نحن هنا منذ أن آمنّا أنّ الله كلمة وحق، والحق استمرار..
نحن ورثة الشهداء الأوائل طليعة قافلة المجد لشهداء الهيكل الذين شنقهم السفاح التركي جمال باشا في 6 ايار 1916.. هؤلاء هم كهنة هيكل الرأي والكلمة الحرّة.. شنقوا لأنّ الملائكة والشياطين لا يجتمعون وهنالك قرادية من الشعر الشعبي للشاعر عجاج المهتار يقول فيها:
والمصلح بين الجهّال
يا مخوزق يمّا مصلوب
الإعلاميون هم مداميك الحرية وأجنحتها، ونحن لم نكن دخلاء على الميدان الإعلامي بل نحن بناته الأوائل..
فالصحافة هي رسالة خالدة والصحافي هو قائد من قادة الكلمة، يقود ولا يُقاد، يُحرر بإرادته وتحرّر عقله لأنّ الصحيفة هي كما قال تولستوي «نفير السلام وصوت الأمة وسيف الحق القاطع، ومجيرة المظلومين وشكيمة الظالم، تهزّ عروش القياصرة وتدكّ معالم الظالمين…»
هنالك ودّ مفقود دائماً بين الحق والباطل، بين الشجاعة والجبن، بين الصدق والكذب بين حامل القلم وحامل العصا والسكين..
الصحافة هي رسالة، دعوة وكما الرسل عذّبوا وصلبوا وكما الدعاة اضطهدوا كذلك هو مصير أهل القلم والصحافيين وهنالك مثل يقول: «يا قاتل يا مقتول.. إلا الصحافي وحده لا يُقال له قاتلاً لأنه كان دائماً مقتولاً فهو شهيد الكلمة والقضية حامل رسالة متميّزة وهو شهيد حي من شهداء الكلمة.. نحن شموع المعبد وشموع معبد الكلمة لا تنطفئ. فكلما انطفأت شمعة أشعلت شمعة أخرى بدلاً عنها. ففي هذا المعبد الكثير من الشموع المضيئة والتي لا تزال تضيء. وهنالك الكثير من البخور يعطر أجواءه. فهذا المعبد هو مركز الصلاة للكلمة الطيبة المقدّسة الطاهرة النقية التي يحرسها كهنة طهّروا أنفهسم ووقفوها لخدمة هذه الكلمة وحمايتها من الدنس والفجور.
حراس الهيكل وسدنته الأطهار توارثوا المناقب والقيم وقدّموا الدماء منذ ان تجنّدوا لخدمة الكلمة الحرة. فالحرية حمراء وهي دائماً عطشى للدماء لا لأنها مصاصة الدماء متوحشة بل لأنها تعيش وتنتعش على الدماء الطاهرة التي يقدّمها فداء لها أحرار أطهار، فتستمرّ وتحيا.
نكتب عن الصحافة وهي اليوم مستهدفة من قبل الكثير من الأنظمه والتنظيمات التي تمارس عليها الضغط والكبت وتكميم الأفواه وحيث لا ينفع الضغط والسجن فهنالك القتل والتفجير.
عندما لا يتوازن الردع مع الرعب لا يعود مستغرباً ما يحصل اليوم وما قد يحصل غداً، وأنّ أمة يخنق فيها الصوت الحرّ ويكسر القلم وتقيّد الكلمة الشريفة هي أمة مصيرها الزوال والفشل، يبقى دائماً شعار كلّ صحافي مؤمن برسالته «أنّ الدماء التي تجري في عروقنا هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها».
فأسرة الإعلام هي روح الفكر وأسلوب نشر هذه الروح لا يجعل الأسرة او العائلة الإعلامية أصنافاً وأجناساً، وأسرة الإعلام تزخر بالأسماء الناصعة الوهّاجة من أولئك الذين عملوا وسكبوا عصارة وجودهم على الورق فجعلوا منه حياة وحركة وإبداعاً وفي الأجهزة فملأوا السمع والبصر بأروع الثقافات والأخبار ونقلوا العالم إليك تراه بلحظات وتسمعه بثوان. الإعلاميون في كلّ ميادينهم سيوف حق وضمير إيمان وإخلاص في العطاء ومن خان شرف الكلمة سقط في حفرة المهانة والنسيان.
