أرعبني الفراغ الذي رأيته في معرض بيروت للكتاب قبل يومين، خلال حضوري حفل توقيع رواية «مابعد الخطيئة الأولى» 10/12/2018 للروائي الصديق، وليد السابق، وتساءلتُ بيني وبين نفسي.. أين هم رواد المعرض من الطلبة والجامعيين والشباب والأطفال؟ وهل أصبحت وسائل التواصل واتساب ـ مسنجرـ فيسبوك بديلاً ثقافياً فعلياً للكتاب؟
أدرك، أنه يستحيل أن يستغني عالم أو مثقف أو أكاديمي عن قراءة الكتاب. حتماً إن كلاً من هؤلاء يقرأ بحسب تخصصه وميوله وولعه بالقراءة، فما أن تدخل منزله حتى ترى مكتبة تحوي كتباً عديدة، وليس هذا فحسب، بل قراءة الكتب تمثل الهوية الثقافية لكل بلد، فهل تغيّر دور الكاتب والمفكر في الوسط الاجتماعيّ والثقافيّ عمّا كان عليه في عصر ما قبل الإنترنت؟ وهل اكتسب الكُتّاب والمفكّرون قيمتهم تاريخيّاً بفضل دورهم التنويري في مجتمعهم وأمتهم أو لأنَ المعلومات كانت صناعة وفكراً وأدوات وامتيازاً و«احتكاراً» خاصاً لهؤلاء دون سواهم؟
هموم الكتاب العربي بدءاً من أشكال تأليفه الى أشكال نشره وأشكال قارئه هي فروع في نهر أشكال الثقافة العربية التي يبدو أنها تواجه أزمتها الأخطر في الخط البياني الأكبر المنحدر لأزمتنا الكبرى التي تلقي بثقلها الكبير على ظهورنا وتسقينا ويلات ما نعانيه في واقعنا الراهن.
هي الهموم ذاتها على لسان المثقف العربي الذي يتحدّث اليوم بنبرة تحمل غصة كبيرة حينما تواجهه بأسئلة الواقع، ومنها أسئلة واقع الكتاب العربي الحاضر بوعيه وفكره في حوادث يومنا الحاضر.
ليست هناك بالتأكيد حقيقة تقول إن ليس هناك قارئ لا يقرأ، ولا يقرأ الجميع بسطحية كبيرة، لكن النسبة الكبيرة التي ترسم ظلالها على الواقع هي التي تؤثر من هنا، حينما تقيس المسألة برمّتها يغدو من حقك أن تقول إنه لا يوجد قارئ جيد ومهم يفرض رغباته على السوق، فيجبر المؤلف على التأليف ويجبر الناشر على النشر.
هموم الكتاب العربي هي نفسها، أزمة كبيرة ثلاثية المحور أو رباعية أو خماسية، أو عدّ ما شئت من المصائب التي نعرفها. وإذا كانت أزمتنا هذه الأيام أزمة فكر سياسي عربي غائب عن التداول، فإن كتاب الأزمة غائب عن الحضور، وبالتالي فإننا لا نتعاطى مع أزمتنا، بل نتفرّج عليها وعلى ما تفعله بنا.
يقول غاستون باشلار: «لا شك في أن الجنة مكتبة كبرى»، ولا أظنّ شخصياً أن الجحيم الحقيقي هو شعب لا يقرأ أما الجحيم الأكبر فهو قتل الفكر في الدماغ أصلاً في زمن الحقد الأعمى على العقل النقدي وحدائق العقل وبساتين ثقافة الحياة وما أبلغ قول جون ملتون حول اغتيالات العقل: «إن من يقتل إنساناً واحداً إنما هو يقتل كائناً عاقلاً خلقه الرب على صورته، لكن الذي يتلف كتاباً فكما لو أنه أتلف ملكة العقل ذاتها».
