عندما تمرّ الذكريات التاريخية نقف أمامها مستعرضين ما تضمّنته وحوته من عبر ومواعظ وعناصر بعث الحياة، والآن تمرّ ذكرى وعد بلفور في 2 تشرين الثاني من عام 1917، أيّ الوعد الذي صار عمره مئة وعامين 102، والنكبة التي تبعت هذا الوعد ونفذتها بريطانيا وأميركا ونشأت اثرها الدولة اليهودية التي صار عمرها 71 سنة.
أمام هذه الذكرى الجارحة الأليمة نستعيد قول الزعيم عام 1937 حيث قال:
«إني اخاطبكم اليوم والوقت ليس وقت فرجٍ، والصعوبات لم تُزل من طريقنا. وقد تكون الصعوبات المقبلة أكبر من الصعوبات التي اجتزناها. ولكن كلّ هذا كان منتظراً عندي قبل مجيئه. فإذا تذكرتم كلامي الذي خاطبتكم به في أيام الكورة سنة 1937 وجدتم اني حسبت كلّ الشدائد التي ستأتي ونبّهتكم إليها.
قلت لكم: انّ العراك بيننا وبين القوات الرجعية والإرادات الأجنبية لم ينته ولا بدّ من ان يستمرّ. فكلما ازددنا نمواً وتقدّماً ازداد الضغط واشتدّ العراك. ولن تكون للقوميين راحة حتى يتمّ النصر .
وقد قلت لكم: إنّ طريقنا طويلة لأنها طريق الحياة. انها الطريق التي لا يثبت عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة أما الأموات وطالبو الموت فيسقطون على جوانبها!
القضية القومية المقدّسة تنمو وتتقدّم متغلبة على جميع هذه الصعوبات. فلا استمرار الحرب، ولا توالي المحن، ولا سقوط الفاشلين، يُزعزع مقدار ذرة من إيماننا بالنصر.
نحن القوميين الاجتماعيين، نفتخر بأننا حاربنا بشيء أساسي بوعينا لحقيقتنا وإيماننا بها، ولم نحتج الى الميعان للإبقاء على نفوسنا، اننا نعتقد انّ لنا نفوساً لا يمكن ان تذوب وتفنى، قد تسقط أجسادنا أما نفوسا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود. ولا يمكن ان تزول، وفي حربنا لم نستغث، في جهادنا لم نطلب نجدة ولم نستنجد، في جهادنا حملنا حقنا وسرنا مؤمنين. انّ النهضة القومية الاجتماعية قد وضعت على أكتافنا عبئاً كبيراً عظيماً، لأنها تعرف أنها أكتاف جبارة وسواعد أبطال. انّ كلّ ما فينا هو من الأمة وكلّ ما فينا هو للأمة، الدماء التي تجري في عروقنا عينها، ليست ملكاً لنا، هي وديعة الأمة فينا متى طلبتها وجدتها.
لذلك نحن حركة صراع، لذلك نحن حركة قتال، حركة صراع بالمبادئ التي نحمل، وقتال بالدماء الحارة التي تجري في عروقنا والتي سوف تحوّل أرض هذا الوطن الى وطن الزوبعة الحمراء المنطلقة لتحطيم كلّ نذالة وكلّ قبح، ولتصل بهذا الشعب الى المجد .
وجاء في خطاب للزعيم في أول آذار من عام 1938: ما أقوله في صدد لبنان والشام أقوله في صدد فلسطين، فالسياسيون الكلاسيكيون هناك لم يتمكّنوا من إيجاد أيّ دفاع مجد يصدّ الخطر اليهودي، لأنّ أساليبهم لا تزال من النوع العتيق المسيطر فيه الصفة الاعتباطية والأنانية والمغرّرة للشعب. ولا بدّ لي من التصريح في هذا الموقف انّ الخطر اليهودي هو أحد خطرين أمرهما مستفحل وشرّهما مستطير. والثاني هو الخطر التركي. وهذان الخطران هما اللذان دعوت الأمة السورية جمعاء لمناهضتهما.
