لم تترسّخ بعدُ في دول الهلال السوري الخصيب فكرة المواطنة على الصعيدين النظري والعملي في ضوء الصراعات الدائرة، والتي تبدو في جوهرها صراعات من أجل عدم قبول المختلف، وتمزيق عرى التفاعل المشترك معه. وما يجري في «هلالنا» الآن من حديث مثلاً عن الفدراليات الطائفية والعرقية، وقبول بعض الجماعات، تحت دعوى الواقعية، بهذه الفدراليات والحكم الذاتي، يأتي بسبب المشكلات الطائفية والإثنية التي أصبحت عميقة منذ الاحتلال الأميركي لبغداد في العام 2003، والعدوان القائم على الدولة السورية منذ العام 2011، من غير أن نتجاهل حقيقة أن الجذر الدافع لهذه الدعوى هو عدم القبول بالمختلف، فوراء ما يجري هو هماً وطنياً عميقاً يتلخّص بسؤال الهوية، وسؤال الهويّة قديم في سورية، لكنه لا يزال معلقًا في سماء اللا جواب!
إن اعتقاد الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية بأن انفصالها عن بعضها بعضاً، سيحل المشكلات التي تعاني منها هو وهم هائل، فضلاً عن كون الانفصال سيحكم علينا جميعاً، بمصير الضعف والانسحاب من ساحة الفعل التاريخي في المنطقة الى أبد الآبدين.
إن «بارانويا» الاختلاف مع الآخر، أو الارتياب من المختلف، ستستمر بإفراز هرموناتها السامة في أرواحنا وعقولنا، وستبحث الجماعات داخل «هوياتها» الفرعية عن المختلفين لتصفيتهم وطردهم، ثم يبحث المتشابهون لاحقاً عن مختلف آخر وهكذا.
ولأن البشرية في واقع الحال تتقدّم بقدر ما تستوعب الاختلاف والمختلف وتدمجه في حركتها العامة. فإن هذا هو الدرس الذي على مجتمعنا في الهلال السوري الخصيب أن يفهمه بشكل جيد. ولكن ذلك لا يمكن أن يتم من دون تحقيق فكرة المواطنة التي تحتاج إلى جهد كبير على صعيد الدولة والحكم السلطة والمعارضة على حد سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيها فكرة الدولة المدنية وسياقاتها!
ويرتكز مفهوم المواطنة على بعدين:
الأول، قانوني يتأسس على مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات دون تمييز بسبب اللون والجنس والعرق والدين وتشكل العدالة بمعاييرها الدولية أساس إدارة المؤسسات.
والثاني، سياسي، ويختصر بالحق في المشاركة في تقرير شؤون المجتمع عن طريق الانتخابات وممارسة الحريات في ظل مناخ اجتماعي مشجّع وداعم للمشاركة مع الآخر أفراداً ومؤسسات، وتشكل الحقوق والواجبات آليات عمل المواطن والمشاركة في أبعادها سلوك إيجابي واقعي شامل متكامل يسعى لبلورة هدف ووسيلة ويؤكد الدور الفاعل للمواطن في ادارة مفاصل الدولة عبر الدخول السليم في خضم العملية الديمقراطية التي يجب أن ترتكز على الهوية الوطنية كهوية رئيسة.
إن أكبر تحدٍّ يجابه «هلالنا» هي محاولة الجماعات صناعة مزيد من الهويات الفرعية التي تُقسِم الشعب بمسمّيات جديدة وعناوين هي الأخرى تتيح لصُناعها تبوّء مقعد هنا أو هناك..
ورغم ذلك فإن صناعة الهوية الفرعية في وطننا ستبقى تواجه ديناميات مضادة أو كابحة ربما أقوى من تلك التي واجهتها وما تزال تواجهها. فالهوية لا يمكن أن تؤخذ كوصفة جاهزة، أو أنه يمكن لأي مجموعة اجتماعية أن تصنع ما بدا لها من هوية، خصوصاً أن سؤال الهويّة قديم عند الجماعات، لكنه لا يزال معلقًا في سماء اللا جواب.
أزمتنا الكبرى، ليست في النص، ولا في التفسير.. هي في التداعي المعرفي لمفهوم الوطن والمواطنية، عند الرعاة وعند الرعايا. ولذلك فإن الرهان السوري الآن بين خيارين.. إمّا موت التاريخ أو موت المكان!
ولكن هل سيفهم البعض هذا الموت المفاهيمي؟ أم سيواصلون لعبة الركض الى خنادق الجمر!؟
|