كان يرتدي بنطلوناً قصيراً ويضع على كتفه جاكيتته، وتهامسنا، سعاده، سعاده، هذا هو الزعيم، انه يرافقنا وبخطى ثابتة توجه نحو مصدر الصوت، وتبيّن انّ الانفجار نجم عن عجلة الباص الأمامي ودويّه كان قوياً بفعل المنطقة المقفرة الهادئة ليلاً. قفز الجميع نحو النوافذ الكلّ يريد أن يرى الزعيم وبعد إبدال العجلة تابعنا السير وكان الزعيم يركب سيارة صالون يقودها الرفيق صبحي فرحات.
نزلنا من السيارات وانتظمنا في صفوف نظامية، حيث جاء الزعيم فأخذنا له التحية، هتف: تحيا سورية، ورددنا: يحيا سعاده… تحيا سورية.
وألقى الزعيم فينا خطاباً حفظت قسماً منه وسجلته عندما كنا في المغارة… قال سعاده: «انكم ذاهبون إلى لبنان حيث اعتدي عليكم وامتهنت كرامتكم، إنّ الحكومة اللبنانية اتهمتنا بالتآمر على سلامة الوطن، والتعاون مع الصهيونية إلا أنهم عملاء الصهيونية اذهبوا ودافعوا عن كرامتكم، ولسوف تواجهون بقيادة الرفيق الصدر عساف كرم الجند، أوصيكم بالجند فهم آباؤكم ومنهم أبناؤكم، انهم ليسوا أعداءكم فلا تؤذوهم ولا تقسوا عليهم دافعوا عن أنفسكم، أوصيكم ألا تعسفوا وأشعروا الأهلين أنكم أتيتم لتحريرهم ولو أكلكم الجوع فلا تمدّوا أيديكم لشيء ليس لكم أبداً، نحن أتينا لنري الحكام أننا لا نبغي إلا مصلحة الشعب. انكم أصغر جيش في العالم يحارب ليغيّر مجرى التاريخ. لا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل… ولتحيا سورية…
ثم ودعنا واحداً واحداً وصافحنا باليد وعندما وصل ناحيتي كنت ارتجف من شدة البرد فوضع يده على كتفي مبتسماً وقال لي: بردان رفيق اياد… وربت على كتفي مرتين وهو يتكلم… وكانت هذه آخر مرة أرى فيها الزعيم أو أسمع صوته…
عرفت الزعيم يوم عرفت ما فعله إيماننا به وبالمبادئ التي وضعها… بعد أن ودّعنا وودّعناه واتجهنا الى لبنان كان قد مضى علينا 18 ساعة دون طعام. وكان منتظراً وصول بعض المؤن من مديريات المنطقة في منفذية البقاع… همهَم الجوع ولم تصل الأطعمة…
وصل الرفيق ديب الشمعة المولج بالاتصال بنا وتأمين الطعام وكان يحمل كيساً فيه كعك قرشلّي. وزع علينا الصدر عساف كرم الكعك فكانت حصة كلّ واحد منا أربع كعكات. وقال اعتبروا انّ كلّ كعكة هي زاد يوم فإذا لم يتمكن رفقاؤنا من إيصال المؤن أو تعذر ذلك فهذه مؤونتنا في الوقت الحاضر ولن نمدّ يدنا إلى أحد أو نغتصب مواد من القرى المجاورة! نعم هكذا حرفياً وأنزلنا من مخزون العقل والفؤاد من التربية والإيمان القومي الاجتماعي ما يملأ معدتنا مسانداً قطعة الكعك… نعم نعم هذه المدرسة هيأتنا لأمر خطير يساوي وجودنا لذلك هانت كلّ الصعوبات، حضر الرفيق ديب في ما بعد ومعه مؤن كافية لشحن المعدة الخاوية وإعطائها ما يمدّ في صمودها إلى يوم آخر…