وكرّر التحذير في عام 1947 اذ قال: «لعلكم ستسمعون من سيقول لكم انّ انقاذ فلسطين، أمر لا دخل للبنان فيه. انّ إنقاذ فلسطين أمر لبناني في الصميم كما هو أمر فلسطيني في الصميم كما هو أمر شامي في الصميم، انّ الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها. كلمتي اليكم هي العودة الى ساحة الجهاد».
وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور وعد، ولكن أميركا دعمت وساعدت وحققت الوعد المشؤوم…
لقد مسّت الولايات المتحدة كرامة السوريّين وأهانت شعورهم الوطني عندما صادق مجلسها على وعد بلفور بجعل فلسطين «وطناً قومياً لليهود»…!
اننا لا ننسى وعد بلفور وما نتج عنه في بلادنا ولن ننسى ما قام به الرئيس الأميركي ترامب باعترافه بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل» ونقله السفارة الأميركية إليها.
ولم يكتف بكلّ هذا بل صار السخاء بالاستيلاء على أوطاننا وتقديمها هبة لأعدائنا جزءاً من أخلاقيات حكام الولايات المتحدة وسلوكهم السياسي. ترامب أعلن بكلّ وقاحة اعترافه بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل» ونقله السفارة الأميركية إليها، أعلن في تغريدة له الاعتراف بسيادة «إسرائيل» على مرتفعات الهضبة السورية المحتلة الجولان، الأمر الذي يشكل هدية ثمينة لحليفه «الإسرائيلي».
وكتب ترامب: بعد 52 سنة حان الوقت كي تعترف الولايات المتحدة تماماً بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان .
وقال إنّ الجولان، المنطقة الاستراتيجية التي استولت عليها إسرائيل من سورية في حرب 1967 وضمّتها اليها في خطوة لا يعترف بها المجتمع الدولي، ذات أهمية استراتيجية وأمنية بالغة لدولة إسرائيل واستقرار المنطقة .
ويعيش في الجولان نحو 20 ألف مستوطن إسرائيلي .
وكتب نتنياهو على تويتر : في وقت تسعى إيران الى استخدام سورية منصة لتدمير إسرائيل، يعترف الرئيس ترامب بجرأة بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان. شكراً للرئيس ترامب .
كما حظيَ قرار ترامب بموافقة سريعة من السناتور الجمهوري ليندسي غراهام الذي يحضّ الكونغرس على الاعتراف بالسيطرة الإسرائيلية على الجولان. وكتب غراهام على تويتر : انّ قرار الرئيس ترامب الاعتراف بالجولان كجزء من إسرائيل قرار حكيم استراتيجياً ورائع بشكل عام. أحسنت سيدي الرئيس . وغيّرت وزارة الخارجية الأميركية وصفها لتلك الهضبة من محتلة إلى التي تسيطر عليها إسرائيل .
وهي الخطوة الثانية تفجّرها واشنطن، الحليف القوي لـ إسرائيل ، في مساعيها لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. ففي 2017 كسر ترامب تقليداً استمرّ عقوداً واعترف بمدينة القدس المختلف عليها عاصمة لـ دولة إسرائيل عوض تل أبيب.
كما أزالت وزارة الخارجية وصف المحتلة عن الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة التي تحتلها إسرائيل .
واحتلت إسرائيل هضبة الجولان والضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة في حرب 1967. وبعد ذلك ضمّت الجولان والقدس الشرقية في خطوة لا يعترف بها المجتمع الدولي.