كثير من هؤلاء أصبحوا مرادفين للوجود خلوداً واستمراراً وجلهم من الصحافيين الذين أسّسوا هذا الصرح الشامخ الراسخ وهذا التراث الغني وأصبحوا كشمعة الشعانين يضيئون الطريق لجيل مقبل.. أسّس السابقون قواعد الإعلام يوم كان من يكتب ويقرأ ويغامر ويضحّي يعدّ على أصابع اليد. فهؤلاء من الرعيل الذي مدّ القرطاس ورفع الراس، سطر الأحرف وكان المتراس الثابت للحرية في الوطن وبلاد الاغتراب نرفع رايات شهدائنا على كلّ موقع من مواقعنا ونحتفل بهم باستمرار وبكلّ مناسبة وليس في 6 أيار تحديداً. فكلّما مشى القلم على الورق كان كسيف يشهر أو بندقية تطلق ودائماً وراء السيف او البندقية شهيد سقط او شهيد يتهيأ للسقوط ليسقي بدمه تربة الحياة والحرية.
ويقول النقيب المرحوم زهير عسيران عن الصحافة:
أحببت الصحافة منذ فتوّتي الأولى وكان طموحي أن أكون صحافياً حتى قبل أن أمسك بالقلم، فأكتب أول خبر في جريدة.
زاد في تعلّقي بها ارتباطها بالشأن الوطني وشعوري أنها منبر الشعب وقضاياه وسيفه وترسه. قد أدركت منذ شبابي الأول أنّ كلّ قضية تبقى مغيّبة، حتى تكون لها صحيفة، وكل كلمة بلا تأثير ما لم تطبع وتوزع وهذا وارد حتى في عصر الإذاعة والتلفزيون.
في أحد معانيها بل في أبرز معانيها، الصحافة هي السباق مع الزمن والجديد فيها من خبر ورأي، صاحب الحق في احتلال واجهتها الجريدة تولد في الصباح، وتشيخ قبل الظهيرة، وكم من صحافي شاب شعره وأوهنته السنون تجده أشدّ تمسكاً بمهنته كلما تقدّم به العمر كما لو انّها في نظره علامة القدرة على التجدّد والعطاء.
والمجتمع الداخلي الذي تخلقه الصحيفة لنفسها، يزيد في موهبة كلّ من فيها ويثقفه ويعلمه. فالصحافي هو ابن الصحيفة ولو كان صاحبها، انها تعلّمه قبل ان تجعل منه معلّماً في الناس، وكم علّمتني الصحافة عندما انتسبت اليها.
الصحافة مهنة لها أصولها وقواعدها ومستلزماتها وحقوقها. ولا يستحق صاحبها شرف الانتساب اليها، إلا بقدر ما يصدق في الالتزام بموجباتها.
أمّا انها ذات رسالة، فهذا أيضاً صحيح. ولكنّها مهنة أولاً شأن كلّ المهن الحرة. كالمحاماة والطب والهندسة وغيرها، انها كلّها بمعنى او آخر، ذات رسالة، ودماء الشهداء من الصحافيين تسبغ على مهنتنا شرف الرسالة، وعرق كتابها ومحرريها يطفي عليها روعة النضال، وكم من حاكم وذي سلطان أسقطته حملة صحافية فانتقلت السلطة منه الى آخر.
بالصحافة تكبر الدولة الصغيرة ويصبح الشعب الضعيف قويّاً في وجه الطغيان ايّاً كان داخليّاً، أو خارجيّاً مالياً أو مدنيّاً أو عسكرياً».
وقال نقيب المحررين المرحوم ملحم كرم: «إنّ شهداءنا رموز عالية منصوبة على آفاق الإنسانية. ونحن اذا لم نطمح في محنتنا الي استلهام وجوهنا المباركة، ظلّ التاريخ مثلوماً وبقي انساننا يحبو.
فيا أيها الباذلون حياتهم، لقد تمنى الكثيرون ان يزفوا نصركم في الشهادة. غلبتم القمع والإجرام، وفزتم في ساحة القيم والمناقب.
كلّ عام في مثل هذا اليوم نحدّد موعداً للتذكير بأولئك الرسل الذين هم كهنة الكلمة صدقوا في ما عاهدوا عليه.. اذا انحرف نفر عن طريق الرسالة.. فهذا أمر طبيعي، فهذه الرسالة شعار أبنائها تسقط أجسادنا وتنحرف بعض النفوس فينا، إلا انّ ارواحنا تبقى مشعّة ترسم حقيقتنا…
الصحافيون حملة الرسالة بصدق وتضحية وإيمان يتلون قبل نومهم وبدء يقظتهم دعاءهم الى الله:
أبانا الذي في السماوات… وعلى الأرض… وفي كلّ مكان وزمان… أنت الرحمن الرحيم، القائم معنا الحين… وفينا كلّ حين… ترحم وتحبّ وتقدّس وتوجه… وجهنا الى ما فيه خيرنا وخير العالم، وأعطنا، نحن معشر الإعلاميين أن نحملك في قلوبنا وأفكارنا، في أقوالنا وأعمالنا والتصرّفات.