النبت الصالح ينمو بالعناية
عندما أقف الآن لأسجل تلك المرحلة الخطيرة الدقيقة لمن لم يعايشها ويريد أن يعايشها في لحظتها تلك لن يتوقع مهما كانت معلوماته وتقديراته ان يسجل أولئك الرفقاء ما سجلوه من مواقف في تلك الفترة الضبابية القاتمة الحرجة. انّ من يلمّ بتكوين هذه المجموعة ثقافياً واجتماعياً ومعيشياً… لا يتصوّر أبداً أن يعطي هؤلاء ما أعطوه، وبمثل هذا السخاء في العطاء وهم ينظرون إلى أفق أسود مسدود، ومستقبل قاتم، حزب مشرّد، قادة مبعثرون، زعيم اغتيل، أصدقاء ورفقاء سجناء ملاحقون أو مقتولون، ماذا بعد وماذا يفعلون وهم من هذه الشريحة من الأمة مسحوقة في مجتمعها، مدانة بقوانينه، خبزهم كفاة يومهم، ماذا يفعلون، وماذا كان فعل غيرهم سوى التوسّل والصراخ والركوع معلنين التوبة طالبين الصفح والغفران لتفتح لهم الأبواب ويعودوا إلى تقبيل الأيادي والبحث عن مورد الرزق الذي قطع، ماذا ينتظرون، وماذا تنتظر عائلاتهم وأولادهم غير الشفقة وكرم المحسنين…
سعاده… أيّ معجزة صنعت وأية أعجوبة في هذه الأمة أحدثت… لا، هؤلاء غير هذا النسيج هؤلاء من جيل جديد نما ونبت بالعناية، أما قال سعاده: «النبت الصالح ينمو بالعناية أما الشوك فبالإهمال… اليوم وأنا اكتب وأسجل تفاصيل تلك الفترة، أيّ بعد 70 سنة، تنتصب أمامي تلك اللحظات وأستعيد ما أحسسنا به من لواعج وتفاعلات، وما مرّ علينا وبدون زيادة أو نقصان أقول كان في نفوسنا حزن، كان في أرواحنا أسى، كانت انفعالاتنا كثيرة متنوّعة، عرفنا مصير زعيمنا أما مصيرنا فسؤال لم نطرحه على أنفسنا لا أنا ولا سواي، كان كلّ اهتمامنا الزعيم، الحزب…
هنا تبرز عظمة هذه المدرسة وهذه الرسالة وهذا الإيمان وهذه العقيدة التي ولدت هذه البطولة… فإذا نظرنا إلى هذه المجموعة التي انحشرت في قاووش تجمّعت من شتى المناطق من كل ّالفئات والأعراق والطوائف والمذاهب والمراتب الاجتماعية وتنوّع المهن والمستويات العلمية، تنتدب لأداء مهمة إيمانية، تفشل نتيجة عمل خياني، تقع في قبضة خصمها الذي يعاديها ويريد سفك دمائها، هي في تنظيم حزبي حُلّ ولوحق وسجن أعضاؤه وقتل زعيمه فماذا بقي؟ وإلى أين؟ سؤال، في موقف كهذا جوابه، قلق على المصير وخوف على الذات وتبعثر للمقدرات والقرارات بما ينتج عنه من انهيار وسقوط… هذا هو الناتج الحتمي لأيّ موقف مماثل… وماذا بعد…؟
