هذه هي قياداتنا، ممثلون بارعون على مسرح أحداث أمتنا، وهكذا يقرّرون أمورها المصيرية.
مئة عام من تاريخ الوعد وسبعون عاماً من صدور قرار صكّ التمليك من الأمم المتحدة وبصمة إبهام القادة على صفقة الذلّ والاستسلام وسط التهاني والتبريكات ورقص الدبكة، انّ قبول الهدنة وما تلاها من وقائع وأحداث برهنت انّ العرب قد خسروا المعركة منذ ان وقّعوا قرار قبول قرار مجلس الأمن وقد كتبوا النهاية المأساوية لشعب فلسطين والأمة كلها… لقد مكّنت الهدنة اليهود من تثبيت دولتهم واستغلوا كلّ دقيقة من فترة هذه الهدنة في الاستعداد وجلب السلاح والمعدات وامتلكوا الطائرات والمدافع والدبابات وبدأوا في كلّ موقع يشعرون فيه بامتلاك القوة يتحرّكون خارقين الهدنة وشروطها، وحسّنوا مراكزهم القتالية وحصّنوا مستعمراتهم وخزّنوا المواد اللازمة.
انّ الطعنة الكبرى التي طعنها الانكليز في ظهر العرب واستفاد منها اليهود هي إخلاء ميناء حيفا في 24 نيسان 1948 وقبل موعد الانسحاب المحدّد والمعلن في شهر أيار انسحبوا قبل شهر، وأثناء فترة الهدنة، فأتاحوا لليهود فرصة تلافي النقص في التموين العسكري، اذ هيّأ لهم ميناء حيفا الفرصة وحققوا عبره وسائل التفوّق العسكري على العرب، وكان قد وصل إلى حيفا في 12 تموز عدد من السفن التي تحمل الأسلحة، الهدنة كانت المائدة الثانية التي نزلت على اليهود.. كانت منة من السما، هي السماء التي أنقذتهم وأذلّنا…!
فقد استغلّ اليهود هذه الهدنة الى أقصى الحدود وتدفق المقاتلون بمختلف أصنافهم وتدريباتهم واختصاصاتهم والسلاح وصل براً وبحراً من تشيكوسلوفاكيا وإيطاليا وروسيا وفرنسا ورومانيا وانكلترا وأميركا سلاح متنوّع طائرات حربية وطائرات قاذفة ومدرّعات ومدافع والأجهزة والمعدات والقادة المدرّبين.
كلّ هذا كان يجري ويعلم به القادة ولم يثيروه ولا مرة أمام مجلس الأمن ولم يحركوا ساكناً من أجل عرقلته، والمؤلم انّ القادة العرب ينطبق عليهم المثل الذي يقول: «يقتلون القتيل ويمشون في جنازته». ولنعش صورة تلك المرحلة من الخداع والتواطؤ ما علينا سوى العودة الى تصريحات وأقوال القادة في تلك الفترة:
قال الملك عبدالله: وافقت اللجنة السياسية على الهدنة لأنها عالمة بأنها ستفوز انشاء الله بحق العرب الكامل في فلسطين انْ سلماً او حرباً… انّ اللجنة كانت حكيمة في قبول مبدأ عدم إطلاق النار طوال المدة التي اقترحتها بريطانيا، وهذا يثبت انّ العرب هم الذين أصبحوا قادرين على تنفيذ ما اعتزموه…
من حق اللجنة السياسية ان تُهنّأ على قرارها هذا، وأعتقد انّ العرب قد كسبوا المركز اللازم لهم في منظمة الأمم المتحدة وفي الرأي العام العالمي، وأننا لمصمّمون على التمسك بالحق الكامل للعرب ». يا سلام…
وقال رياض الصلح رئيس وزراء لبنان: «انّ هذا القرار ليس الا وقفاً لإطلاق النار مدة معينة كما يأمل العرب وعدالة قضيتهم… وانّ العقل والحكمة أمليا قبول اقتراح مجلس الأمن… ومن الحكمة ما قتل ولا زال باعة فلسطين مجهولين في نظر شعوبهم .
وقال جميل مردم بك رئيس الحكومة السورية: «انّ الدول العربية تساهلت كثيراً بعدما أحرزت من النجاح العسكري، وانّ الهدنة فرصة جديدة لتسوية صحيحة وقد بهرت جيوشنا العالم ببسالتها… وقد نزلنا على رغبة الأمم المتحدة حقناً للدماء وانّ السيف في يدنا وقد نعود لإخراجه!»
هذا الكلام وهذه العنتريات تذكرنا نتيجتها بالقول الشعبي: «تيتي تيتي مثل ما رحتي متل ما جيتي».