وأن نحملك يا رب، يعني أن نحمل الحقيقة وأنت الحقيقة المطلقة. وأن نسير في النور، ما دام لنا نور وأنت نور العالم. وأن نعيش القيم والمبادئ السامية وأنت مصدرها وواهبها. وأن نحترم الآخر المختلف، والمجتمع المتعدّد وأنت من خلقت الناس شعوباً وقبائل، ومن أعطيت الوزنات للناس ووزعتها على قدر طاقاتهم والمواهب. أعطنا يا إلهنا ان نكون رسلاً للكلمة البناءة وللحرية المسؤولة وللرأي الواعي. وأن تكون رسالتنا الإعلامية، وكلّ هذه «الاكتشافات الحديثة» التي سمحت بوجودها بيننا، سبلاً لتقريب البشر من بعضهم البعض، وإحلال السلام في قلوبهم وفي العالم، وبناء الإنسان حتى نبلغ ملء قامتك… فيستريح الكلّ فيك… لك المجد الى الأبد.
وتبقى الكلمة المؤمنة النقية هي الكلمة التي سطرت ما قدّمه شهداء الصحافة وجنودها والذي يجب تجسيده بتمثال عظيم يشهد على انّ لبنان منبر للفكر الحر وعنفواناً وثباتاً. فالصحافة هي رمز البطولة والحرية والعنفوان.
فالصحافي جندي رسالته لا لعب فيها ولا بهلوانية يبني ولا يهدم، قلمه كبندقية تطلق رصاصة ان أساء تصويب الهدف او انحرف عنه ارتكب جريمة وأسقط ضحية، وإنْ أحسن التصويب شكل حاجز حماية ومنع العدوان… وهو فارس يمتطي صهوة الكلمة، يشهر سيفها يرفع رايتها ويبشر برسالة الحق «والقلم وما يسطرون» الفارس لا يطعن بالظهر ولا يقشر بسيفه البصل… قلم الصحافي هو سيف النخوة والنجدة والمروءة… وقلمه هو ساطر كلمة الحق والحقيقة، ومن انحرف بسيفه، ورصاصته ووجههما في غير هذا الطريق هو منتحل صفة الفارس واسمه وشكل الجندي ورسمه، ومدّعي البطولة ليس بطلاً بل باطلاً…
يوم اخترت الصحافة اخترتها لأنني أؤمن بأنّ طريق الحياه طويلة وشاقة ولا يثبت عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة أما الأموات وطالبو الموت فيسقطون على جانبي الطريق، فليس كلّ موت هو مجرد خروج الروح من الجسد فالأحياء الأموات كثيرون وأنا أريد أن أكون حياً في وجودي وبعد وجودي بما أتركه ورائي من أثر في بناء المجتمع المتطور.
والصحافة هي الرسالة التي بواسطتها يمكنني ان أحدث أثراً إيجابياً في مجتمعي، فهي يقظة وثورة وإرادة مصير ومن ملك هذة المقوّمات ملك زمام أموره وأمور شعبه، حيث بإمكان كلمة ان تشعل ثورة وبإمكان كلمة ان تساهم في بناء نهضة، فالصحافة تاريخ حافل مليء بجلائل الأعمال فعندما أختار أن أكون صحافياً أكون قد قرّرت ان يكون لي شأن في مجتمعي أعكس من خلاله آمال جيلي وتطلعاته المستقبلية، ولعلّ الصحافة هي الشأن الأول في جعل لبنان يتبوّأ هذا المركز وهذه المكانة بين الشعوب العالمية وفي الدول العربية ويكون بوابة الحرية فيها.
من أجل هذا كلّه نريد على باب الهيكل نصب قداسة يتصدّر مدخله، ينحني أمامه الداخلون خشوعاً للسموّ والسخاء في العطاء حتّى التضحية بالدماء إيماناً بالكلمة وروحانيتها.
أكرّر انه نداء فاسمعوا واستجيبوا!
|