فهل هذا ما حصل عند القوميين؟ في تلك اللحظة واللحظات التي تبعتها، سنتابع الوقائع والحقائق ونقول انّ ثبات العقيدة في حزبنا واستمرار الحزب في طريق الحياة بدأت منذ استشهاد سعاده وموقف تلامذته في النكبة. تلك الوقفة التي أثبتت أننا ننتمي إلى أمة أبت أن يكون قبر التاريخ مكاناً لها في الحياة… كانت تلك اللحظة وقفة العز في حياة الحزب والأمة، معان وأفعال مارسناها وطبّقناها ذاتياً وتلقائياً بفعل إيمان فاعل متولد من إرادة الحياة التي غرستها العقيدة وتعاليم سعاده في نفوسنا، والتي أثبتت الأحداث المتتالية صحتها وفعاليتها… انّ تلك الوقفة وذلك الثبات من أهمّ دعائم صمود الحزب واستمرار زخمه، لأنها كانت التجربة الأولى والامتحان الفعلي والحقيقي لكلّ الأقوال والنظريات والطروحات التي كان الزعيم يقول وينادي بها ومن أجلها أبناء الأمة…
فهل تصمد هذه المؤسسة وهل حقيقي ما قاله الزعيم «ليس عاراً أن ننكب ولكن العار أن تحوّلنا النكبات من رجال أقوياء إلى رجال ضعفاء»… في تلك اللحظات وفي جميع المراحل التي مرّت لم نشعر ولا أيّ فرد منا بالوهن أو الفشل أو الضعف أو التخاذل، وأثبتت العقيدة في أول تجربة معمّدة بالدم صدق فعلها وثبات الإيمان في نفوس المؤمنين العقيدة… انتصرت وحقق سعاده، ما رآه مسبقاً عندما قال: ما أشدّ اعتزازي بكم وما أروع الانتصار الذي أسير بكم إليه…
وهل هنالك انتصار أفعل وأقوى وأهمّ من الانتصار على الذات والثبات على القوة الفاعلة فينا وترجمتها حية أمام التعذيب والترهيب والقتل… «انّ فيكم قوة لو فعلت لغيّرت مجرى التاريخ… وها هي القوة قد فعلت، فأفشلت كل المؤامرات والمحاولات الرامية إلى وأد هذا الوليد الرضيع بإبعاده عن ثدي أمه ولكنه شرب حليبه من هوائها وعنفوانها وعزتها ومناعتها.
لقد جسّد تلامذته كلّ تعاليمه وأقواله تجسيداً إيمانياً حياً، فإذا بهذه النهضة تثبت انّ الحياة في العطاء حيث يتغذى البقاء من دماء الشهداء الذين هم الفداء لحياة الأمة، نموت لنحيا والبقاء للأمة هذا هو دستور القومي الاجتماعي… انّ ما قام به سعاده قبل تسليمه إلى قتلته يعطي الصورة الواضحة عن عمق إيمانه بهذه الأمة، «إنّ مصير الأمة مربوط بخفقات قلوبكم ودوران دمائكم ومتانة أخلاقكم، انها تنتظر سيركم الظافر»… وأثبت بالفعل: «نحن نصارع دائماً في سبيل غايتنا وكلما تراكمت علينا الصعاب تجدّدت قوانا وسحقت ما اعترضنا من صعاب»… «ماذا يعني وجودي ماذا تعني حياتي غيركم أنتم أيها القوميون الاجتماعيون غير عزّ هذه الأمة وكرامتها ومجدها…
هكذا قال وعمل سعاده وأثبت القوميون بتنوّع انتماءاتهم الروحية والجهوية أنه يمكن لهذه الأمة أن تتوحد وتغني التاريخ… استشهاد سعاده في تلك البطولة وثبات حفنة من المؤمنين كتبت الحياة الأبدية المستمرة لهذه العقيدة ولهذه المدرسة وصار ذلك التاريخ قدوة لجميع المؤمنين…
هذا الجيش الصغير، غيّر تاريخ هذه الأمة وأثبت أنه في الوحدة القومية تضمحلّ العصبيات المتنافرة وتنشأ الوحدة القومية التي تتكفل بإنهاض الأمة.
