كَسَرَ فتية فلسطين في «جمعتهم الخامسة» لمسيرة العودة، الصور النمطية الحزينة التي كانت تلازمنا منذ سنوات، فيها أجراس الكنائس وأصوات المآذن، حتى رائحة برتقال يافا خفتت لدرجة أننا أحسسنا وكأنها ماتت.
فلسطينيو الداخل سألوا حنظلة سابقاً، وبعد ثلاثين عاماً على استشهاده.. لماذا الدهر كئيب وقانط الى هذا الحد يا حنظلة؟ هل لأن فلسطينيي الدهر.. يبدون وكأنهم يسكنون الدهر. ألم يقل لهم محمود درويش «خذوا الهواء صديقاً و… معطفاً»!
عندما تصبح رؤية الشمس أمنية، تهمس بها أفواه مقيَّدة بكلمات مكبَّلة، تبدو المعاني مشتتة بين الحنين لتنَسُّم عبق الحرية، والرغبة في الانعتاق من ظلمة ضعفنا المطبقة، وكأننا داخل زنازين بلا جدران رسمناها نحن ووضعنا أنفسنا داخلها، راسمين عبرها ملامح الحرية التي تأتينا من فلسطين وتصدمنا بثمنها الغالي من العرق والدماء وتدمير البيوت. ها هم يوثقون آهاتهم ومعاناتهم من خلال إطلاق «جمعتهم الخامسة».
هل حقاً نحن من الطينِ ذاته مع هؤلاء الذين جاؤوا من أساطير يهوه؟ هُم يحملونَ الأوطانَ بكذبة في المعاملة من دون حاجة لتصريحٍ صاخب على منابر كلامٍ منافق أو إعلانٍ فارغ.. ونحنُ طرائد وطنٍ تتعلّمُ الصيدَ بأجسادِ أبنائها وتهبُ الموتَ شهادة ولاءٍ لأرض تُتيحُ لهم فرصةً لعشاءٍ باذخٍ في ملكوت السماء.. نحن خُلقنا كي يُلاحقَ العالم ومضةً البرقِ في سمائنا وهو يرى كيف ينشرُ الشهداء الأخضرَ على سِعَةِ اليابسِ في كونهِ لتزهو مرايا النسيم بوجهِ أطفال يبتسمون في فضاء فلسطين.
يتغابى العدو عما تكوّنَ فينا قبلَ أن يكونَ لهم مرْبَعٌ في بلادنا الممتدة منذ أكثر من عشرة آلاف سنة وحضارة معمّرة لم تنلْ منها معاول الوهابية التي خرجت من مؤخرة التاريخ.
أقول لك يا فلسطين، منذ انهمار ضوء يسوع على الكون كنتِ تتجوّلين في مقدّمة الهواء عندما كنتِ تلوحين يوماً بأكمام السماء كي تتلمّسي الظهيرة المشبعة بالأنفاس وهي تتمايلُ كلّ لحظة بظلال من الحب.
لا تزالين يا فلسطيننا قوساً روحياً أخضر يتعثر بلحية نبوخذ نصر وهو ينقشُ شعارات نصره على الشاطئ السوري، ويسبي اليهود وخرافاتهم ليعلمهم الزراعة والكتابة في بابل، ومن هناك سطّروا كتابهم «التوراة» بالمزامير والأساطير السورية.
تمرّ صور شهدائك أمامنا كشقائق النعمان تتدلّى حلماتها في فم النحل حين يسري الشهد بروح التاريخ الكنعاني وهو يخرجُ من خزانته رسائل حياة وحضارة.
لا تزالين يا فلسطين تشاكسين تاريخك المألوف في سوق عكاظ كأنّ سرّتك قيثارة بابل تعزفُ سيمفونية للإله مردوخ بعدما مرّت سنون وقرابين المعبد ولا تزالين تنسجين خيوط حريرك بنوافذ أحلامنا.
يقول الشاعر محمود درويش: «إننا ننسى أن السَجَّان هو، بصيغة ما، سجينٌ: إنه سجينٌ بلا أُفُق، ولا يحمل أيّ رسالة… أما السجين، فبالمقابل، يُغَنّي، وهو في أعماق نفسه يُحِسُّ بأنه أكثرُ حريةً من سجّانِهِ».
ولكن هل توجد نقاط مشتركة بين «التراجيديا» القديمة و»التراجيديا» الجديدة التي يسبّبها الاستيطان اليهودي لفلسطين؟
لا شك في أن الآلِهَةَ عند الإغريق هي مَنْ تُقَرِّرُ، هذا هو القَدَرُ. المُؤَلِّفُ القديمُ يَصِف بَطَلاً تتكسَّرُ حركاتُه وكبرياؤه بسبب إرادة الآلِهَة، بينما ما يحدث الآن في فلسطين، شيء آخَر من البطولة. لا يوجد في مأساتنا قَدَرٌ، وإنما الرغبة في تغيير الأشياء هي التي تُحَفِّزُ الأفعالَ.
ذات يوم كتب لوي أراغون عن «مناديل المرمر في غرناطة». الآن مناديل الدم في فلسطين.. اللغة العربية إبنة اللغة الآرامية التي كانت ذات يوم ناطقة باسم الله هي الآن الناطقة باسم الدم، ومن أجلك يا فلسطيننا هذا القليل.
|