أسئلة عديدة يطرحها المراقبون في علم صناعة الأزمات في تركيا منذ تسلّم حزب «العدالة والتنمية» مقاليد الحكم في تركيا، خصوصاً أن الأزمات بحد ذاتها لا تسير دوماً في خطوط مستقيمة، فقد يكون عدوك أكثر صلابة منك وصرامة ولديه في جعبته حيل غير متوقعة، وسيقود سوء تقديرك هذا الى الإضرار بك من حيث لا تدري، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو نموذج للعدو الذي يجب ان تتوقع منه كل شيء.
على الصعيد الداخلي، كيف فكّك أردوغان الدولة التركية، وكيف خسّرَ الدولة التركية طابعها المؤسسي؟ وهل سيلقى مشروعه لـ «تركيا الجديدة» مصير مشروع «ضياء غوك الب» 1876 1924 ، منظر حزب «جمعية الاتحاد والترقي»، وينتهي الى كارثة مماثلة لتلك التي وقعت قبل قرن، من انهيار للسلطنة العثمانية وإبادة للسريان والأرمن والأكراد؟
لعل الحق يُقال إن العام 2010 كان منعطفاً «في تعاظم وتيرة التفكك هذه». ومذاك، صار حزب «العدالة والتنمية» في مثابة قوقعة فارغة ومجوفة. وتعاظمت وتيرة تذرر أجسام أو أدوات القوة والإلزام، كالجيش، وقوى الأمن الداخلي، وأجهزة الاستخبارات..، في وقت بدا شلل مجلس النواب، وعقد السلطة القضائية ينفرط على وقع عزل آلاف من أعضائها أو القبض عليهم، بعد مسرحية الانقلاب الفاشل.
وكان بدء التذرر هذا وراء فصول من تاريخ تركيا المعاصرة مثل الانقلابات الناجحة أو تلك الفاشلة في 1960 و1963 و1971 و1978، أو حرب المخدرات الأمنية في التسعينيات، تحت حجة محاربة حزب العمال الكردستاني.
وغالباً ما يوصف أنموذج السلطة الأردوغاني بالبونابرتي أو «الديمقراتوري» نظام على رأسه مستبدّ ينفخ في المشاعر القومية العنصرية والعقيدة الدينية . وهو انموذج يتوسّل بمنطق الإجماع والولاء على خلاف الاختيار والانتخاب لتقويض نتائج عملية اللعبة الديمقراطية وإطاحتها وتفريغها من محتواها أو مغزاها والغاية منها!
وهكذا قلل أردوغان من شأن الديمقراطية وتعدد الأفكار والآراء، بعدما اطاح بالدستور واصبح رئيساً للجمهورية التركية منذ 28 أغسطس 2014، ورفع عالياً شأن مقولة إن لم تكن معي فأنت ضدي.. وأنموذجه ذلك الذي يجمع الهيمنة الى الاحتكام الى الولاء والإجماع. يجرِّم السياسة وهي دائرة نزاع يقتضي التوافق والخلاف ويصف الأكراد والوجهاء العلويين والمثقفين الليبراليين أو اليساريين بـ«أعداء الأمة». ولا ينفك يعيد ويكرر أن مشروعه يرمي الى تحويل تركيا «قوةً عالمية» وإنجاز المشروع هذا يربطه أردوغان بثلاثة تواريخ: مئوية الجمهورية التركية في 2023، والذكرى الستمئة لفتح اسطنبول في 2053، وذكرى ألف عام على بلوغ الأتراك آسيا الوسطى في 2071 .
وترافق خطاب التخوين مع خطاب الحرب المزمنة على «أعداء الداخل والخارج»، ورسخ الخطاب هذا، شيئاً فشيئاً، في المؤسسات، وانزلقت تركيا الى جو أورويلي نسبة الى جورج أورويل صاحب «الأخ الأكبر» من غير أن تعرف مَن هو العدو على وجه التحديد، وصارت «إسرائيل» حليفة بعد أن كانت في الإعلام، والإعلام فقط، عدوّة!
لقد فاقمت استراتيجية أردوغان الأمنية عملية تذرر المجتمع وتفككه، وهي حلقة من حلقات انقلابه على الدولة. والاستراتيجية هذه تستند الى عنصرين، أولهما مؤسسي و«كمالي» نسبة الى مصطفى كمال أتاتورك وثانيهما «أردوغاني» وشبه عسكري غير مؤسسي .
رداً على الاتهامات الأوروبية، قال أردوغان «ليقولوا عني ديكتاتوراً، لا يهمني ذلك ولا يعنيني رأيهم».. يا فاقد الحياء!
خذوا علماً بأن ذلك «السلطان» الذي ما زال يرقص بين جثث شعبنا في العراق وسورية، وأيضاً بين جثث الأتراك رقصة المولوية، لا يزال يسمع في رأسه وقع أقدام السلاطين…
|