هذه المجموعة شريحة من هذه الأمة بكلّ تكاوينها لبنانيون، شاميون، فلسطينيون، من دمشق، حلب، حمص، منبج، قطنا، معرّة النعمان، درعا، فلسطين، الأردن، بيروت، برج البراجنة، مشغرة، جديدة المتن، عبية الشوف، البقاع الغربي، القرعون، مجدل بلهيص، بعلبك الهرمل، عيناب، راشيا الوادي، كسروان، بحمدون، دير القمر، عين عنوب، المتين، ضهور الشوير، بيت مري، جل الديب، الغبيري، الشياح، طرابلس، الكورة، عكار، البترون، جبيل… مسيحيون، دروز، شيعة، سنة، علويون، أكراد، أرمن، شركس… أبناء عائلات إقطاعية والغالبية عمال عاديون… هذا النسيج المكوّن لهذه الشريحة من أبناء الأمة تنادوا ولبّوا نداء قضية تساوت مع وجودهم ،وهبّوا لنصرتها لا يفرّقهم دين أو مذهب أو عرق أو عائلة أو مرتبة اجتماعية…
تنوّعوا في التوصيف وتوحدوا في التصنيف، هم هم قوميون اجتماعيون إيمانهم واحد وطريقهم واحد ليس لهم من عدو يقاتلهم في دينهم ووطنهم إلا اليهود…
النظام والانضباط
لا يمكن أن تستعرض في ذهنك ما أعطته هذه المدرسة وما كوّنته من مفاهيم إلا وأن تدهش… فليس التجانس القومي والانصهار الروحي في هذه البوتقة الرائعة هو ما يلفتك بل هنالك أيضاً النظام والانضباط… فبعد انتقالنا من مغارة الضبع إلى طاحون مهجور في واد قريب من يحمر بدأ الصدر الشهيد عساف كرم تحضير القوة لتنفيذ المرحلة المتعلقة به وهي احتلال مشغرة والسيطرة على فصيلة الدرك فيها والمخفر التابع لها، اختار مجموعة من القوميين لمرافقته، فيما تمركز الباقون في الطاحون لانتظار عودته بعد تنفيذ المهمة لمتابعة بقية المراحل…. هنا تبرز عظمة هذا البناء النفسي العظيم وهذا النظام النادر، ناداني الشهيد الصدر وقال: رفيق إياد تبقى أنت هنا بسلاحك وتكون مسؤولاً عن الرفقاء الذين معك، فإنْ لم نعد واستشهدنا أو أسرنا فأنت الآمر ولك أن تقرّر بعدها ما تفعل، قال كلّ هذا أمام جميع الرفقاء، وغادرنا إلى أداء مهمته، رفيق قومي اجتماعي عمره ستة عشرة عاماً وبضعة أشهر ولم يمض على انتمائه للحزب سوى تسعة أشهر ليعيّن مسؤولاً عن مجموعة من القوميين أصغرهم لا يقل ّعمره عن ثلاثين عاماً وجميعهم مضى على انتمائهم للحزب سنوات وبينهم أيضاً الأمين عساف أبو مراد والأمين نائل نديم… لماذا اختارني أنا، لأنني مدرّب عسكرياً وخائض حرب فلسطين ولأنني مسلح وبكلّ انضباط وبكلّ طاعة تقبّل الجميع هذا الأمر وبدأت توزيع الحراسة حول الطاحون وبأطرافها والتلال المحيطة بها بانتظار عودة المجموعة من مهمتها… أداء وتنفيذ دقيق وطاعة مثلى لن تجد مثل هذا حتى في الجيوش والتنظيمات، الأداء يكون أمراً خارج النفس ينفذ لأنه جزء من شروط الانتظام والتراتبية الوظيفية… وعدم التنفيذ والاعتراض يعتبر تمرّداً وعصياناً… ولكن في المدرسة القومية هنالك أصحاب رسالة تغيير وتكوين جديد… أداؤهم جزء من إيمانهم بأنهم يمثلون الانتصارات الكبرى لأمة أبت أن يكون قبر التاريخ مكاناً لها في الحياة… إيمانهم الجديد بالحياة الجديدة دفعهم لتقديم النفس والنفيس في معركة الحياة الكبرى…
سعاده… أيّ جيل رائع لهذه الأمة كوّنت فأعطيت جيلاً إيمانه بالحياة هي قدرته على العطاء وانّ الحياة وقفة عز فقط… علّمتنا أننا قوم لا نلين للبغاة الطامعين، أرضنا فيها معين للأباة الميامين… كيف اجتمع كلّ هذا النسيج المتناقض المتنافر المتباعد المتناحر عند الآخرين وكوّن في المفهوم القومي الوحدة القومية الاجتماعية الصحيحة التي تتكفل بإنهاض الأمة، من يصدّق انّ قواويش السجون وكلّ منها تضمّ العشرات من السجناء القوميين يقضون أحكاماً بالسجن لسنوات يعيشون حياة عائلية متجذّرة في نفوسهم لأنها وليدة تربية فكرية رسمت أمامهم طريق الوطن وطريق السماء. طريق الوطن هو طريق الحياة وطريق الحياة واحد لا يسلكه إلا الأحياء وطالبو الحياة، ونحن منهم…
|