هكذا وبمثل هذا ضاعت ثمار ما حققه المقاتلون والجيوش وكانت نتيجة هذه الهدنة وهذه الخطابات المخدّرة المسكنة… انّ الدولة اليهودية قامت واستمرّت ونالت اعترافات العالم» كانت مزعومة فصارت معلومة لقد تمّ وقف القتال والمبادرة وزمام الامور بيد العرب واليهود في رعب وقلق… وانتهت الهدنة واليهود مطمئنون الى غدهم وغد العرب كان علمه عند الله وقارئي الغيب…
استفاد اليهود من الهدنة وحصلوا على اعترافات ما يزيد عن عشرين دولة بدولتهم فاكتسبوا الشرعية القانونية لها. ومقابل كلّ هذه الخروقات كانت الدول العربية ترفع عقيرتها بالشكوى والصراخ والجيوش تحافظ على كلمتها وتطيع أوامر حكوماتها الملتزمة بدقة بالهدنة!
العرب كانوا يرفضون الهدنة لمعرفتهم بأضرارها على قضيتهم ومع هذا قبلوها وقفوا صامتين أمام الخروقات التي قام بها اليهود ولم يحركوا ساكناً سوى الاحتجاج المبحوح… تنفيذاً للمتفق عليه.
المضحك المبكي في هذه المسرحية المأساة وبعد كلّ ما مرّ تبادل الملوك والرؤساء التهاني، فكان الملك عبدالله صاحب الاجتماعات السرية مع غولدا مائير وقادة «إسرائيل» وصاحب الوعد بأنّ الجيش الأردني سيشارك في التحرك العسكري ولكنه لن يحارب هذا الملك وغيره من قادة العرب صدّقوني تبادلوا برقيات التهاني على ما أظهرته جيوشهم وهذا بعض مما تبادلوه:
أما الملك عبدالله فقال: «إننا سنسير في طريقنا الذي رسمناه رغم جميع المحاولات التي تبذل لأننا أصحاب حق والحق فوق القوة.
اننا عزمنا على تخليص فلسطين إنْ حربا وإنْ سلماً وسنستمرّ في عزمنا حتى النهاية بفضل ما نلقاه من الشعوب العربية من تأييد في جميع تحركاتنا وانّ ساعة الصفر قريبة».
الوصي على عرش العراق قال: «انّ العرب أجمعوا على إنقاذ فلسطين في الحرب وهم ما زالوا مجمعين على ذلك في فترة الهدنة، وسنعود الى النضال اذا دُعينا اليه…» ولكنهم لم يدعوا ولم يقاتلوا..
«إذا لم تستح فافعل ما تشاء»!
انني أسأل الجميع هل يذكر أحد في بلادنا مناسبة قومية مهمة، وخاصة وعد بلفور في ذكراه الأخيرة، اذا كان عقد ندوة او مؤتمر او مهرجان للمناسبة في الخليج كله ولو لمرة واحدة، ولماذا لم يعقد مؤتمر ومهرجان كالذي أقيم لترامب رئيس الولايات المتحدة يوم زار السعودية؟ ولماذا لم يدفع مبالغ مثل التي دفعت له لمساعدة المشرّدين الفلسطينيين في المخيمات؟
انتهت قضية فلسطين، وما زال الأعراب يمارسون نفس أدوار العمالة فبعد حرب لم يخوضوها أصبحوا سماسرة المفاوضات والتسويات وصكوك التمليك وتطويب فلسطين بشكل قانوني ونهائي لليهود، لقد صنع الاستعمار من هؤلاء المشايخ والأمراء حكام دول وهمية، ليكونوا يوماً ما صوته وسوطه وهذا هو دورهم يمارسونه بإيمان وحماس، صدق القول الكريم: «والأعراب أشدُّ كفراً ونفاقاً».
غداً يبدأ تسجيل تاريخ جديد وسيكون عنوانه بعد وعد بلفور وقبل وقفة العز.
انّ المؤامرات الأخيرة التي نظمتها «إسرائيل» وأميركا وعربان الخليج لتفتيت الأمة وتثبيت السيادة الإسرائيلية وإتمام تمدّدها عبر مشروعها من الفرات إلى النيل والتي أفشلتها البطولة المؤيدة بصحة العقيدة وحققت النصر على مكوّناتها كما أفشلت قبلها المحاولة الإسرائيلية في حربها على لبنان عام 2006.
هذه هي كلها ولادة مرحلة جديدة في أمتنا سيتمّ خلالها وضع حدّ للخنوع والذلّ والاستسلام ونردّد قول سعاده: «اننا لا نريد الاعتداء على أحد ولكننا نأبى أن نكون طعاماً لأمم أخرى، اننا نريد حقوقنا كاملة ونريد مساواتنا مع المتصارعين لنشترك في إقامة السلام الذي نرضى به وإنني أدعو اللبنانيين والشاميين والعراقيين والفلسطينيين والأردنيين إلى مؤتمر مستعجل تقرّر فيه الأمة إرادتها وخطتها العملية في صدد فلسطين وتجاه الأخطار الخارجية جميعها وكلّ أمة ودولة إذا لم يكن لها ضمان من نفسها من قوّتها هي فلا ضمان لها بالحياة على الإطلاق.
يجب أن نعارك يجب أن نصارع، يجب أن نحارب ليثبت حقنا. وإذا تنازلنا عن حق العراك والصراع تنازلنا عن الحق وذهب حقنا باطلاً، عوا مهمتكم بكامل خطورتها ولا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل».
|