اننا مؤمنون بأنّ وعد بلفور ليس هو سيف النكبة بل الباب الذي عبرت منه هذه النكبة. انّ ضياع فلسطين وقيام الخطر الصهيوني اليهودي المتمثل بدولة إسرائيل ليس إلا نتيجة التواطؤ والخنوع الذي تمثل بدول الخليج بكلّ امتداداتها منذ أيام شريف مكة وأولاده إلى حماة الحرمين الذين كافأوا ترامب وأميركا بمنحها نحو 600 مليار دولار هبة شكر ومودّة على مؤامراتها، وآخرها ما قامت به البحرين التي أقامت علاقات سياسية حكومية مع دولة إسرائيل وفتحت أمامها الأبواب لحضور مؤتمرات عالمية دولية امتنعت عن حضورها دول سورية الطبيعية باستثناء الأردن، والمهزلة انّ المستشار الأميركي أعلن انّ الباب مفتوحاً أمام الفلسطينيين للمشاركة.. وكان سلطان عُمان قد استقبل في مسقط رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو.
نستذكر وعد بلفور لنعيد لأذهان أجيالنا صورة المؤامرة التي تعرّض لها وطننا وسُلبت منه فلسطين كما سًلبت الاسكندرون وامتداداتها..
الأرض التي لا يوجد من يحميها يكثر اللصوص حولها.. ولنذكر دائماً ما قاله سعاده: لم يتسلط اليهود على جنوبي بلادنا ويستولوا على مدن وقرى لنا إلا بفضل يهودنا الحقيرين في ماديتهم الحقيرين في عيشهم الذليلين في عظمة الباطل.
انّ الصراع بيننا وبين اليهود لا يمكن ان يكون فقط في فلسطين بل في كلّ مكان حيث يوجد يهود قد باعوا هذا الوطن وهذه الأمة بفضة من اليهود، انّ مصيبتنا بيهودنا الداخليين أعظم من بلائنا باليهود الاجانب.
وتأكيداً لهذا القول الحكيم الواقعي وتثبيتاً له جاء قول القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني قائد الجهاد في منطقة القدس في رسالة وجهها الى أمين عام الجامعة العربية يحمّله فيها المسؤولية عن هزيمة جنوده لعدم مدّهم بالعون العسكري.
فقد جاء استشهاد قائد جيش الجهاد المقدس بعد يومين من رفض اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة للجامعة العربية التعاون معه وتزويده بالسلاح اللازم لإنقاذ القدس والمحافظة على التفوّق الذي حققه المجاهدون في معاركها. حيث صرخ في وجه رئيس اللجنة مطلقاً شهادته للتاريخ: «أنتم خائنون أنتم مجرمون، سيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين».
ذلك الحين، بدأ الوضع في التدهور، خاصة مع قيام اليهود بمذبحة دير ياسين لاحقاً، وتتابع سقوط مدن فلسطينية مهمة مع عمليات تهجير جماعي للفلسطينيين، فسقطت مدن: طبريا في 19 نيسان، وحيفا في 22 نيسان وبيسان وصفد في 12 أيّار، ويافا في 14 ايّار.
الأنظمة باعت البلاد منذ اللحظة الأولى، والشعوب والوطن كانت الضحية.
في 13/9/1948 اجتمع فوزي القاوقجي وحسني الزعيم قائد الجيش السوري برئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي وحضر الاجتماع رئيس وزراء سورية جميل مردم بك ورئيس حكومة لبنان رياض الصلح، وشرح القاوقجي أهمية منطقة ماروس ، وطلب أن يسلّموه مدافع هاون وذخيرة رفض المجتمعون طلب القاوقجي وأشاروا عليه بالانسحاب من ماروس .
قال فوزي القاوقجي على أثر ذلك: لم أكن أتوقع مثل هذه الصدمة في حياتي .
انتهت معارك 1948 بانتصار العصابات اليهودية وهزيمة جيش الإنقاذ وسائر جيوش العالم العربي. ولكن الهزيمة كانت سياسية لا عسكرية، بدليل انّ معظم المعارك التي قادها غسان جديد وسائر القادة المتطوّعين من السوريين، لم تكن لصالح اليهود.
ولكن الحكومات التي اشتركت في الحرب، كانت تحوّل النصر الى هزيمة، سواء بحجب الذخيرة عن جيوشها، او بإصدار الأوامر بالانسحاب من المواقع الاستراتيجية والمتقدمة…
|