في عصر العولمة، والثورة المعلوماتية، حيث تطوّرت وسائل الاتصال إلى حدّ مذهل، وتحققت ثورات هائلة في مجالات العلوم المختلفة، والإعلام الجماهيري، ازدادت، ويا للمفارقة، جُزر التعصّب وتنوّعت. ومعها تصدّعت منظومات القيم ذات المحتوى القومي والإنساني الغني، لتستبدل بمنظومات تبدو أكثر تجريداً وجفافاً، تُكرِّس، عند كثر من الأفراد الميل إلى ممارسة العنف الديني.. وها هو التاريخ الذي فتح فمه شاغراً، تعود إلينا أحداثه وهي مسكونة برعب التأويل والكراهية.
نعيش اليوم في عالم يتعرّض لانشطارات متسلسلة، ويؤشر تداعي قيم الحداثة والمدنية والتنوير والإنسانية القائمة على فكرة المواطنة، والحريات العامة، ومبادئ حقوق الإنسان، وسلطة العقل.. وهو عالم تتذرذر فيه الأفكار، وتتعدّد الخنادق المتقاتلة، ويشتدّ فيه الصراع على الله حتى أن هذا الصراع يذكّرنا بما قاله النهضوي أنطون سعاده في أربعينيات القرن العشرين إن «اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض».
الأسئلة هنا: كيف تمكن مقاربة حالة التنوير بعد كل ما جرى ويجري؟ وهل تمكن استعادة الوظيفة الثقافية لتكون ساندة للعقل التنويري في الهلال السوري الخصيب؟
بقدر ما تكون هذه الأسئلة ضرورية، فإنها تستدعي معها الوعي بخطورة معرفة المتغيّرات، لا سيما مع صعود الجماعات الطائفية والمذهبية والإثنية الانعزالية، ومع تحوّل الصراع السياسي إلى صراع هويات صغرى وخنادق.
لا شك في أن التطرف يثلم مفهوم «المواطنة»، التي لا تتحقق إلا بفعل قبول المشاركة مع الآخر في حب الوطن والدفاع عنه ورفض كل مظاهر الطائفية والمذهبية والإثنية أو العشائرية والقبليّة، وكل مَن يعمل على محاربة الفكر التنويري والعقلاني ويحارب أي تغيير تفرضه ضرورات الحياة، كوجود المرأة في الحياة العامة ومشاركتها الفاعلة في التغيير الإصلاحي.
مجتمعنا يذهب ضحية أمام ثلاثية «الإسلام السياسي».. السلطة والمال، والسلاح للذبح الحلال..
لقد أرادت قوى الإرهاب الإقليمي والعالمي أن تُوقف تصاعد مدّ الوعي الفكري في مجتمعنا، وبمعنى آخر هناك محاولة لـ «دعشنة» العقل وتشظيه وسلخه من هويته ومن ثم صلبه على رماح التخلف والجهل.. إن رمزية فصل الرأس عن الجسد هنا واضحة وجلية في الخطاب الدموي للإرهاب الاخواني، إنه فصل رأس الحقيقة عن قاعدتها العقلية ومسخ هوية الروح أو روح الهوية، ونشر حالة الظلام أمام جذوة التنوير التي كانت تعمل لتوسّع رقعة جغرافيتها لدى المثقف.
وهكذا فقد «الإسلام السياسي» حياءه، منذ تخلّى عن «إسلامه».. ولنا أن نتخيل مقدار الحياء الذي فُقد!
ولكن السؤال المحرك للوعي الثقافي الجمعي، يبقى: مَن يؤثر في مَن، «الإسلام السياسي» يؤثر في التنوير أم التنوير يؤثر في «الإسلام السياسي»..؟
لا بدّ لنا، ونحن نخوض غمار الصراع الوجودي مع قوى الظلام والجهل والتخلف أن نراجع أنفسنا قليلاً، وأن نعيد السؤال تلو السؤال لنصل إلى تعريفات جديدة للراهن العقلي في الهلال السوري الخصيب، إلى أين ومن أين؟ وهل من ضفاف آمنة خلف كل هذا العناء؟ وهل نحن في قعر الإسلام أم في قعر الوثنية؟
لطالما كان الهلال السوري الخصيب هلال التنوير الأول وصاحب الريادة في خوض غمار التجارب الإنسانية أدباً وفكراً وثقافة وفناً، وحين يتعرّض التنوير هنا للإبادة، فهذا يعني أن هويتنا الثقافية تحتضر أمام تسارع قرع طبول الذبح الحلال الهمجي.. إنها معركة وجود ومعركة عقول ومعركة ثقافة.
عشيّة تسلّمه جائزة نوبل، قال الكاتب الياباني الفذ ياسوناري كاواباتا «لكي نقهر الكآبة علينا أن نقهر التاريخ».
|