أخذتْ دلالات ورموز الاستشهاد في حياتنا اليومية بعداً جديداً، خصوصاً بعد استشهاد الزعيم أنطون سعاده، لتصبح لغة حقيقية تُغني عن الجمل أو الكلمة المفردة. وقد انسحبت هذه الدلالات والرموز على مفاصل حياتنا ومنها الحياة الثقافية. فعندما نتذكر وقفة عزه فجر الثامن من تموز يتبادر إلى الذهن دور الموت الملحمي. وإذا ما قلنا سعاده فهو دلالة على أن الموت في سبيل العقيدة والفكر هو حياة أخرى لا يفقهها إلا الذين نذروا أنفسهم في سبيل نهضة وطنهم وأمتهم.
فالشهادة هنا كرمز ودلالة ثقافية تعمّق فكرة انتماء السوري لأرضه، لأن طابعها الروحي جعلها لصيقة ودائمة في مجتمعنا، بحيث كلما مر زمن عليها ازدادت ثراء وقوة، وهي عكس الرموز المفتعلة التي تظهر فجأة لتختفي وهذه لا تؤسس لخطاب سياسي أو ثقافي وقومي دائم إنّما تؤسس لخطاب فردي غير ثابت يدلّ على المحاصصة السياسية فقط.
لطالما كانت الأسئلة مجسّات المعرفة، وتجليات الفكر الفعّال. وقد تكون مؤشرات العبقرية والخلق. وهي كذلك عند سعاده، ودائماً ما كان العباقرة بأسئلة مهمة ومنذ الطفولة هل نتذكّر أسئلته وهو في ريعان الشباب ومثلها المجتمعات التي هي في سباق نهضوي… فالأسئلة مفاتيح للإضاءة ولا يطرحها غير العقل الفعّال والنظام المصمّم على العمل، وعلى البحث عن العلل والأسباب للمتاعب والعقبات والظواهر… ولتطوير الحياة، ولذلك جاء سؤال سعاده الفلسفي: مَن نحن؟ واستتبعه بسؤال آخر: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ لتأتي الإجابة على هذه الأسئلة من «الرملة البيضاء» في الثامن من تموز 1949: «أنا أموت أما حزبي فباقٍ..».
فهل كنتَ يا زعيمي تسْتعْجل رسم قبْلتكَ على جبين الأرض، كي يكون الرحيل إليها معطّراً بالحب؟
هكذا خرج سعاده عن المألوف باستشهاده الجريء، وبأفكاره التّحرّريّة، التي أبت إلاّ أن تُعارك «الحقائق» الناقصة.
لقد خطف لحظات حياته من الوجود، وراح «يُغازل» بياض الأوراق بمبادئه الخاصّة، وكتبَ أنَّ الشّرف السوري لا يُقاس بما يُغطّي أجسادنا من الأقمشة، ويدُكُّ جدار الزّمن بمعوله فيُسمع العالم الحُرّ صدى وهَول صرخته.
ها نحن اليوم، وبعد تسعة وستين عاماً، لا نزال نتوضّأ بغبار الرملة البيضاء التي عُجنت بدمائك الزكية.. وفي كل تموز نوقد شمعة عودتك إلينا كأنك نسر في حومة السماء.. تراقب أعراس أبطالنا الذين ارتدوا الشهادة ثوباً يتسابقون بحناء أوردتهم في هودج الإصرار.
ففي كل صبغة من ورقة ورد منتشية على ضفاف «الفراتين»، بردى، نهر الأردن والليطاني، يوجد اسمك ممهوراً بالكبرياء الواسعة والفضفاضة وهي تدور مع نواعير حماه المغسولة بالعطور غير المعلن عنها.
نحن من دون فكرك ضائعون تائهون خائفون جائعون للنور بلهفة العيون المتسرّبة كخيوط العناكب من ثقوب الزمن الحافي.
اليوم تتساقط الألوان المتمنطقة بالوجوه الغائبة عن الكلام، فإذا بها تزهر سواعد أبطال متأهّبة لصد غزوات العناصر الدخيلة على حديقة الزهور. فماذا علينا أن نفعل، يا زعيمي، حتى نعيد ألواننا وأصباغنا الى سابق بهائها من الحياة والحيوية؟
|