وقال سُـقراط: «إذا أردتُ أن أحكُـم على إنسان، فإني أسأله كَـمْ كتاباً قرأت؟»، وقال المفكر الروسي سولزر: «القراءة فنّ الحياة الرائع». بهذا المعنى، تبقى للكتب الجديرة بالاحترام «أقدارها» وفق عبارة تيرانس أما إذا تحوّلت الجولة في معرض الكتاب إلى جولة في المقابر فإني أنتصح بنصيحة إميل سيوران حين كتب «إن جَولة في المقابر لأبلغ درس في الحكمة»!
أرجو النجاح لمعرض الكتاب اللبناني، لأن في فشله مراكمة لمتواليات من الفشل التربوي والقومي في جميع مستويات الحياة. من الضروري أن نفتح على أنفسنا «بوبلي» حقيقياً وليس «بوبلي» أصفر. وكلمة «بوبلي» تعني الكتاب باليونانية. هكذا يبدو لي الأمر. فليعد لبنان مرة أخرى في هذه المناسبة الى نفسه ليرى حقيقة «بُوبلْي» الجدير بتاريخه الحضاري في حلِّه وترحاله الشَّاق والشائق.
ماذا ننتظر من تنظيم معرض الكتاب في بلد لا يقرأ فيه الشعب الكتب ولا حتى الجريدة الورقية بل يفرّ من المطالعة ومن كل ما يقرب منها؟
ماذا ننتظر من تنظيم معرض الكتاب لجيل جديد عازف عن القراءة وهارب إلى تطوّر تكنولوجيا المعلومات من إنترنت ومواقع تواصل، إضافة إلى الفضائيات، إذ يجد في ضغطة واحدة وفي هنيهة زمنية آلاف الكتب والمراجع التي يسعه تحميلها والاطلاع عليها من دون عناء أو كلفة مادية أو تنقل. هذا كله أضعف الرغبة في المطالعة لدى جيل اليوم الذي يرى أن القراءة لم تعد مجدية بعدما كانت أجيال السبعينيات من القرن الفائت وما بعدها تلتهم الكتاب التهاماً؟
ماذا ننتظر من تنظيم معرض الكتاب في مرحلة مفصلية من تاريخ الهلال السوري الخصيب، ولبنان في قلب هذا الهلال. فالانتقال من مرحلة إلى مرحلة فتح جميع الأبواب التي كانت موصدة ليكون الهجوم بلا قيد ولا شرط ولا ضوابط قانونية أو فكرية وبتدفق كتابي مهول والسماح لكل من شاء من الناشرين بإدخال بضاعته، وفيها ما يبطن أو يعلن ثقافة دخيلة من فكر الوهابية والسلفية وما يحمله من ثقافة الموت والتقتيل والترهيب وبالتالي زرع ألغام وأفكار فاسدة تهدف أساساً إلى تدمير عقول الشباب والجيل والمجتمع؟
ماذا ننتظر من تنظيم معرض الكتاب في ظروف اقتصادية متدنية ومقدرة شرائية متدهورة لمواطن لا يحبّ الكتاب، بل هو آخر اهتماماته؟
ماذا ننتظر من تنظيم معرض الكتاب والأطراف المتدخلة في الأمر من دور نشر ودور طباعة ودور توزيع وغيرها تتخبّط في غدير من الإشكاليات المالية والتوريدية والإجرائية وارتفاع أسعار المواد الأولية؟
في ظل هذه الأحوال جميعاً، إقامة معرض كهذا تفتح أبواب الأمل نحو العودة إلى الكتاب، ما يصبّ في شكل مؤكد في تطوّر البلاد ورقيها ولم لا يكون المعرض محاولة ضخ دماء جديدة في روح الثقافة في لبنان وجسده، بعدما راهنت الفتن والإرهاب والعصبيات على موته. يقيناً، لم لا يجمع المثقفون على ما للكتاب من أهمية في كل مكان وهو الذي غيـّر العالم نحو الأحسن؟
أليس هذا واقعنا اليوم؟
|